إبراهيم محمود
ورد في كتاب الجاحظ “كتاب الحيوان” وفي نسخة غير محققة، وفي هامش إحدى الصفحات المتعلّقة بـ” الحيّة “، ربما متأثراً بأرسطو، أن هناك جنساً من الحيّات، لا نظير له في العالم ككل، يصاب بمرض غريب هو ” مرض التضخم ” يضاعف فيه الشراهة والتهام أي حيوان يصل إليه، وحين يكف عن الالتهام المناسب لحجمه يهرش جسمه، بحركات أشبه بالهستيريا، ويتضاءل حجمه هذا إلى درجة التلاشي عن الأنظار، وقد أكد على هذا الخبر أعظم كاتب أرجنتيني مهتم بأخبار كهذه، وهو بورخيس في إحدى حكاياته الخيالية، وبشكل مختصر جداً.
وما تناهى إلى مسمعي، هو المرتبط بهذه الحيّة التي ألحّت علي بطبعها الغريب، وشكلها الغريب، وحجمها الغريب، وهيئتها الهائلة الضخامة والمريعة البادية الغرابة، حيَّة ربما لم أسمع بمثلها في حدود معلوماتي .
حية كانت صغيرة جداً، بحجم الإصبع، وكبرت متجاوزة قانون نمو أي حيوان آخر، من جملة الحيوانات المعروفة. ولحسن حظها، وبما يتناسب وطبيعتها، أنها وجِدت في بيئة جغرافية وفّرت لها الكثير مما كانت تحتاجه: المناخ المناسب لجسمها، والماء والطعام الوفير من خلال الفرائس المتكاثرة في محيطها أو الجوار.
حيّة لم تكن تُرى إلا عن قرب، وكبُرت مع الزمن، وفي زمن قياسي، أخافت الحيوانات المنتشرة في منطقتها. حيث دخلت، وفي زمن قصير جداً، جحوراً ذات مقاييس متفاوتة الأحجام، من الأصغر إلى الأكبر. كان انسيابها وفحيحها ضامنين لها لأن يخرج أي حيوان في جحره المجاور لها، طالباً النجاة، ما أن يحس بدبيب حركتها الجسمية، جرّاء ثقلها الجسمي، ولتخلف الجحور وراءها، وتبدأ بالأوكار، إلى درجة إن حيوانات ضارية بالذات لم يكن في مقدورها أن تنازلها، وهي ترى جسماً مخروطياً يسد الأفق، ويلقي بظلاله على مساحة واسعة، إشارة إلى قوته، والحيوانات لا تخفي تقديرها الغريزي في الحالة هذه لمثل هذا الحجم، وهذا الشكل.
كانت تلتهم حتى النبات: أعشاباً، أوراق أشجار، قصْف الأغصان الناعمة، إلى جانب التهام حيوانات كبيرة لا تتردد في عصرها وهصْرها تحت وطأة جسمها، ثم تقبِل على التهامه، دون ترْك أي أثر له.
لازمها الخراب وإتلاف كل مكان وصلت إليه، فالأشجار تكسرت وفقدت أنفاسها، وقد تم اقتلاعها، وينابيع المياه العذبة غارت، كما لو أنها لم تكن يوماً ينابيع ماء. باختصار، أنى كانت تزحف الحية هذه، كانت تنقل إليه الخراب وزوال مختلف مظاهر الحياة .
الحيوانات هامت على وجوهها، وهي بغريزتها كانت تحس أي هلاك ينتظرها فيما لو تباطأت، لا فرق بين حيوان صغير أو كبير، بين زاحف أو داب على أربع، بين آكل لحم، أو آكل نبات، فالكل ذات مصير واحد، وفي بعض الحالات كانت حيوانات منحوسة الحظ، وهي لا تتنبه إلى خطورة الجسم الزاحف، لتنتهي سريعاً داخلها.
مع الزمن، ازدادت حاجة الحية إلى الطعام، وقد بلغت من الضخامة والشراهة وإتلاف كل أثر للحياة، درجة غير مسبوقة، وهي مرئية من على مسافة بعيدة جداً، وهي إشارة لأن تتجنب الحيوانات لقاءها، حيث لم يكن النبات وحده بضامن لها لأن تستمر في الحياة، بعيداً عن حرارة لحم حيوان ما.
أحسَّت الحية هذه بِخوَر ينتابها، بتباطؤ حركتها، وعدم قدرتها كالسابق في مطاردة فريسة لها، أو حتى في قصف شجرة والتهامها، وقد تناقص اللحم الذي اعتادته كثيراً.
هذه الحاجة المتنامية إلى الطعام المطلوب، كانت تزيد في توترها، وتخبطها وهي تزحف على جسمها، فبدأت تصطدم بالصخور الضخمة، وتعترض سيلها حفر واسعة لم تنتبه إليها، مع تناقص كمية الطعام في معدتها.
بدتْ أول حركة ردّ فعل لها على ما آل إليه أمرها، وهي تحاول غرز نابها في جسمها، ثم واصلت الغرز في مختلف أطراف جسمها، وفي كل مرة، كانت تشعر بالمزيد من الضعف وتناقص قوتها، وكذلك تضاؤل حجمها.
كان الذي يظهر للعيان هو جلدها المتكور والذي تجره وراءها، وقد ازدادت ضآلة حجم في الداخل، وهي تثير الغبار في دائرة واسعة، وفي كل محاولة كانت شهيتها للطعام تضعف، إلى درجة أنها تخلت عن كل شيء، وهي تركّز على جسمها نازلة فيه عضاً وغرز ناب وتمزيق وسفك دمائها، وحتى التهاماً له.
الغريب، وكما ورد في إشارة عابرة من الجاحظ هذا، أنها لم تدم كثيراً، في ميلها المضطرد إلى التضاؤل، ولتغيب عن الأنظار كلياً، كما لو أنه لم يكن لها من أثر، إلا ما شهدته الأمكنة التي وجِدت فيه، العلامة الوحيدة التي اجتذبت علماء الأحياء وشذاذ الآفاق وذوي الفضول لمعرفة حقيقة حية كهذه، وحقيقتها، واستغراب من كثيرين أمّوا المكان واستطلعوا الآثار المرئية، غير مصدّقين أنها آثار حيوان بالفعل.