إبراهيم محمود
التقيتُ صديقي في ممشى حديقة مدينتنا. فوجئتُ بلون سحنته الليموني.كان شاحب الوجه للغاية، كما لو أن دمه مسحوب منه كلياً. دون أن أسلّم إليه ، هرعت إليه معاتباً إياه بشده:
-كيف لم أعلَم بمرضك هذا؟ كان عليك الاتصال بي يا رجل !
ابتسم. جاءت ابتسامته شاهدة على مدى تأثره بالمرض، كما تبيَّن لي، ليقول:
-إنه ليس مرضاً !
زاد في فضولي هذه المرّة، وقبل أن أبادره بالسؤال التالي والمعلوم، سبقني بقوله:
-إنه الدعاء الكلبيّ
قالها، وبان عليه الشحوب الذي يعرَف به مَن أضناه مرض السل .
وفي الحال أمسك بيدي، فسايرته، ليمضي بي صوب أقرب مقعد للممشى في مستهل نهار أثقل على النفْس.
سبقني سؤالي وعلى عجَل، وبلسان تلجلج:
-دُ..دعا..دعاء كلـ..كلبي..الدعاء..الكلبي؟ أهذا مرض جديد، ولم أسمع به ؟
-اصغ إلي جيداً، سأقول ما عشته في هذا الدعاء الكلبي إلى آخره، ولا تقاطعني كعادتك .
قالها سريعاً، كأنه يريد التحرر من سر ما يؤلمه من الداخل. أشرتُ له بحركة من يدي دلالة، كما يشاء.
فباشر الكلام وهو يحدّق في نقطة لا أدري ما تكون أمامه وكان ثمة شجرة زينة صغيرة بقامة رجل هي المرئية أمامي، ربما كونه حسَبها، فيما لو استرسل في الكلام، وهو ينظر إلي، لقاطعته، أو أوقفته وأنا أستفسر منه عن جانب ما في كلامه، أو يتوقف عن الكلام هذا، من خلال انطباعي المباشر وجهياً في لحظة ما :
-أنت تعرف كلبي طبعاً، و…
فتحت فمي محاولاً تأكيد قوله، سوى تابع دون انتظار مني لما يمكنني قوله .
-وتعرف مدى اهتمامي به، تعرف لكَم ألاعبه. وفي الآونة الأخيرة، ازدادت وتيرة عوائه، فكنت أقول، ومن خلال اهتمامي به وبغيره من طباع الكلاب، أن هناك حالات كلبية خاصة. سوى أن كلبي هذا، لاحقاً، بدأت أسمع صوتاً صادراً منه، يشبه الأنين، وهو أسفل بيت الدرج، بينما كنت أعلاه، إلى درجة أنني استشرت طبيباً بيطرياً خاصاً، فقدّم لي وصفة دوائية، سوى أنه لم يتوقف عن إصدار صوت لا يخفي أنيناً وما يشبه النحيب المتقطع، وخاصة حين يحل الظلام، وتتلألأ النجوم في السماء، وتصبح الجلسة شاعرية، كما لو أن النجوم تومض متهيأة للنزول إليك لمسامرتك، لكن صوت كلبي هذا بدأ يقطع علي نشوتي الليلي مع الطبيعة ونجوم السماء.
لم أشأ مقاطعته، تجاوباً مع ما أراده مني، سوى أنني كنت أستعجل معرفة سبب شحوبه ذلك، وكما قدَّر لحوحيتي، فتابع قائلاً:
-لا أخفي أنني تألمت كثيراً لهذه الحالة، وذات ليلة رفعت يدي صوت السماء المتخمة بالخشوع والهيبة، وسمعت صوتي وأنا أتوسل دعاء:
-يا رب أتوسل إليك، أن تمنحني القدرة على فهم هذا الكلب الذي يئن أسفل الدرج، هو دعائي الحار المرفوع إليك ..
لا أدري ماالذي اعتراني بعد ذلك، كما لو أن يداً مسحت على كامل جسمي، من هامة رأسي إلى أخمص قدمي، فإذا بقوة غير مسبوقة تجعلني في هيئة أخرى، أي لأسمع ما يعنيه أنين الكلب، صوته المنجرح، نحيبه، لا بل وشكواه ..
-شكوى الكلب ؟
لم أتمالك نفسي، حين واجهته بهذا السؤال، وبي فضول واستغراب.
كأنه لم يسمع صوتي، وهو ينظر في نقطة ما أمامه، ليتابع ما استهل به كلامه :
-لم يكن الكلب ينبح أو ينتحب أو يئن، كانت تلك شكواه، وكنت أعتقدها أنيناً .
لم أصدّق ما يقوله الكلب. أقول ” ما يقوله الكلب ” وكلّي استغراب وعجب عجاب، لأنه في كل أنين، كان يقول شيئاً ليس كسالفه، كان يشكو ربه، متوجعاً، متسائلاً عن السبب الذي جعل الخالق، خالقه ” حيواناً مثله، في مثل هذه الدرجة من الإهانة، والدونية كذلك. لماذا لا يكثر سماع من يقول ” ما أشبه فلان بالكلب “، أو ” إنه يذل نفسه كالكلب إزاء غيره “، كان يبدي احتجاجاً على ما وصلت إليه حالته، وفي مدينة، ثمة القليل القليل ممن لا يشيرون إلى الكلب، أو يسمّونه، مؤكّدين احتقارهم له، وحتى نفورهم منه. وهل للكلب دخل فيما يقومون به ؟
وزادت نبرة صوته تشنجاً وحدة:
-قد لا تصدّق، ولك الحق في ذلك، سوى أنني صدقت ما قاله كلبي هذا في شكواه. لقد سمّى أشخاصاً بذكر أوصافهم، وحالاتهم، وأمكنتهم وعناوينهم، وأعمالهم ووظائفهم، ومناسبة كل حالة وموقف. ذلك مريع أليس كذلك؟ كيف لكلب أن يكون لديه كل هذه المعلومات وبالتفصيل.
لم يُشر إلى الأسماء، لقد اكتفى بالأوصاف والمعلومات المرفقة التي تسهّل على أي عارف بالمدينة هذه، الوصول إلى الشخص وتحديده باسمه، وهم يستعيرون من الكلب حركاته وتذلله، ولكنها حركاتهم وحقيقة أمرهم، وليس للكلب دخل في ذلك. إذ لدي قائمة معلومة بأسماء هؤلاء الذين يعيشون هذا الخضوع والخنوع والتزلف. أضف إلى ذلك، أنه أشار، وعبر مواصفات لا تخطئها العين، إلى من به نسبة معينة، من هذه الحركات والتصرفات والتذللات في أشخاص لم أكن أتوقع البتة أنهم هكذا، وما صدمني حين تبيَّن لي أنني أنا نفسي عُرِفتُ ببعض من هذه الحالات ولو بنسبة معلومة، وقد تناهى إلي أنين القلب المتوجع، ومحتواه: حتى هذا الذي أعلاي، هذا الذي يعتني بي، فيه نسبة من هذه الحركات والتصرفات.
ثم نظر إلي وهو يقول بلغة المتسائل :
-أعرفتَ سبب شحوبي الآن ؟
انعقد لساني، فصاحبي ليس بالرجل العادي الذي يمكن اتهامه بالكذب أو تلفيق أمر ما، إنما كيف لي أن أصدق ما يقوله، إنما أيضاً، كيف أن أكذب ما أبلغني عن مواصفات الكثيرين ممن أعرفهم في مدينتنا هذه، وهم في تذللاتهم وخنوعهم؟
ولم يسمح لي، بأن أمضي سارحاً في الخيال المقض للمضجع، حين قذف في وجهي عبارة سائطة:
-حتى أنت نفسك، فيك نسبة من هذه الصفة التي ألمح إليها، ومن خلال مواصفاته .
-أ..أأ…أ..نا ..أنا؟
شعرت كما لو أن ضغط دمي نزل إلى الصفر، وأنا أردد ما قلته، ودون أن أنظر إليه هذه المرة ..
-هو ما سمعته، وأنت حر في أن تقبل أو ترفض، أما أنا، فمن البارحة أفكر في الأمكنة والأزمنة التي عشت الحالات تلك .
تركته في مكانه دون أن أستأذن، كما لو أنني أكلّم نفسي مضطرباً، محاولاً الاستنجاد بذاكرتي الزمانية والمكانية الملوَّنة، للوقوف على حقيقة ما سمعته، وقد نسيت صديقي وكلبه، وأنا أفكر في الحالة الكلبية التي عشتها، وكيف، ومتى، ولماذا؟