الحصان المجنَّح ذو الرأس التنّين

إبراهيم محمود
لطالما تنكّرتْ مدينتنا لوجود فقراء فيها، حتى لا يُساء إلى سمعتها في الخارج، كما اعتادت على قول ذلك مراراً، والتصريح به في مناسبات شتى، وتكذيب لا بل ومعاقبة من يقول خلاف ذلك، غير أن موت شاعر عاش في فقر مدقَع معظم حياته، غيّر وجهة نظرها بزاوية كاملة رغْم القيّمين عليها، فحين مات لم يؤتَ على ذكره حتى جهة الإعلام العادي فيها، وقد شارك في تشييع جنازته أخوه الوحيد، المعدَم مثله، وزوجته الحسناء وطفلها الصغير، وجار كان صديق زوجها الوحيد بهمومه، إلى جانب كلب ألِف زوجها وقطة صغيرة كانت تلاعب طفل الشاعر الصغير .
ما سبَّب تغييراً في الموقف، هو أن وسائل إعلام دول لها صوتها، مع كتّابها، ركّزت في مختلف منابرها الإعلامية والثقافية على تأسفها لرحيل شاعر نابغة، كان يراسل صحفها، وبرَع في كتابة الشعر، وعبَّرت عن سخطها تجاه مدينة، لا تولي أي اهتمام بمبدعيها، وهو ما تنبّه إليه من هم معنيون بمسائل كهذه، ولم يعد في وسْع أولي أمر المدينة تجاهل الحقيقة، والتنكّر لما جرى.
لم يكن هناك مَن هو أشد كفاءة في كتابة القصائد عن فقراء العالم ومدينته، وظلّامهم والمستبدين بهم منه، بالطريقة التي تدفع بكل من يقرأها أو يصغي إليها على أنها فريدة جنسها وعصرها.
فتدارس مجلسها ما يمكنها القيام به، تجاه هذا الشاعر الذي عرّى حقيقتها المعتَّمة بموته، فشكّلوا وفداً مضى إلى بيته المتداعي والذي يقع في حي شعبي مهجور محروم من الخدمات المطلوبة، ليقدموا تعازيهم لزوجة الشاعر، حيث لم يجدوا في بيته العاري إلا حصيرة بدا عليها التآكل واسنفجتان بالكاد ترتفعان عن الأرض، وهم يتنافسون فيما بينهم بشكل لافت، مظهِرين حزنَهم عليه، خصوصاً، وقد ألمحوا وراء مظهرها العادي جمالاً غير معهود بالنسبة إليهم .
وعلى وجه السرعة تنادوا من خلال المجلس، إلى عقد اجتماع خاص، تمخَّض عن قرار جماعي، برصْد ميزانية استثنائية، لنصْب تمثال لشاعر المدينة الأكبر في موقع حيوي، ونشروا محتويات القرار في منابرهم الإعلامية وغيرها، مترجمين إياه إلى لغات مختلفة، والمقصد هو محاولة إسكات من حاولوا إهانتهم في شخص شاعرهم، وأنهم تجاهلوا عبقريته الفذة .
ثم كلّفوا من هو معروف من قبَلهم، لنصب تمثال بمواصفات، تظهر مدى الاهتمام بالأمر، إنما دون أن يخْفوا ما دار بينهم والنحات، بصدد الفاتورة، والمواد اللازمة، وكيفية التصرَّف.
وفي هذه الفترة لم يكفّوا عن زيارتهم لبيت أرملة الشاعر وطفلها الصغير، وتحت آباطهم أكياس من شتى صنوف الفواكه، وأطايب الطعام، ونظراتهم نهمة إلى ما هو أبعد من المرئي في جسمها.
جاء الوقت الموعود لتثبيت التمثال في مكانه المحدَّد، صحبة وسائل إعلام مختلفة .
واجهتهم مشكلة أكثر من كونها فنية! كون المشرفين ومن لهم صلة بالأمر فشلوا في وضع التمثال في موقعه، إذ إنه لم يكن يثبت، وهو ما أثار ذهولهم، لا بل وأثار حفيظتهم ومخاوفهم، سوى أنهم استغرقوا في العمل، وملؤهم تحدّ، وقد أمكنهم تثبيته بعد الكثير من المشاق، بينما بانت رقبة الشاعر مقوَّسة، وصدره منتفخاً، ولم يكن من تساو ٍ بين رجْليه في الضخامة.
كان الذي يهمُّ مجلس مدينتنا هو نصْب التمثال، وهو ما تم، وهذا ما أقصى ما فكَّروا فيه .
لم تتوقف أرملة الشاعر عن زيارته كل مساء، هي وطفلها، وفي بعض الأحيان كانت تنسى أنها جاءت إلى زيارته، وهي تبكيه وترثيه بأرق الكلمات من روحها المنجرحة، فتتأخر في العودة .
يقع التمثل ضمن ساحة شبه مسوَّرة، تفضي إلى الداخل بوابة وحيدة وضخمة. ولم تكن الأرملة المسكينة تعلَم أن هناك من كان يرصدها، وجعلها هدفاً له. كان لسان حالهم هو: لا ينبغي أن يذهب تعبنا سدى، ولا يظنن أحد في هذه المدينة، أننا بذلنا كل هذه الجهود، ووضعنا هذه التكاليف، كرمى من سمّي شاعراً، لا نعلم بحقيقة أمره شيئاً، وكيف صار شاعراً بالطريقة هذه .
وهذا ما تم لهم، حين اُستُغِلَّ مكوث الأرملة المرصودة هي وطفلها الصغير وهي تستغرق في أحزانها ورثائها لزوجها الذي قال فيها أعذب الأشعار، كان لها شهرة ملموسة خارجاً.
لقد حانت فرصتهم ليكشفوا لها عن حقيقتهم، في ظلام غطى التمثال والجوار، صحبة صمت شبه مطبق. لينقضوا عليها، ولعابهم يسيل في انتظار لحظة التمكن منها.
لكَم قاومت الأرملة المفجوعة بزوجها الوفي، ولم يكن في مقدور طفلها الصغير أن يبكي، لأن هناك من وضع يده على فمه، وهو يتابع ما يجري أمامه بالنسبة لـ” الفريسة ” المشتهاة .
لا أحد يعلم ماذا جرى على حين غرَّة، وكيف جرى في لحظة مباغتة، حين انهالت أحجار على رؤوس المهاجمين، وظهورهم وصدورهم وأكتافهم، أحجار تأتيهم حيثما التفتوا، ولم يعد يفكّرون في ” فريستهم ” وإنما في طريقة للهرب والخلاص، وقد داخلهم رعب غير مسبوق، وهم ذهول مما يجري، بينما كانت الأرملة المسكينة تعيش صدمة الواقعة، وتنشغل بنفسها، دون أن تصيبها حجرة واحدة. ووسط خوف مما جرى وذهول وفرح داخلي بالنتيجة، وقد سلِمت من الأيادي الآثمة، وكلها يقين، أن هناك من هرع لنجدتها، لتسرع أقصى ما فيها إلى بيتها وهي ممسكة بيد طفلها الذي أخرسته صدمة الموقف، وهي تضمه إلى صدره  .
لا أحد علِم بما جرى، فقط من كانوا يريدون نيل وطرهم منها، والأرملة المسكينة فقط، أما عن الطفل، فليس في مقدوره الحديث عما جرى أو وصفه، كان مجسّد للرعب والعجز عن المقاومة .
مع حلول الصباح، رؤيَ ما ليس في حسبان أحد، إذ ظهر محل تمثال الشاعر تمثال آخر مغاير له كلياً في حجمه ومحتوياته، حيث فغر الناظرون إليهم أفواههم شبه مصعوقين بالرؤية. لقد كان هناك محل تمثال الشاعر، حصان عملاق بلون الليل، يقف على قائمتيه الخلفيتين، حيث تعلو قائمتاه الأماميتان السورَ، وهما راسمتان زاوية قائمة، وينتهي جسم الحصان برأس تنين عملاق يُرى من أقصى المدينة إلى أقصى المدينة، برقبة طويلة جداً، وشدقان مفتوحان هائلا الفتحة، وعينان بارزتان مفتوحتان على وسعهما بلون أحمر ناري، تحدقان في المدينة التي بانت أسفله .
-كيف حصل هذا بشكل مفاجىء؟
كان سؤال أحد المتفرجين؟
-لا بد أن العلم المفاجىء عند الذين كانوا سبباً لظهوره المفاجىء.
رد الواقف بجانبه دون أن يكون بينهما سابق معرفة البتة !

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…