بكاء المير جلادت بدرخان

إبراهيم محمود
في مقهى صغير ببرلين، تعرّفنا على بعضنا بعضاً، والوسيط بيننا أحد الأصدقاء، وكان ذلك أثناء زيارتي إلى برلين في ربيع 2006، كان طاعناً في السن، لكنه كان ممتلئاً صحةً وحيوية .
تطرقنا إلى أحاديث شتى، طالت همومنا الموزعة في الجهات الأربع في العالم، وحيث نقيم، وأحوالنا. ليتركز الحديث عن الجانب الثقافي، ويبدو أن الرجل رأى فرصته في ذلك، لينظر ناحيتي، يرفع يده عن الطاولة قليلاً، فاتحاً إياها وهي باتجاهي، ليسألني:
-لابد أنك، وكونك مثقفاً كردياً، تعرف المرحوم المير جلادت بدرخان ؟
هززتُ رأسي وأجبته مبتسماً:
-أيعقل أن هناك من يعرف ألفباء الكردية ولا يعرفه ؟
-جميل !
قالها، ثم عقّب مشدداً على كلماته، كما لو أنها يعصرها عصراً، قبل إطلاق سراحها:
-هناك أشياء كثيرة مجهولة عنه، تخص حياة هذا المير البائس، حين كان هنا في ألمانيا بين عامي “1922-1923 “. كانت حياته نضالاً مستميتاً ومأساة قل من يمتلك إرادة صلبة كإرادته لتحمّلها.
وانطلق مع ذاكرته المكانية، وهو يتأوه بعد كل عدة جمل يتفوه بها، ومحور حديثه المير البائس:
أنا لم أر المير الكردي، وإن كنت ولدت قبل رحيله الأبدي بإحدى عشر سنة هنا في ألمانيا، سوى أن والدي ” رحمه الله ” من كثرة ما كان يأتي على ذكره، بمناسبة ودون مناسبة، بدا بالنسبة إلينا نحن أبناؤه وبناته، كما لو أنه حي يرزَق بيننا، حتى ما بعد وفاته التي كانت سنة ” 1951 ” حيث أقام حِدَاداً عائلياً في بيتنا، ولمدة أسبوع، ولم تفارق الدموع وجنتيه طوال هذه المدة وما بعدها، وخفنا عليه، بسبب حزنه وقهره ورثائه لميره الكردي ذاك .
ثم تابع وهو يطلق زفرة كَبْدية حرّى، قائلاً:
-قال، كان يسكن بالقرب منّا، في ميونخ، لبعض الوقت، فترة كافية ليترك تأثيره على والدي حتى وفاته، كما لو أنه كان المسئول عما كان يعانيه من آلام وضنك العيش، كما لو أن المير الكردي البائس أورثه كل أوجاعه وهمومه ومنغّصاته .
لكم كان يحار في كيفية تأمين أجرة غرفته الشهرية، لكم كان يحار أحياناً في تأمين الوقود للتدفئة في شتاء ألمانيا القارس، حيث يهطل الثلح لساعات وبغزارة، صحبة العواصف، وفي غرفة اسمنتية عارية، إلا من أدوات بسيطة، لكم كان يحار في تدبير الحد الأدنى من أمور معيشته، لكَم… لكم…لكم…هي المصاعب التي واجهها وبقي كمير وهو مير.
أذكر أن والدي كان يسرد علينا واقعة، من كثرة تكرارها على أسماعنا، صرنا نعيشها بدقائقها وثوانيها، خصوصاً وأن الوالد كان يسردها بطريقة غاية في التأثر والتأثير، قال عن أن المير جاءنا زائراً، وما أكثر زيارته إلينا، كما قال والدي هذا، لكن زيارته تلك كانت خلاف كل الزيارات المعتادة، وكانت زيارة وداع، لأنه انتقل إلى مدينة أخرى، وأخرى.. قال المير للوالد وهو مقهور، كأنما يفشي سراً هذه المرة، ووجهه مخطوف من الداخل: أتعرف، كم هي صعبة أن تعيش ويعرفك الآخرون ميراً، ويصعب عليك تأمين خبزك اليومي، أجرة بيتك الشهرية، وعليك أن تقرأ وتكتب، وتتفاعل مع الناس، وأنت تقاوم سيول القهر الضارية في روحك وعقلك…
ثم تنهد عميقاً، ليردف قائلاً: أي مير أنا، وأي كردي أنا في هذه الغربة المستبدة، ولقاء ماذا أكافح وأكافح، وأتحمل آلاف جراحاتي المتزايدة.. قالها، وقد انحدرت دمعتان زلاليتان من عينيه، ونزلتا متوازيتين، لتستقّرا على خدّه، وتثبتا هناك، كأنهما التصقتا بهما، ودون أن يحرك جفنيه، أو رأسه، ليهرع والدي إليه، كما أعلمني، حاملاً منديله النظيف، ماسحاً تينك الدمعتين الساخنتين، والأميريتين، وهو يواسيه، وبعدها يترك المنديل القماشي بين يديه، ويرجع للجلوس مقابله. ليستمر المير بعد زفرة أكثر عمقاً وطولاً من سابقاتها، وهو يقول:
-ما يقهرني، هو كيف أعيش هذا الشقاء، ولا أحد دار ٍ بي..وما يقهرني أكثر، أنه بعد موتي، ستتنافس أطراف من بني جلدتي لتحتفي بي، وتسمّي مناسبات باسمي، وتخصص جوائز باسمي، وتعقد ندوات ومؤتمرات باسمي، وتصدر كراريس، وكتباً تحمل رموزها وأسماءها قبل اسمي وباسمي، وترسم لي صوراً، كما تنحت تماثيل لي، مظهِرة لمن حولهم مدى تقديرها للثقافة، وللمير الكردي، وسوف تظهر أقلام تغتنم هذه الحالة، وهي تضع سمنتها العفنة على خبزي الساخن والمشتهى، ويتحدث أصحابها عني هنا وهناك، مشِيدين بي، وبعائلتي وإمارة جدي بدرخان بك، ويعرّفون بنفسهم الضليعة في شئون البدرخانيين، دون أن يكون لهم أي صلة بالواقع وأوجاعه ومخاوفه. لغتهم قريبة من لغتي، لكن ما أبعد حقيقة حقيقة لغتهم عن لغتها. تُرى، ماالذي يربط بين الواوي والنمر؟، أي صلة قربة بين الجحر والفضاء الرحب؟ أعلم بذلك جيداً، في ثقافات كثيرة، إنما لدينا الوضع أوخم، حيث لا أحد يستوقفهم وينهرهم عما يقومون به من سمسرة ومتاجرة باسمي وكل اسم من أسماء عائلتي، حينها لا يمكنني الخروج من قبري، والصراخ في وجه أي من هؤلاء، وليس فيه عرْق كردية فعلية، لأمسكه من تلابيبه وأركله في مؤخرته، قائلاً:
إياك وذكر اسمي، وذكر أي من أسماء عائلتنا البدرخانية…! إنما سأموت يومياً، حال آخرين من أبناء جلدتي ممن يموتون حباً لشعبهم وقضية شعبهم، ليأتي من بعدهم من يتاجرون بهم، وينسبون إليهم ويقوّلونهم ما لم يقولوه أو يقوموا به في المعتبَرة مدينتنا.
إنما على يقين بالمقابل، من أن هناك من سيتصدى لهم، رغم قلتهم، ويعرّون حقيقتهم تلك.
ثم نظر حوله، وهو يقول معتذراً عن إطالته في الحديث، ليقول بعدها:
كان علي أن أقول ذلك، فهي أمانة لا بد أن تدخل التاريخ، والبقية تعرفونها .
توقف الطاعن في السن، وأنا أنظر في عينيه، وقد طفرت من مؤاق عينيه دمعتان، لعلهما شقيقتا دمعتيّ المير الكردي، دمعتي الشاهد على كلام المير الكردي.
لم يكن لدي منديل كمنديل والده، لأمسح دمعتيه، ثم منديل ورقي أخرجته من جيبي في الحال، لأمسحهما بيدي، وأرجع إلى حيث أكون، وأنا أرمي بنظري بعيداً بعيداً، حيث يكون ضريح المير الكردي الذي عاش مقهوراً كثيراً، لكنه مات كريماً بعطائه وتفانيه كثيراً كثيراً *
*ملاحظة:لا أبالي بمن يقرأ هذه الواقعة- القصّة، إن صدّقها أو لم يصدّقها، حسبه أن يقرأ ” يوميات ألمانيا ” تلك التي كتبها المير جلادت بدرخان ” 1922-1925 ” ونشرت بالكردية عن دار ” آفستا ” ستانبول2015، وهي مترجمة عن التركية، من قبل اوصمان اوزجليك، حيث ترجمت مقتطفات من هذه اليوميات إلى العربية، ونشرتها في موقع ” ولاتي مه “، وحينها، ليقرّر ما إذا كان المسرود هنا واقعة فعلية، أم وهْم خيال ! 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…