إبراهيم محمود
لا أحد يستطيع أن يعطي وصْف موز مدينتنا حقَّه، نظراً لنوعيَّته وكثرته، وهو ضمن مساحة أرضية واسعة، والذي ضرِب فيه المثل لهذا السبب في هذا المدى المفتوح، إلى درجة غلبة الأصفر ” لون الموز طبعاً ” على اللون الأخضر للشجر ورؤيته من مسافات بعيدة، كما لو أنها مصابيح مخروطية تشع وسط بحيرة من الظلال المتراقصة، وحتى بالنسبة لفنان موهوب جداً، يكون رسْم هذه الغزارة وبالجودة المقدَّمة تحدّياً كبيراً، يحسَب له ألْف حساب وحساب.
وقد تعرضت أشجار الموز العالية والضخمة لغزو طيور غريبة، تكتفي بنقر الموز وإتلافه، فكان لا بد من التصدّي لهذا الهجوم الجائر الغادر، وهو ما شغل أذهان المعنيين بأمن المدينة الزراعي، وهو مهمٌّ، خصوصاً، وأن الموز يشكّل رئة المدينة الاقتصادية، وعلامة شهرتها الفائقة.
داخل غابة الموز المترامية الأطراف والمهيبة، اجتمع من هُم على دراية بهذه الحالات، وهم يتدارسون ما يمكنهم القيام به، للحفاظ على ثروة المدينة التي لها حضور قوي في الخارج.
أحد المعنيين، شعَر بمن يربت على كتفه من الخلف، كانت لمسة يد خفيفة ناعمة، وضاغطة قليلاً ليشعر بها. التفت إلى الخلف. كان القرد هو الرابت على كتفه. إنه قرد ضخم، دل مظهره على أنه موفور الصحة، ونظيف، حيث شعر جسمه، كان يتماوج في الريح. ابتسم له. إنه معروف هنا.
بإشارة من القرد ابتعد عن جماعته قليلاً، بعد أخذ الإذن منها، وقد عرِف أفرادُها السبب.
استفرد به القرد ضمن مسافة تسمح له، لأن يُسمِع الرجل ما يمكنه قوله.
-أملنا كبير بكم، نحن جماعة القِرَدة، خصوصاً أنت، كما تعلم، وتعرُفنا جيداً.
قالها القرد زعيم القرَدة في الجوار والمعروف جيداً في المنطقة، وهو يبتسم ابتسامة تظهِر أسنانه بلون قشرة الموز.
هز الرجل يده قليلاً، ورد عليه بابتسامة معهودة منه في وضْع كهذا:
-ما الضمان، وأنتم القردة مشهورون بحبكم بأكل الموز كثيراً .
زادت ابتسامة القرد وساعة، حيث تباعد شدقاه:
-نحن القردة لا نأكل الموز .
قالها وهو يربت على كتفه من الأمام، ساعياً إلى طمأنته .
-قل كلاماً آخر.
رد القرد:
-أعني أننا نأكل، إنما ليس على طريقتكم. إن أشره قرد لا يقابل أشدكم زهداً في ذلك.
ابتسم الرجل:
-هذا يفرحني، أعني يفرحني، ولكنني مازلت غير مصدّق.
-لاعليك، عليك أن تصدّق، فأنت تعرفنا نحن القردة، وعدنا دَيْن، كما كان أسلافنا الأوائل، ولا نحب العقود المبرَمة وأصنافها. كنا قبلك، وها نحن الآن موجودون، وسوف نوجد بعدك. والذين قبلك، ما كانوا يدخلون معنا في كلام كهذا. حصتكم محفوظة، اطمئنوا، كما كانت حصة من سبقوكم، وهي هكذا لمن يأتي بعدكم .
قالها القرد بحيادية تامة، وربما بنوع من الوعيد، من خلال نبرة صوته.
انفرجت أسارير الرجل، ليبتسم تعبيراً عن الراحة.
-إنما كيف؟
ابتسم القرد سريعاً، وقال:
-ها قد أصبحتَ على الخط. قردتنا متواجدون أنّى التفتَّ، وسوف نوفّر عليكم الكثير من المتاعب المادية والمعنوية. حيث لن تبحثوا عن أيد عاملة، لن تأتوا بآلات تسلّق أو صعود لالتقاط الموز، فنحن القرد أمهر من كل عمّالكم وأخف حركة، وقدرة طائرة في الانتقال من شجرة إلى أخرى، وأسرع من آلاتكم في تحديد الثمرة وكيفية التقاطها في الهواء مباشرة، ونحن أدق منها في قطاف الموز المطلوب، وإيصاله إلى الخارج، حيث إن لدينا علْماً بمن يمكنه التعامل معكم، وبأسعار غير مسبوقة. إنما…
قاطعه الرجل، وهو يتوجس خيفة مما هو منتظر :
-إنما ماذا ؟
-لا يمكن لنا نحن القردة، أن نلتقط كل هذا الموز، والذي يبدو كما لو أن الأرض كلها انفجرت موزاً، ونضعه بين أيديكم، ويظهر أنكم لا تقدّرون قيمة الموز في مدينتكم، ولا كيفية الاستفادة منه، وحرصاً على المصلحة المشتركة، ودوام موزكم، نرى أن من المناسب لكم ولنا جميعاً، جلْب أيديَ عاملة من بني جنسنا القردة، من ذوي الخبرات، ونحن نعرف من يكون الأصلح بينهم في قطاف الموز، وبأسعار زهيدة، وعقودنا مشجَّعة تماماً.
-لكن هذا سيكلّفنا الكثير ؟
قالها الرجل سريعاً.
-لن تجدوا مثلنا أنّى التفتم. خذها علِماً، وكما قلت لك منذ البداية: سوف تنالون ما يرضيكم، وأنت بالذات، ستكون لك علاوة .
قالها القرد بمزيد من الصرامة في الملامح .
-علي أن أخبِر جماعتي .
قالها الرجل سريعاً، فحرك القرد يده المشعَّرة ناحيته علامة تصرَّف كما تريد.
طبعاً، هكذا تحقق للقردة ما يريدون: قردة الداخل والخارج .
لقد أنعموا على المدينة بما يرضي أهليها لبعض الوقت، ونسوا ما يرمي إليه القردة، إنما كان للذين عقدوا اتفاقاً مع القردة الحصة الكبرى، سوى أن حصتهم من مردود الموز أيضاً تناقصت، على أثرها استفسر الرجل المشار إليها عما يجري، وهو يقابل القرد المذكور.
فكشَّر القرد عن أنيابه قائلاً:
-ليس بيننا من وثيقة تثبت طبيعة اتفاقنا. لقد أخبرتك أننا سنأكل ما يسد حاجتنا، ونحن نأخذ حسب حاجتنا كما ترى، وليس هناك ما يفيض عن حاجتنا هذه، إلا ونحرص على بقائه سليماً، ومسئولية ما يجري تقع على عاتقكم، حيث إنكم لا تجيدون إدارة الحساب، أو لا تحبّون الحساب أصلاً، حيث تفكرون بما هو بين أيديكم، والأفضل لكم السكوت، حرصاً على سمعتكم.
لم يشأ الرجل مقاطعته أو الاعتراض، أو إعلام سواه بما جرى، وهو يرى ما يفعله القردة بالموز، وهم يحلّقون عالياً متنقلين من شجرة إلى أخرى، حيث تتطاير في الهواء قشور الموز .
لقد كان في مقدور أهل مدينتنا الاستجمام في قلب غابة الموز، والتنزه فيها، لكن وضعهم تغيَّر كلياً، إذ إن الممرَّات والمسالك المعبَّدة التي تقطع الغابة في جهاتها كافة، امتلأت بقشور الموز، إلى درجة أن أياً كان حين يغامر بالدخول فيها تنزلق به رجلاه ويقع أرضاً، وبالطريقة هذه، أصبحت غابة موز المدينة حكراً على القردة الذين سمِنوا بشكل مضاعف، وغدوا شرسين للغاية،
إذ ما أن يقترب أحدهم من تخوم الغابة، حتى ينقذف بقشور الموز، ودون تمييز هذه المرَّة.