فرهاد دريعي
لم يجد نفسهُ ضحلاً وباهتاً كما هو عليهِ اليوم ، فالرجولةُ سُحِلت فيهِ تحت وطأةِ الصراعِ في داخله .
كان يريدُ أن يقولَ شيئاً ، أو يفعلَ شيئاً ما، لكن لم يكن أمامهُ سوى أن يفركَ يديهِ في دلالةِ أنَّ لا حولَ لهُ .
لم يكن يستحضره قول أو فعل معين ، لذا فقد كان يحاصرُ نفسهُ بأسئلةٍ بليدةٍ تارةً ومتمرِّدةٍ حيناً .
والآخرُ في داخلهِ يُجابههُ بصفاقةٍ غيرِ معهودةٍ ويضعهُ في إحراجاتٍ مؤلمةٍ ، عِندها لم يكن يَجدُ لديهِ ما يُدافعُ بهِ عن نفسهِ ، فيشرعُ بشتمِ ذاتهِ ويحتقرُها .
لقد تغيَّرَ كل شئٍ فيهِ إلّا ما بدا ظاهراً ، وهو يَسعى إلى التأقلمِ مع هذا الصَّدعِ الذي شطره الآن، إنهُ ليسَ خدشاً بسيطاً سيلتئمُ بمرورِ الزمنِ كما توهَّمَ بدايةً ، لقد أخطأ في تقديرهِ هذا، كما أخطأ بأَنها قد تكونُ إلفةً عابرةً ستمرُّ سريعاً ، ما أساءهُ لاحقاً أنهُ بدأ يكذبُ ، كأنْ يَسألهُ أحدهُم : كيفَ حالكَ ؟ . فيردُّ : أنا بأحسنِ حالٍ ، ويتصنَّع البشاشةَ والإبتسامَة في رياءٍ .
إنهُ يدركُ مدى فداحةِ هذا الشَّرخِ الذي يتفاعلُ معَ ما بداخلهِ وما يظهرهُ للآخرين .
يجلسُ كديكٍ منفوشٍ وهو يجادلُ في أمورٍ سياسيَّةٍ معقدةٍ ومجتمعيةٍ مُتناقِضةٍ، وكيفَ أن بَعض العاداتِ تصبحُ العينَ الرقابيَّةَ البغيضةَ وتجعلُ من المرءِ رَهناً للاأخلاقيةِ الأخلاقِ كونهُ يعيشُ في بيئةٍ يتشابهُ فيها معَ الآخرين ، والمرأةُ على وجهِ الخصوصَ تفتقرُ فيها إلى اللاآتِ فيبقى الشرقُ شرقاً بكلِّ كَبتهِ ومفاهيمهِ ومآسيهِ ، يقول :إنَّ تحررَ الوعي من ضيقِ قوقعتهِ الجامدةِ أو بمعنى آخر ” الفكرُ الحرُّ” يَحتاجُ قَلباً ، وعِندما ادركَ أنَّ لا أحدَ يستوعبُ ما يقوله ، فضَّل إستعراضَ تبعاتِ التفجيراتِ الإرهابيةِ في مدينتهِ وإنعكاساتِها على سيرِ الحياةِ العامَّة بجوانبِها المُختلفةِ مع الآخرين. وكذلك القصفِ التركي المتكررِ بقذائف مدوية ومدمرة تهزُّ أركانَ البيوتِ السكنيةِ وتقرقعُ أبوابها ، ولكنها ضَحلةٌ إذا ما قورِنت كيف إرتعشتِ الأرضُ تحتَ قدميهِ عندما لامَست كتِفُها كتفَهُ بشكلٍ عرضيٍّ أولَ مرةٍ . وكيفَ أنهُ باتَ يَتحاشى أن يحدثَ ذلكَ مرةً أخرى ما أمكنهُ. في مكانٍ آخرَ يَتبجَّحُ بثقافتهِ المهترئةِ كذاتهِ الحاضرةِ الآنَ ،فيسردُ في مَجلسهِ مآثرَ الماغوطِ أو قصائدَ شيركو بيكس ،أو عبدالرحمن منيف ، هنا يقفُ كما أن مسُّهُ تيارٌ كهربيٌّ وهو يتذكَّر رِوايتهُ ” قصة حب مجوسية ” ، يتساءل : أهذه هي ؟ ثم يجبر حواسه ألا يقف عندها طويلاً . وفي الواقعِ كانَ يخدعُ نفسهُ كي يهربَ بعيداً عن كلِّ ما يذكِّرهُ بها، فبحضورِها تعتريهِ ما تشبهُ بكائيةٍ شاعريةٍ تكاد تُدميهِ ، كانَ يَذوي وهوَ يلقي باللائمةِ على الآخرِ الذي بقيَ مُلتزماً الصمتَ ، و قد يتحَّينُ الفُرصَة كي ينتفضَ فجأةً كعادتهِ .
إحباطٌ مهينٌ يلفُّهُ في دائرةٍ مغلقةٍ كلياً ، وحلقهُ يابسٌ كشجرةٍ قُطِعت منذُ عقودٍ ، وهوَ الآنَ يحاولُ جاهداً أن يبلعَ شُحَّ ريقهِ ليتأكدَ أنهُ مازالَ حياً.
هل كانَ يبحثُ عن حلولٍ ناجعةٍ لِما هو فيهِ من حيرةٍ وإضطرابٍ ؟ سرعانَ ما ينفي فهوَ لا يقدمُ سِوى أطروحاتٍ مملةٍ وغير مقنعةٍ . يفاجِئهُ الآخرُ المترصِّد كبوليسٍ انتربوليٍّ :- ركِّز …
ها قد عادَ إلى إستفزازهِ بكلماتهِ المختصرةِ والمندفعةِ كطلقٍ ناريٍّ نافذٍ من أحدِ طَرفي الجُمجمةِ، حَريٌّ بهِ أن يَصمتَ بدلَ هذا الكلامِ الأخرقِ ، أليسِ هوَ من دلَّها إلى مواضعِ الثغراتِ في حصنهِ قيدَ الإنشاءِ ، وعِندما جاهرهُ ، أقرّ الآخرُ بأنهُ عَجزَ عن مواجهةِ تلكَ السطوةِ الحارقةِ ، ثم ما لبثَ إن عادَ يصفنُ وديعاً كطبيعة نشأتهِ المعتادة .
كل شيءٍ حولهُ يَشي بالمللِ والقرفِ ، والخوفِ والحزنِ ، لم يَعد له الجرأةُ أن يمدَّ يدهُ إلى هاتفهِ ليتصفحَ النيتَ . كلّ العنوانينُ كُتِبت بالحبرِ الأسودِ او على لافتاتٍ سوداءَ . خُروقاتُ القِوى المعاديةِ وإستقواؤهُم الصارخ … ، الهجرة المتسارعة نحو الخارج ونكباتُها… ، الغلاءُ المعيشيُّ الفاحشُ والفسادُ المتعاظمُ… . الأدوية وجشع الأطباءِ …، وهذهِ الكورونا اللعينةُ .
لم يَشأ أن يصارحَها بأنها استنزفَت رباطةَ جأشهِ عندما سمعَ صوتَها آخرَ مرةٍ عبرَ السماعةِ الثكلى وهيَ تَسعلُ بشدةٍ،السعال في زمن الكورونا أمر مقلق . فَدتكِ رِئتي ، هكذا لفَظها في سرِّهِ ، وكانت أيضاً من المراتِ النادرةِ التي يذكرُ فيها اسم الله ويتوسلُ إليهِ ضارعاً أن يحميَها . و من محاسنِ الإتصال الصوتي أنها لا تراهُ ، فمدَّ يدهُ الى منديلٍ ورقي كي يمسحَ دموعاً قهرت رجولتهُ .
مساءً كانت له خلوة مع الآخر في غرفتهِ الخانقةِ ، هذا لا يعجبهُ ، فهو يعلمُ كم هو مشاكسٌ ونابش :
– صارحني و هاتها من آخرها .
الخوفُ من السُّخرية يُعطل لسانهُ ، وتواً أدركَ كم هوَ سريعُ العطبِ كأصيصٍ من زجاج ، جرى بينهما نقاشٌ غير متكافئٍ حول أحقيَّةِ الإهتمامِ ، كوردستان أم هي ؟ . كان يسعى لكي يُفهمَهُ أن المقاربةَ ليست سليمة بهذه الصيغةِ ، وما عَدا ذلكَ فقد كانت المناقشة ضرباً من العبث . إذ لم تكن هناك أسئلة محدَّدة أو أجوبة واضحة هكذا كما في كل مرة.
يتلاشى الصخبُ بينهما شيئاً فشيئاً ، فيركنُ للهجوعِ ، ويتكومُ بحيثُ يلامسُ ركبتاهُ حلمتيهِ ، يُغمغمُ كي لا يفهمهُ الآخرُ : السافلُ يَستدرجُني . هذا ليس مغرياً .
َ- لماذا تسبني ؟ إعتدل فحسب ، أنا جزءٌ منكَ وأخبئُ كل خباياكَ ، تعاملكَ معي على هذا النحو هو هروبك من ذاتكَ ، وأنا لا أريدكَ ضعيفاً ومهزوماً مثل ما تبدو عليه .
ينهضُ ويشعلُ ضوءَ الشاحنِ الذي يعملُ على البطاريةِ حيث لا رائحة للكهرباءِ في يومهِ.يفكِّر فيما قالهُ الآخرُ قبلَ قليلٍ ، إذا كان حقاً يعلمُ بكل شئ إذن حلَّت الكارثةُ التي يتوقعها دائماً ، بدأ يشعرُ بموكبِ عطشٍ يَسري في عروقهِ المالحةِ ، ويختزلُ مأساتهُ التي لا يمكنهُ الإفصاحَ عنها ، هل هي تراجيديا عشقٍ محرمٍ تباغتهُ على هيئةِ نوباتٍ متلاحقةٍ؟ يهزُّ رأسهُ سلباً ، ويَجهدُ في الوصفِ دونَ جَدوى .ينبس خافتا : عذراً كوردستان و يتهدج صوتهُ ..
هذهِ الغصة تعانده وتلازمُ حماقاتهُ كلها ، حماقاتهُ التي إرتضاها بمحضِ إرادته ، وللإنصافِ هو يرفضُ إنها بمحضِ إرادتهِ ، ويؤل الحالةَ ..إنَّ الآخرَ كانَ متواطئاً معها و آزرها في دخولِ مملكتهِ فأصبحَ محتلاً .وبات لم يَعد بمقدورهِ إتخاذ قرارٍ .
أباهُ كانَ يخوضُ عزائمَ الأمورِ بهمةِ الرجالِ وشجاعةِ الفرسان، هكذا يتذكر. اما هوَ .. فالخوفُ يأكلهُ ببطء لكن دون توقف ، ينظرُ في نهايةِ عقبِ سيجارتهِ المبللةِ بريقهِ طويلاً ، ريقه الخارطة الجدبة . يَستطلعُ شفرتهُ الوراثية وكأنهُ إحدى مختبرات ال DNA للتحليل الجيني .ويتوصَّلَ أخيراً إن الزمنَ يختلفُ وإن القضايا ليسَت كلها متشابهة ، هكذا يقنعَ نفسهُ ويبقيَ ثابتاً على رأيهِ الذي إلتزم بهِ بميثاقٍ من طرفٍ واحدٍ حتى لو كسروا عليهِ الأبوابَ ، وأحالوهُ غِربالاً .
إنه يَسردُ الفجيعةَ بكل ثقةٍ وجرأةٍ الآنَ . لكنَّ الآخرَ شرعَ بسحبِ خيطِ الجرحِ مجدداً ، كانَ الدمُ المتدفقُ يطرحُ أسئلةً أخرى غامضةً ومحيرةّ :
-هل الطبيعةُ أوجدتها مصادفةً ؟
لقد باتَ يراها في كل شيئٍ حولهُ . وخاصةً في شمسِ علمِ بلادهِ . تلتمعُ عيناها ببريقٍ خاطفٍ ، وما أن يقتربَ منها حتى تتوارى خلف سحرِها .لقد شاهدَ مثل هذا في الأفلامِ ولم يكن يصدقُ حينها وها هو يتلمسها ويراها.
ويتكاتفان عليه الآخرُ والدمُ ، يحاصرانهُ بالأسئلةِ المرهقةِ : – كيف ترى الموتَ ؟ – من يَصبغكَ بلونهِ أكثر ؟ .
– هل أنتَ كوردي ؟ . كم نجمة في سمائكَ ؟ .في الفلسفة الصوفية أين يقعُ مركز التفكير ؟ . – ماذا تتوقع إن هي صافحتكَ يوماً ؟ . – لا لا.. تخيل أنكَ إحتضنتها يوماً كما احتضنتَ علم كوردستان ذاتَ نوروز ؟ .كان واجماً يحدقُ فيهما بصمتٍ رغم معرفتهِ بالأجوبةِ كلها تجاهلهما ورفع هاتفه يحاولُ عبثاً العثورَ على أغنيتهِ التي لا يملّ سماعها ( ليتني لم أرَ عينيكِ تلكهما أبداً) ، فاجأهُ الآخرُ بسؤالٍ ماكر:
– ألست سعيدا بمن احتلتك ؟
لفها براية وطنه واحتضنها بخشوع .
———