حيواناتي

إبراهيم محمود 
كان صاحبي قريباً منّي جداً، وصاحبي وأنا إزاء مرآة ضخمة مسمَّرة على الحائط، مرآة نبيهة حساسة في إبراز الصورة الماثلة أمامها. بانت صورتي، بالكاد بانت صورة صاحبي. قلت له:
-أرأيت ما يجري في المرآة ؟
كان طبيعيَّ الملامح:
-أنا لا أرى شيئاً كما يجب. هذا غريب ؟
سألته باستغراب:
-ألا توجد الفارق بين صورتك وصورتي ؟
هز رأسه، ليجيب بعدها:
-هنا الغرابة، بالكاد أرى صورتك، أما صورتي فأشبه بظلال باهتة جداً. يا للمرآة الجميلة العديمة النفع.
علَّقتُ على كلامه، حيث تسبقني ابتسامة خاطفة:
-المشكلة فينا يا صاحبي. فأنا أرى صورتك، إنما أقل مما أنت فيه، وصورتي جلية تماماً، إنما صورة آخر باللباس، بالهيئة، بتعابير الوجه، وحتى نظرات العينين . هناك ما هو أبعد من المرآة، كما يظهر !
-ما الأبعد من المرآة ؟
-إنها مرآتك التي تترجم ما هو غير مرئي في داخلك. وكثيراً ما أجد صوري في هيئات. أتريد أن أتحدث عن بعض هذه الحالات ؟ أرأيت كم نبالغ في تقدير أنفسنا، فنطلب من المرآة، مثلاً، أن تظهِر صورتنا التي نريد أن نكونها، وليس من نكون بها. إننا نستخف بالمرآة هذه .
وتمايل يمنة ويسرة، ليقول كلاماً، فاسترسلت قائلاً:
وبصدد المرآة، فرغم أن مدينتنا مشهورة بصنع المرايا، إنما لا أحد يستسيغها، وهي نشِطة، لا تتوانى عن إظهار لك، ترتاح إليها، إذا أردت أن تكون في مستوى المرآة، إنما المؤسف، أن هذه الكثرة المتصاعدة من كارهي المرآة، ربما لا يجدون الوقت الكافي لينظروا إلى مرآة تعلِمهم بأمور يعيشونها ولا يدركونها. إنهم مشغولون كثيراً بسماع نقيق الضفادع ومحاولة النقنقة.
فرفع يده، وهو يبدي علامة انزعاج مما يسمع:
-كل هذه عن طريق المرآة ؟
لا أدري لماذا شغفت بالحديث عن المرآة، وأنا أوضّح ما أعرفه بفضل المرآة:
-ليتك تصدّق قولي هذا، إذا أردت أن تعرف حضارة مجتمع مدينة، في مدينة ما، فيمكنك ذلك من خلال الكشف عن طبيعة صِلات أهلها بمراياهم. لكل منهم مرآته، ولهم مرآة مشتركة أيضاً.
بدا متحمساً، وهو يهز رأسه علامة الإيجاب، وتابعت كلامي، كما لو أنني أخشى نسياناً:
-في بعض الحالات أجدني طويل القامة، وفي حالات أخرى، أكون في شيخوخة العمر، وفي حالات ثالثة، أظهر في هيئة طفل، وأحياناً رابعة، أظهر في هيئة طائر، أو سمكة، أو غزال …
استوقفني مستفسراً:
-ولماذا لا أبصر مثل هذه الحالات والهيئات ؟
-إنها تبعاً لنوعية الكتابات والمواقف.خذ مثالاً آخر، أحيناً أرى ما يشبه حديقة حيوانات، وهي تنظر إلي، وأحياناً أنا نفسي أصبح حديقة حيوانات، فأدخل في المرآة، وأشعرها داخلي أحياناً .
-لكنني بالكاد أبصر بعضاً من هذه الهيئات.
-يا صاحبي إنه أنت الآخر الذي يعيش ما تكتب وما تكونه في أوساط من حولك . وعليك أن تعيش مناخات الكتابة، الآخرين، تقلبات نفسك داخلك، وجوه من تلتقي بهم في الشارع، في أمكنة مختلفة، واجتماعات مختلفة.
-لكنني لا أجد شيئاً من ذلك، إلا القليل القليل مما تقول ..
-لا أزعم أنني أعيش مناخات الكتابة أكثر، ولكن الهيئات التي أقابلها في المرآة هذه، كلما واجهتها، أو وقفتُ أمامها، حتى وأنا أغيّر جهتي في الغرفة، فألتفت لأراني في هيئة أخرى..إنها حالات هذا الذي يفارقني ويمضي بي إلى تلك العوالم البعيدة، وفي بعض الأحيان، وربما في كثيرها، يختلط علي الأمر، بين ما إذا الظاهر في المرآة هو أنا، وما إذا كنت حيث تراني، هو أنا الفعلي، وفي بعض المواقف تبقى المرآة في نقائها . 
والمشكل يا صاحبي ويا مقابلي، هو أنني، من المؤسف، لم أجد من يعرّفني حيث أعيش، بهؤلاء الذين أبصرهم، وهؤلاء الذين تختلف أشكالهم ومظاهرهم، وفي كل مرَّة تزداد حالات تغيراً وتنوعاً، إلى درجة أراني من خلال المرآة التي تعلّمني كيف أتنفس، وكيف أعيش حياة ما أبعدها عن حياة الذين أعيش وإياهم منذ عقود من الزمن.
-كأنك تقرأ في كتاب أمامك، حين تكلّمني هكذا!
قالها صاحبي الذي لا يخفي تقديراً للكتابة والقراءة. صوّبت كلامه:
لا بل أقرأني في مرآة لولاها لما كان لقاؤنا هذا، وأغبطني بوجود مرآة كهذه.
اختفت المرآة، وانشغلتُ بأصوات كائنات البرّية والأهلية والمائية وهي تتماوج بي، بينما نظرت إلى المدينة، من فوق أعلى تلّة مجاورت، حيث خرجت أتنفس رحابة في الخارج، لتتراءى المدينة تتراقص في السراب، أو قد تكون السراب نفسه، فلا أعود أميّز بينهما، فأهرع إلى بيتي الذي أدمن وحدتي وكثرتي، مخافة سقوط مرآتي أو تكسُّرها ، فلا يعود من معنىً لبقائي ! 
 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

 

عندما تهجأتُ ممتلئاً بك ” أحبك ِ ”

فقدتُ رأسي في الحال

وتراءى لي جبلٌ جبلٌ جبل

جبل من صوان ودم وضوء وعسل وهواء فتي

له قمة ينتسب إليه شموخٌ فريدُ إقليمه

رأيتني مرفوعاً به إلى أعلى عليين

وأكسبتني نجوم من حنان وشجر يانع دون جذور

ملَكَة الامتلاء باللامرئي

حيث تكونين أنت بكل بهاء نسبك الكوكبي

 

عندما تهجأت مسكوناً بك ” أحبك ”

فقدتُ…

الكاتب والناقد العراقي مروان الدليمي

في روايته»الأوسلاندر» وبعنوانها الفرعي «تشريع الغربة اختبار الفقد» الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2024، اقترب الروائي السوري خالد إبراهيم من ملامسة حياة اللاجئين السوريين في بلاد الشتات الأوروبية، عبر نص…

إبراهيم محمود

 

بياضٌ تقطَّر منك ِ

اشتعل ليلُ رغبة تليد

توسلت إلى الصباح طويلاً

أن تتأخر الشمس في ظهورها

وأنا أتدثر بذلك المتقطر من بياضك

وأنا أتنفس تلك العينة التي

ألهمتني لعمر يأتمر به زمن قادم

أي متصوف أنا في تكية وجدك الأعظم؟

 

كيف لبياضك

أن يقلق سواداً هو جذره التكعيبي

أن يفتتن الأصل بالفرع

أن تغيّر الغابة المتشحة بالسواد وجهتها إليك

كيف لظلال تبتهل إلى فيزيائها بجرعة…

كيفهات أسعد

 

طوبى لوحدتي في هذا الشتاء،

لغطائها المتجمِّد،

لسرِّي الذي كاد يكسرني،

لكل مائك،

وعطرك الناعم الذي نسي نفسه على جدار غرفتي،

لرائحة تبغك العالقة على الستائر،

لاتساع الحنين كما الموسيقى وذهب القصائد،

لأغطية “شباط” الباردة،

وهشاشة الروح وشقيقتها حين تراك،

طوبى لوحدتي هذا المساء المجبول برائحة الخل،

وأنا المنسيُّ كـ”أبوذية” غائبة في الشط.

2-

هذا المساء

يبرقُ دمي بها تماماً،

يحشو قلبي بسحابةِ ضحكتها،

تلك التي تشبه روح الشاعرات،

أو…