إبراهيم محمود
صدر قرار مفاجىء عادةَ أغلبية القرارات من أولي الأمر في مدينتنا، بإخلاء حديقة الحيوانات، وإرجاع الحيوانات، برّية وبرمائية ومائية وطائرة إلى بيئاتها الخاصة المعروفة، دون إرفاقه بالتفاصيل المفترضة، وكما هو المتردّد عقْب أي قرار كهذا، فقد دخل الناس في تكهنات وتجاذبات أحاديث وخلافها، ورغم تسرُّب سبب وحيد لهذا الإجراء إلى أوساط العامة والخاصة أيضاً، وهو أنه، لا يليق بمدينتنا أن تجعل الحيوانات فرجة للناس فيها، وهي تحبسها في أقفاص، وتتحدث عن الحرية، فهذه لا تتجزأ، لم يجد الناس بداً من التصديق، أو لم يكن في مقدورهم عدمَ التصديق، لأنه نادراً ما يصدر قرار كهذا أبعد من كونه ذا اتجاه واحد.
وقد رصِدت ميزانية كبيرة لتحميل الحيوانات بمواصفات تحميها من أي خطر، حتى إيصالها إلى حيث تكون مواطنها الفعلية، وبحماس غير مسبوق، أثار تساؤلات كثيرة لدى أهلها إجمالاً.
وبالفعل، فإنه نظراً للجهود المكثَّفة، والأعداد الهائلة للذين كلّفوا لهذا الغرض، تم تنفيذ المهمة في زمن قياسي، يمكن القول، أنه، وكما أعلم أنا، يصعب وجود نظير لمدينتنا بهذا الصدد.
لقد فوجئت حيوانات الغابة وفي الجوار، حيث الماء والبر والفضاء المفتوح، باندفاع سيل متشعب ومتدفق منها، ومن خلال حركاتها، وهي تحرّك رؤوسها وآذانها، وآذانها، وأحياناً أرجلها الأمامية والخلفية وبالتناوب، وأحياناً أخرى بإصدار أصوات للتنبُّه إليها.
ما لوحظ في تدفق هذه الحيوانات، هو أنها لم تنطلق منفصلة عن بعضها بعضاً، وإنما لزمت أماكنها بعد حين، وهي تنظر خلفها، ولو امتلكت بعض الحيلة لصعدت الشاحنات التي حملتها ورجعت إلى حيث وضِعت مجدداً، إنما فاتها ذلك، إذ تم دفعها خارجاً، لتنطلق الشاحنات والمركَبات سريعاً وهي فارغة، وهي تنهب الأرض وبأقصى سرعتها مثيرة الغبار وراءها.
بقيت جموع الحيوانات تحت وطأة فضول ما، وبحكْم غريزتها، في أمكنتها وهي تنظر في هذا الكم الهائل من الحيوانات التي لم تتباعد عن بعضها بعضاً، وكما هو حكْم غريزتها بالمقابل.
كل حيوان، وهو ينظر مستثاراً مما يرى، حيث إن ذاكرتها الحيوانية، كما هي مُذ وجدت، توجّهها تبعاً لآلية الغريزة الدقاقة في بنيتها الحيوية، جيلاً بعد جيلاً، إن جاز التعبير.
سوى أن الأكثر استثارة لها، وهي بقوتها الحيوانية المميَّزة هو رؤيتها لما لم تعهده من قبل، بالنسبة إلى الحيوانات القادمة من حديقة مدينتنا:
كان القرد يمتطي الأسد، ويشده من أذنيه، وهو ينفجر ضحكاً.
كان ابن آوى يلاحق النمر، وينصاع له النمر، فيفترسه، وليس من حركة مقاوِمة لدى النمر.
كان الثعلب ينزِل عضاً في الدب، وليس من حراك في الدب هذا.
كان الحمار يوجه ركلاته إلى الكركدن، والكركدن ظاهر أمامه بخنوع، مستسلماً لركلاته .
كان الفأر يدخل في أذن الوشق ويخرج، ثم يسرح ويمرح فوق ظهره دون خوف .
كان ابن عرس يتربص بالضبع، فينقض عليه نهشاً.
كان الكلب البرّي يزأر كالأسد، مثلما كان البقر يصهل، والغراب يهدل، والعصفور ينهق…
ويمكن سرد قائمة طويلة بالطباع التي اختلطت مع بعضها بعضاً، إلى درجة أن الحيوانات الأخرى، أخافتها هذه المشاهد التي لا شبيه لها في ذاكرتها، ليس هذا فحسب، وإنما أن بعضاً منها تراجعت إلى الوراء بغريزتها، مخافة تعرضها لأذى أو هلاك معين .
كان الأسد الأكثر تحسساً بما كان يجري، وهو يراه بأم عينيه، وقد حاول الفرز بين حيوان وآخر، إنما دون جدوى، وأكثر ما أثار حفيظته الأسدية، وبوصفه ” ملك الغابة “، هو رؤيته لحيوانات ما كان لها أن تقترب من حيوانات تفوقها قوة واندفاعاً وافتراساً، كابن آوى، الثعلب، القط البرّي، وها هو يراه، وهي تقفز من على رقبة أسد إلى رقبة أسد آخر، وفي الوقت الذي يتجنب الصدام بأي منها لحظة اقتراب أي منها منه .
لكَم بُذل من مجهود، ليحرّك نظيره الأسد، لئلا يبقى سلبياً، وهو محل سخرية من الحيوانات الأخرى طبعاً، كي يسترجع طبعه، ويمارس سلطته، كما كان آباؤه وأجداده .
باءت كل محاولاته بالفشل، وهو يشعر بوهن يسيطر عليه تدريجياً، مع خوف لم يكن له به عهد، فأمكنته قوته المتبقية من أن يبتعد قليلاً، وهو ينظر بعينينه الواسعتين إلى هذا الجمع الغفير من الحيوانات، والبلبلة التي تتعرض لها، عبر تمازج الألوان والأصوات.
لا أحد يعلم بما وصلت إليه الأمور بعد ذلك، سوى أن تقريراً رُفِع من قبل بعض ٍ ممن أوكِلت إليهم مهمة المتابعة للمستجد، إلى أولي أمر مدينتنا، فحواه، أن التوتر بين الحيوانات في ازدياد.