إبراهيم محمود
كعادتي، حين أقرأ أو أكتب، أستغرق في الحالة المرافقة، أنسى أنني في غرفة، رغم أنها بائسة، أنسى أنني في منطقة مشهود لها بالصخب والضجيج، كما لو أن أهلها يعرّفون بأنفسهم، ويؤكدون وجودهم بالطريقة هذه، أنسى أنني أنا، ويا بؤس أناي حيث أعيش، أتنفس قراءة وكتابة، خلاصاً ما، من هذه المدينة ” مدينتنا ” المبتلي بها اسمها منذ حين من الدهر.
فجأة تنبهت إلى صوت، صوت حقيقي طبعاً، لا أدري من أين، كأنه خارج من زوايا الغرفة كلها، وأمامي كذلك، مضيتُ في حالتي، فاشتدت وطأة الصوت، حيث أدركتُ أنه يقصدني:
-أعطني بعضاً من وقتك، ولن تندم أبداً، فأنا على عجلة من أمري، مثلما أنت نفسك على عجلة من أمرك !
وجَدتَني أوليه اهتماماً لاشعورياً، إنما حرْتُ في أمره. كيف لي أن أصغي إليه، وأنا لا أراه:
-هلّا عرَّفتَني على اسمك ؟
كان هناك ترددُ الصوت، كان اهتزازه في المكان، كان هناك ما استوقفني. لم تتملكني رعشةُ خوف من هذا الصوت من دون جسم، كوني في وضح النهار، وفي الجوار، بقية أفراد البيت.
قدَّرتُ في الحال أن الصوت يتوقف عند مسافة معينة، من خلال نبرته، حسبتها مسافة أمان:
-محسوبك فيروس كورونا !
رددتُ الاسمَ في نفسي، أصبح للكورونا لسان أيضاً، ماذا سيظهر في القريب كذلك:
-لم تكفنا شرَّك وأنت متناهي الصغر، متناهي الخفة والتنقل، تداهم الناس حيثما كانوا، وها أنتذا تتكلم بكلام فصيح، فصيح فعلاً، والغيب وحده يعلَم أي شر مستطير يحمله صوتك. أتحاول الآن التسلل إلى الداخل، لأنك لم تشبع عن طريق اللمس؟ أعلينا انتظار مفاجآتك مع بقية الحواس ؟
جاءني الصوت بطيئاً، إنما مسموع:
-حسبما أعلم أنت كاتب. ألا يُفترَض عليك ألا تصدر حكمَك بمثل هذه السرعة ؟
قدَّرتُ أهمية هذه الملاحظة، ثم قلت:
-قل، إنما لا تقترب مني.
ظهر الرد سريعاً وفيه نبرة طمأنة، أو هكذا فسَّرت:
-من الناحية هذه، هناك حاجز كاف ٍ بيننا، لا يمكنني تجاوزه. لقد جئتك بما تبحث عنه.
أدرت رأسي، وأنا أركّز في الإصغاء بأذني اليمنى:
-وهل هناك ما يفيد باسمك، وأنت قاتل البشرية ومهدّدها بميتات تترى ؟
-أرأيتَ كيف تحكم بطريقة لا تتناسب وما تكتب وما تقرأ. لا علاقة لي بما يجري بين بشرك، وما يقولونه أو يردّدونه عني أنا بالذات.
-إذاً؟
-فإذاً، بشرُك هم من أوجدوني، كما كانوا وراء أمراض، آفات، أوبئة كثيرة مذ وجِدوا، وهم من يمكنهم إزالتي من الوجود، أو الدْفع بي جانباً، وممارسة حياتهم الطبيعية، كما كان شأنهم مع أمراض، وأوبئة أشد فتكاً بهم سابقاً، وحتى الآن في عالمهم .
هدَّأتُ نفسي، تشكَّلَ لدي فضول لمتابعة المنتظر، وأنا أستشعر فائدة ممّا أسمع:
-والآن، ماذا بقي لك؟
-بقي الأهم، الأخطر، الأفظع، الأعرق، الأوخم، الأشد خراباً وهولاً، الأكثر إثارة للرعب، و..
دون شعور مني، رفع يدي اليمني، علامة أن كفى، ثم:
-قلْها سريعاً، ماذا وراء هذه السلسلة الطويلة من العبارات التخويفية ؟
-سأقول، إنما انظر ناحيتي، إلى الأمام، فأنا أراك جيدك، لأدرك أنك تتابعني، وسأفيدُك بهذه المعلومة، فأسأسلك أولاً: هل حسبتَ المدة الزمنية التي ظهرتُ فيها حتى الآن؟ سأجيبك: أقل من عشرة أشهر، كما يقول المعنيون بي. وأسألك ثانية: هل حسبت عدد الضحايا، كما تسمُّونهم، وفي العالم أجمع، ممَّن ماتوا بسببي؟ سأوفّر عليك تعب الإجابة، فلديَّ ما هو دقيق، ودونما حاجة إلى الكثير من الكلام: مليون، وأقل من مائة ألف. أليس كذلك .
حسنٌ، سأسألك ثالثة:هل أنا وراء موت كل هؤلاء؟ لا تجبْني؟ فكّر فيما بعد. لا. أنت تحسبها، من خلال كتاباتك. هناك من ماتوا، إنما يحتاجون إلى الكشف عن حقيقة موتهم. لقد نسِبتْ إلي تهم كثيرة. بات كل من يموت، بلسبب عرض ما، ويُدخَل الحجْر الصحي، أو المشفى، وإن قضى نحبه، يعلَن عنه: مريض كورونا، وضحيته. أصدَّقت كل ذلك ؟
-و…
-انتظر قليلاً، قلت لك، إن لدي مهامي كذلك، ولم آت ِ لنتناقش، إنما لأبلّغك بمعلومة، وأتركها وديعة لديك، لتقلَبها على وجوهها. أسألك رابعة: مقابل هذا العدد، وهو من أصل أكثر من سبعة مليارات من البشر، كم تكون النسبة المئوية؟ بالكاد تُذكر. بالكاد تُذكر. لن يمتد بي الوقت، سوف يقضى علي، كما تم إيجادي، وحالي حال أسلافي السابقين، إنما هناك ما يبقى ولا يُنظَر فيه. أسألك خامسة: كم عدد الذين يقضى عليهم بسبب الفقر، وهو مدبَّر، الوعود الكاذبة، النهب من حولك، الإهمال الصحي، الفساد، والأخير هو الأكثر تدميراً في مجتمعك، والمؤسف أنه يُسمى لدى البعض، ومنهم كتّاب مثلك، على أنه ” فيروس أخلاقي “. لا يا سيد، لا صلة لي ولا بغيري من أسلافي وأشباهي وشقيقاتي من العاهات المرَضية، بكل ذلك. نحن الفيروسات ضرورة حياتية، واضطراب النّسب يتأتى من وراء هذا الجهل الموجَّه والمحمي أيضاً، والفساد المحروس، هناك من يموتون بالآلاف يومياً هنا وهناك، من يكونون سبباً لموت أقرب المقربين إليهم، ولمن يعيشون في أوساطهم، وموتهم الفردي والجماعي مقصود. هذا هو الداء الذي يجري تنشيطه، الوباء الذي يطلَب تفعيله، والجائحة الفتانة المنانة الحنانة، بالنسبة إلى الذين يجهِزون على حب الحياة داخلك ومن هم مثلك، وآخرين وآخرين في جهات العالم الأربع، و..
-وبعد؟
-عندما يتم التركيز على مشكلة معينة، وفي حدودها، يكون الجسم مرتاحاً وأكثر توازناً، وليس ما يجري الآن في مدينتك، حيث يتم توجيه الأنظار من قبل أولي أمرها علي ” قالها وهو يشدد على مفردة ” علي “، ليتابع قائلاً: ويتم تجاهل أو تناسي مشاكل كثيرة توتّر الجسم كثيراً، وتضعفه، وهذا يوفّر علي فرصاً إضافة لأن أنال منه، فيموت المزيد، وهذا المزيد يكون في عهدة من لا يريدون لهذه المدينة أن تستمر كما هي مدينة متزنة، و…
-اكتفيتُ
ساد الهدوء لبعض الوقت، ثم رجع الصوت إلى وتيرته السابقة، مع نبرة أكثر توازناً:
-من هنا نبدأ !
أثارني بصيغة ” من هنا نبدأ “:
-نبدأ؟ من تقصد ؟
رد في الحال:
-أنت وأنا، أو أنت وأنا، إذ أصبحت تميّز بطريقتك بين ما يخص حقيقتي وهي مؤقتة ونسبية جداً، وما يخص جملة الحقائق التي تعنيك والذين تنتمي إليهم في هذه المدينة.
شعرت هنا، ومن خلال تواتر الصوت هبوطاً وصعوداً، كما لو أن له يدين يشير بهما إلى المدينة، فقلت في الحال:
-بالطريقة هذه. لقد عرفتُك الآن.
ثم نزعت الكمّامة عن وجهي، والقفازات عن يدي ، كما لو أنه أمامي مباشرة، قائلاً:
-تصرَّف الآن على طريقتك .
وانقطع الصوت بيننا !