إبراهيم محمود
أعْيتْني هذه المدينة في التكيف معها. لا الدروب الوعرة الموحشة، لا المنحدرات الزلقة، لا الوديان المتخمة بالحشائش المِترية طولاً، ولا البقاع المريبة الآهلة بالضواري هزمتني، وسرَّعت في وتيرة عمري الحماري مثلها. هذه المدينة فقط، دون أي مدينة أخرى، دون سواها، أورثتْني الحمّى الحيوانية التي تصيبنا نحن معشر الحمير في مثل حالات العجز هذه.
حمَّاها أعادتني إلى الوراء كثيراً، إلى حكاية جدّي الحمار الأول، وكما وصلتني الحكاية عن طريق التسلسل، وموجزها، أننا لم نصبح حميراً، لم نعرَف حميراً كما نحن الآن، إلا لأننا حوصرْنا، وسرِق منا صوتنا، لنعرَف بـ” النهيق ” فقط، وصلابتنا، لنعرف بالغباء فقط.
لم يتركوا حيواناً إلا وحمّلوه كما قوَّلوه ما يزيد في ضلالهم، ليكون لنا نحن الحمير السهم الأوفر طبعاً، ليس حبّا بنا، بل ضرباً لنا. يا لحظنا العاثر نحن الحمير، وهم يسيّروننا على هواهم.
أسمعهم هؤلاء سكنى هذه المدينة الأصليون، في معظمهم، كما يزعمون، وكيف أن كلمة ” الحمار “لا تفارق ذاكرتهم ولسانهم، شتيمة، نقيصة، وإهانة لافتة، يوجهونها إلى بعضهم بعضاً.
أإلى هذه الدرجة ينسون أو يتناسون من يكونون في حمْل أثقال بعضهم بعضاً، من يوفّر عليهم أتعاباً يومية، وفي تسخيرهم لبعضهم بعضاً، وفي تحميل بعضهم بعضاً إهانات، ودفعاً ببعضهم بعضاً قطيعياً، وإنزال السياط في بعضهم بعضاً، ودخول الكثيرين منهم في خدمة القليل القليل منهم، وتحمُّل توبيخاتهم ومن ثم بذاءاتهم، ومن ثم الاستمرار الأخرس في طاعتهم، أكثر منا، فكثيراً، ما يلجأ أحد أخوتنا من الحمير إلى الرفس، أو اللبط، أو وهو يحرد ويعاند، ويهجم على صاحبه في موقف ما، رفساً بقائمتيه، أو عضاً له بأسنانه الحادة، حين ينفد صبره؟ أينسون ما نصبح عليه حين تتلبسنا سورة حمارية، فنندفع غير عابئين بالخطر، عندما نشعر بما يضايقنا ؟
أإلى هذه الدرجة يرسمون صورة عنا حميراً تقبل كل ضرب وعبء وتجويع دون رد فعل؟
لسنا كذلك أبداً، فنحن الحمير بيننا توادد وتراحم، وإذا كان هناك من حساسية، فهي دون ما يقوم به هؤلاء، وهم لا يكفّون عن التطاعن والتصارع والتقاتل، وهم يعرَفون بكل ذلك غالباً.
أنستحق،نحن معشر الحمير هؤلاء، كل هذا العقاب، ومن هذه المدينة بالذات، كما لو أنها لا تعرف من بين الحيوانات سوانا؟ كيف سيكون حالها لو لم نكن موجودين نحن؟
هناك سرٌّ ما في الموضوع، كلمة ضائعة، يبحثون عنها، وأعينهم علينا، لا بد أن هناك ما هو أخطر مما يُسمّونه ويعنونه، ويتداولونه فيما بينهم، يريدوننا بينهم، ليوجدوا بنا .
لكَم كنّا في بحبوحة العيش: عشب، ولا أوفر منه، ماء، ولا أصفى منه، هدوء، ولا أروع منه، واستقرار، ولا أعظم منه، إلى أن ارتكب سلفنا الأول خطأ قاتلاً، لا يُغتفَر، ندفع ضريبته الباهظة إلى الساعة، حين اختار الوقوف إلى جانب هذا الداب على اثنتين، ودون كل المدن الأخرى، اختار الإقامة في هذه الإقامة وفي جوارها، لنكسب أعداء من الخارج، ونكون مسخرة لمن فيها صغاراً وكباراً، رجالاً ونساء، وعيونهم مثبتة على آذاننا، رؤوسنا، وكل ما يعنينا.
ينسِبون إلينا كل الصور التي تزيدهم إيذاءً لنا، ولا يترددون في استخدامنا في كل أثقالهم .
يمتطوننا، دون أي تقدير لقدرتنا على التحمُّل، ويعلّمون صغارهم الأشقياء ليلهوا بنا، وينخسوننا بالقضبان والعصي ذات الرؤوس الحادة، فلا تسلم جهة من جسمنا من ضرباتهم .
يا للبشر العجيبين في هذه المدينة الغريبة بكل ما فيها. ليس من حالة إلا ويأتون على ذكرنا، لينالوا من بعضهم بعضاً، وذلك من خلالنا. ماذا يحصل لو انعدمنا دفعة واحدة؟ هل حقاً أنهم يستطيعون الاستغناء عنا، أنهم قادرون على التعامل مع بعضهم بعضاً بعيداً عنا؟
تناقضات تلو تناقضات تترى، يربطون الصوت القبيح بصوتنا، هل حقاً إن أصواتنا منكرة، وهي الوحيدة الدالة علينا، وكلمة التعارف فيما بيننا، وفيها إشارات نحن فقط نعرفها ؟ وماذا عن أصواتهم، وهم يرفعونهم، ويزعقون، ويصدعون الرؤوس، دون التفكير في أذاها ؟
يخاطب أحدهم الآخر، محتقراً إياه قائلاً: يا حمار، أو يا بغل وهو سليلنا، فنحن نصل ما بين البغل والحمار والحصان والفرس. أهو ذنبنا حين نتمايز عن حيوانات كثيرة، فيكون فينا البغل والنغل وهما من بين أكثرنا تسخيراً للأحمال والمشاق؟ نحن الحمار، ونحن بردعة الحمار،
يضربون بنا المثل في الغباء أو ” الحمرنة “، دون أن يفكّروا، ولو للحظة واحدة، أن هؤلاء الذين يذمّون غيرهم ويحتقرونهم، بفضلنا نحن الحمير يسلبون الناس ما يشاؤون وينهبونهم.
لكم يقلّلون من شأننا، ونحن المطلوبون حميراً وسلالة حمير من البغال في السلم والحرب، في المرتفعات والجبال، وسيرنا في أشد الطرق صعوبة سلوك .
يا لسخفهم، حيث يهين أحدهم الآخر في عضوه، على أنه ” غرمول الحمار “، وهل هناك من لا يشتهي أن يكون عضوه مثل ” غرمول الحمار ” بالنسبة إلى أغلب رجالها، هل هناك من النساء، إلا القلة القليلة، ولا يشتهين بالمقابل، أن يكون لأزواجهن ما لغرمول الحمار بالمقابل ؟
أم لماذا يسب رجالها غالباً نساءهم، والكلمة الأكثر استخداماً هو ” غرمول الحمار “؟
كيف يستعينون بـ” غرمول الحمار ” في الشتائم المقذعة، وفي الوقت نفسه، يشتهي أغلب رجالها أن يكون لدى كل منهم، ما لـ” غرمول الحمار ” ولزوجته ما لأنثاه ” الأتان “؟
نصبر على تحمل أذاهم لنا في كل شيء، وفي النهاية يُنزِلون فينا ضرباً وطعناً، ليظهروا عفَّتهم فيما بينهم، بينما في قرارة كل منهم، أكثر من سلوك مشتهى مستعار منا نحن معشر الحمير !
أي بشر هم هؤلاء حين يحمّلوننا ما ليس فينا، ليبقوا دون ما ينسبونه إلى أنفسهم؟ بشر هذه المدينة أكثر من غيرها، لا يتعلمون من سواهم، من أنفسهم من حولهم، حيث لا يستثنون جزءاً يخصنا إلا وفيه ما يعنيهم، من الرأس إلى القوائم، ومن ثم البردعة المذكورة، وحمار القطيع؟
ألا ليتهم عاينونا قليلاً، لبعض الوقت، وتعايشوا وإيانا، ولو لبعض الوقت، كما نحن حقيقة، وليس ما صوّر لهم عنا. ألا ليتهم مارسوا حبّاً غريزياً من النوع الحماري لبعض الوقت، وعلاقة حبّية وجِوارية وقطيعية كذلك، من النوع الحماري، ولو لبعض الوقت أيضاً، ليكتشفوا مدى حاجتهم إلى زمن طويل طويل، كي يروا مدى ابتعادهم عن حقيقة ما يجري فيهم وداخلهم، ليكسبوا مناقب حمارية، ويتبينوا ظلمهم لأنفسهم وبأنفسهم، ولتكون مدينتهم، هذه المرَّة، مدينة بشر فعليين، يكون نسَبهم إلينا أكثر صلاحية من نسبهم الذي يعرَفون به، ولو لبعض الوقت .