المتحوّلون

إبراهيم محمود
أربعة من الأصدقاء الذين خَبِروا بعضهم بعضاً منذ عقود من الزمان، سلكوا طريقاً طويلاً، متوجهين إلى جهة بعيدة نسبياً، لينظموا أمورهم فيها .
لم يكن سلوك الطريق سهلاً، إذ كان يتصف بالوعورة والحفر المعترضة، وهذا يعني زيادة في زمن الوصول إلى مقصدهم .
شعروا بلزوم الراحة، حيث السماء ملبَّدة بغيوم بيضاء ناصعة، مرفقة بهبوب رياح شديدة البرودة، فاحتموا ببيت مهجور، كان نعمة عليهم، ليجدوا فيه الدفء، خصوصاً وأنهم أشعلوا ناراً في حطب متوفر في محيط البيت، ومعهم زوادتهم وقد حسبوا لها حساباً.
انتشر الدفء في كامل أجسامهم المدثّرة بثياب سميكة تجنباً لأي طارئ، وتحمسوا لتبادل الطرائف والفكاهات والتعليقات، وهم يتناولون طعامهم الساخن .
خطرت على بال أحدهم فكرة لتزجية الوقت، فقال:
-لنلعب لعبة مسلّية !
فرد البقية مستفسرين :
-أي لعبة ؟
-أن يسمّي أي منّا ما يشتهي أن يكون .
استظرفوا فكرته واستملحوها.
فقال أحدهم:
تمنيت كثيراً أن أكون حمَلاً وديعاً !
-ولماذا الحمَل ؟
سأله أصدقاؤه !
-لا أطيب وأحن من الوداعة في حمَل صغير، لأن كل ما فيه يبعث في داخلي الأمان والراحة والمحبة وحتى البراءة .
رد المجاور له معلّقاً وهو يضحك، دون أن تفارق عيناه صديقه ” الحمل الوديع “:
-وأتمنى أن أكون ذئباً .
-استغرب صديقه ” الحمل الوديع ” أمنيته، وسط فضول الآخريَن، واستفسر منه:
-ولماذا الذئب ؟
-لأن لحم الحمَل شهي جداً، ولا يكلّف جهداً في الانقضاض عليه .
وبصورة أوتوماتيكية ، رفع الثالث في الجوار صوته، وهو يضحك:
-وأنا أتمنى أن أكون نمراً .
-ولماذا النمر؟
قاله الرابع الذي لم يُسمّ أمنيته بعد .
فرد وهو ينظر إلى صديقه ” الذئب “، وملؤه ضحك هو الآخر:
-لكي أفترس الذئب الذي افترس الحمل الوديع !
وهنا رد الرابع الذي بقي عليه هو الآخر لأن يُسمّي رغبته، حيث قالها وهو يقهقه:
-وكم أتمنى أن أكون أسداً ؟
فاستفسر صديقه ” النمر ” منه مستغرباً:
-هكذا، أسد، ولماذا؟
-لكي أفترس النمر الذي تكونه أنت.
نظروا إلى بعضهم بعضاً، وبضحكات متقطعة، إلا أن الصديق ” الحمل الوديع ” كان أسرع إلى إظهار ملامح جامدة لفتت أنظار أصدقائه، وهو يتململ في مكانه:
-ما بك؟ تتململ في مكانك؟ ماذا دهاك ؟
نهض واقفاً، وهو يحزّم نفسه، بحزام قماشي ضغط عليه، يلف به ظهره، وهو يقول بحيادية جلية:
سأرجع إلى البيت !
-إلى البيت ؟
قالوها معاً، وهم يستغربون تصرف صديقهم .
-نعم، لم يعد من نفع للمتابعة .
قالها، وهو يحضّر نفسه للخروج، فاندفعوا إليه للحيلولة دون خروجه:
-ماذا دهاك؟ كنا نتفاكه .
فرد صديقهم:
-لقد اخترتُ الحمَل الوديع، للصفة التي وجدتها فيه، أما أنتم فلستم كذلك، لقد اختار كل منكم ما يستعدي الآخر، وهو يظهر عداوته له، ومدى العنف الخفي في داخله. لماذا لم يقل أحدكم أن يكون جدْياً، أو حمامةً مثلاً، أو سمكة في ماء ؟ لماذا اخترتم أضرى الحيوانات وأشرسها ؟
اندفع الكبير عمراً من بينهم، وهو الذي اختار أن يكون أسداً، محاولاً تهدئته:
-يا رجل، إلى أين تمضي في مثل هذا الجو العاصف والطريق طويل ؟
حاول أن يحرر نفسه من يديه:
-لقد عبّر كل منكم عما في نفسه. من يعلَم ماذا يحصل بعد ذلك، إذ ربما تثلج، وننقطع، ويتحول كل منكم، إلى ما أراده، وأكون الضحية الأولى. لم يعد هناك من أمان في البقاء .
-يا رجل، أهكذا فسّرت ما جرى بيننا، ومخاوف الطريق ؟
قالها من تمنى أن يكون نمراً .
-أن أموت من البرد في الطريق، أو يلتهمني حيوان برّي، أفضل من أن يُقضى علي بينكم.
واندفع صوب الخارج، حيث العاصفة الهوائية التي ازدادت، زمجرت، والظلام بدأ ناشراً سواده في الجوار.
بقي الثلاثة وهم وقوفٌ، ينظرون في وجوه بعضهم بعضاً باستغراب، كما لو أنهم يبصرون بعضهم بعضاً للمرة الأولى، ووجوههم مخطوفة على وقْع قرار صديقهم الذي كان ..!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

أحمد جويل

طفل تاه في قلبي
يبحث عن أرجوحة
صنعت له أمه
هزازة من أكياس الخيش القديمة……
ومصاصة حليب فارغة
مدهونة بالأبيض
لتسكت جوعه بكذبة بيضاء
……………
شبل بعمر الورد
يخرج كل يوم …..
حاملا كتبه المدرسية
في كيس من النايلون
كان يجمع فيه سكاكرالعيد
ويحمل بيده الأخرى
علب الكبريت…..
يبيعها في الطريق
ليشتري قلم الرصاص
وربطة خبز لأمه الأرملة
………
شاب في مقتبل العمر
بدر جميل….
يترك المدارس ..
بحثا…

مكرمة العيسى

أنا من تلك القرية الصغيرة التي بالكاد تُرى كنقطة على خريطة. تلك النقطة، أحملها معي أينما ذهبت، أطويها في قلبي، وأتأمل تفاصيلها بحب عميق.

أومريك، النقطة في الخريطة، والكبيرة بأهلها وأصلها وعشيرتها. بناها الحاجي سليماني حسن العيسى، أحد أبرز وجهاء العشيرة، ويسكنها اليوم أحفاده وأبناء عمومته من آل أحمد العيسى.

ومن الشخصيات البارزة في مملكة أومريك،…

عبد الستار نورعلي

في دُجى الليلِ العميقْ:

“سألني الليلْ:

بتسهرْ لِيهْ؟”

قلْتُ:

أنتَ نديمي الَّذي يُوفِّى ويُكفِّى،

ويصفِّي..

منَ الشَّوائبِ العالقة..

بقفصِ صدري المليءِ بالذِّكرياتِ الَّتي

تعبرُ أفْقَ خيالي..

بارقاتٍ

لامعاتٍ

تَخرجُ مِنْ قُمْقُمِها،

ففيكَ، أيُّها الليلُ الَّذي لا تنجلي،

أُلقي صَخرةَ النَّهارِ عنْ كاهلي،

وأرفعُ صخرةَ الأيامِ والكتبِ والأقلامِ

والأحلامِ،

والكلامِ غيرِ المُباح،

وفي الحالتين أشهقُ..

وأتحسرُ

وأزفرُ..

زفراتٍ حرَّى،

تسمعُها أنتَ، وتعي،

فما فاتَ لمْ يفُتْ،

وما هو آتٍ آتٍ لا ريبَ فيهِ!

وأشتكي لكَ ولصمتِكَ المهيبِ؛

فأنتَ الشِّفاءُ،

وأنتَ…

عِصْمَتْ شَاهِين الدُّوسَكِي

بَدٍلْ لَا تَتَبَدَّلْ

بَدٍلْ اسْتَقِرْ لَا تَنْفَعِلْ

فَالْأَدَبُ أَنْ تَتَحَكَّمَ

فِي الْمَوَاقِفِ لَا تَتَعَجَّلْ

***

الْحَيَاةُ لَيْسَتْ مَنَاصِبْ

وَلَا كُرْسِيٌّ لَكَ مُنَاسِبْ

<p dir="RTL"...