إبراهيم محمود
ضاق أحمد خاني الشاعر الكردي الكبير صدراً بعزلته، وشعر بحاجة إلى الخروج من قبْره، ليتنفس هواءً، ويتجول في المدينة قليلاً، ليضيف أبياتاً شعرية جديدة إلى رائعته ” مم وزين “.
خرج بلباسه الكردي المعروف، وداعبت لحيته المقتصدة أنسام هواء عليلة، وقد استشعر روحاً جديدة بين جنبيْه، الأمر الذي حفَّز لديه رغبة حميمة لأن يستطلع المدينة جيداً.
راعه منظر غريب، وهو يرى كثرة الثعالب فيها، إذ نادراً ما كان يرى رجلاً أو امرأة، إلا ومعه/ معها ثعلب، كما هي الثعالب التي عرِفها في أيامه، مع فارق أن أذيالها بدت طويلة أكثر من اللازم، وأفواهها مستدقة، وآذانها عريضة ومنتصبة، مع ميلان قليل على جانبيّ الرأس.
لم يستطع ضبط نفسه من الضحك إزاء منظر ثعالبي كهذا، خصوصاً، حين كان يلاحظ مدى الاهتمام بها، جهة النظافة، والسير وراءها، كما لو أن الثعالب هي المرشدة في المدينة.
وبالمقابل، كانت رؤية رجل غريب بهذا اللباس، وتلك السحنة غريبة جداً، وهو ما لاحظه بنفسه، حين تناهت إلى مسامعه أصوات ” جِك، جِك، جِك “، كانت صادرة عن أجهزة الموبايل التي يحملها أهل المدينة، ويلعبون بها، حتى بالنسبة إلى من أعمارمن هم دون ست سنوات: حبل الثعلب بيد، والموبايل الذي ينظَر فيه بيد أخرى، وثمة تغيُّر ملامح مع كل خطوة لأيّ منهم.
كانوا يلتقطون صوره، وهو غير دار ٍ، وهم في غاية المرح، وينقلونها إلى صفحاتهم الفيسبوكية وكذلك معارفهم ومن يتواصلون معهم، وكُروباتهم.
حاول الاستفسار عما يجري، فلم ينتبه إليه أحد، مخافة أن يؤذيه وهو بهيئته تلك. وبعد جهد جهيد عثر على رجل بدا عليه مقعَداً، يفترش أرضية مقابل بيت لا يخفي قِدمه، وباب خشبي متآكل، وبعد السلام عليه على طريقته، استفسر عما يجري في هذه المدينة، التي كانت تتكلم بلغة أغلبها كردية مفهومة إلى حد ما. وبالكاد تبيَّنه الرجل، فقد كان يعاني من ضعف نظر، ووجه متآكل كباب بيته، ليرد عليه: تبدو غريباً يا أخي ؟
كان جواب أحمد خاني:
-أي نعم، أنا غريب، غريب جداً.
ليأتيه جوابه هو الآخر، وهو متقطع الأنفاس:
-إنه تقليد، تقليد، ومن لا يصطحب معه ثعلباً، أياً كان جنسه، لا يُعدُّ من أهل المدينة، دون الثعلب لن يكون لك شأن، وإذا أردت المزيد، فامض إلى تلك البناية، سوف تعرف كل شيء.
شكره أحمد خاني، واستحث الخطى، تقوده رغبة طلب العلم والمعرفة، من أجل ” مم وزين “، وهو يقدّر أي تغيير ستطرأ عليها، خصوصاً، مع هذا المنظر جديداً.
سريعاً دخل البناية عبْر بابها المفتوح.
فوجىء بشباب وشابات، وهم يحملون أجهزة، ويوجّهونها صوب بعضهم بعضاً، وملؤهم ضحك. لقد كانوا يلتقطون صوراً لبعضهم بعضاً، ويقومون بحركات، كما لو أنهم ثملون .
أوقفت حركاتهم رؤيةُ رجل غريب لباساً وهيئة، وركَّزوا أنظارهم عليه.
سلَّم عليهم بطريقته الخاصة .
ردّوا السلام، وهم يستطلعون هيئته، ويحاولون التعرف عليه.
أحدهم قدَّم له كرسياً، وهو لا يخفي ضحكة خافتة،يشده فضول كغيره لمعرفة من يكون .
استغرب أحمد خاني، وهو يجد نفسه محط أنظارهم، أنظار غريبة لا تشي بود، إنما فيها من الريب والحذر الكثير.
نظر في وجوههم الحليقة، وهناك من أطلق لحية لا تشبه كل أشكال اللحى التي شاهدها في حياته، وبنات يلبسن أثواباً أمعن النظر فيها كثيراً، حيث تظهِر أحجام أجسامهن، كانت كانت بناطيل وقمصاناً، وشعوراً سافرة.
-يبدو أنك غريب يا عم ؟
التفت إليه أحمد خاني:
-غريب يا عم؟ ألم تعرفوني ؟
نظروا في وجوه بعضهم بعضاً مستغربين من سؤاله، ليرد السائل الأول:
-ليتك تنوّرنا بمعرفتك ؟
ضاق بسؤاله وما يجري أمام ناظريه :
-ألم تسمعوا بأحمد خاني، الشاعر أحمد خاني ؟
ردت صبية حسناء، وهي تقلب شعرها إلى الوراء:
-أوووه، الذي لا يملك موبايل ؟
-وما هذا الذين تقولينه يا ابنتي ؟
أجابه شاب بابتسامة لا تخفي سخريتها:
-تقصد أنك غريب .
-أليس هناك من لم يسمَع بعد بـ” مم وزين ” ؟
رد عليه ذو شعر طويل ولحية متناثرة، وهو مقابله، تتقدمه ضحكة:
-أوووه، نعم، إنما نحن زعلانون منك، كان يجب أن يتزوجا، لماذا أنت متطرف هكذا؟ أنت رجل ” دقة قديمة ” يعني لا تؤمن بالحب الذي يجمع بين الرجل والمرأة .
استشعر قلبه وهو ينبض سريعاً:
-أهكذا تفهمون الحب ؟
-طبعاً!
رد الجميع بصوت واحد، وهم ينظرون إلى بعضهم بعضاً، مع ضحكات متبادلة.
قدَّر أنه في مكان ليس هو المكان الذي يجد فيه ما يبحث عنه .
-إنما ماذا تريد يا عم ؟
استشعر أحمد خاني راحة من وراء سؤاله:
-أسأل عن أهل المدينة وثعالبها، حتى أنتم هنا، وهناك ثعالب بجواركم .
ربت أحدهم على كتفه، وقال له:
-إنه شعار المدينة يا عم، ومن لا يحترم هذا الشعار، مكانه يكون خارجاً .
-ولماذا الثعلب بالذات ؟
جاء الصوت من شاب يجلس على مبعدة منه، وبدا أنه أكبرهم:
-الشرح يطول يا عم، إنما باختصار، الثعلب كائن ظريف ونتعلم من سلوكه الكثير.
ووجهت فتاة كانت بجوار المتكلم الأخير:
-إذا أردت البقاء في مدينتنا، فعليك أن تكتب قصيدة في مديح الثعلب، ولأنك شاعر، ويمكنك أن تضيفها إلى ” مم وزين “، وسيكون لك مقام محترم، بعد إجراء تعديلات لا منها.
هز الجميع رؤوسهم، وهم يثبتون أنظارهم عليه لانتظار ما سيقول:
-أنا أمدح الثعلب؟ وكيف لي أن أمدح ثعلباً، وأنا أحمد خاني ؟
-هذا لمصلحتك، ولمصلحتنا، سوف ننشر قصيدتك في مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، ونشير إليها في نشرات الأخبار، لا بل وسنستضيفك في برامجنا .
-وما هي وظيفتكم هنا ؟
ردت عليه فتاة تجاوز سمنةُ مؤخرتها نطاق الكرسي الذي تقتعده:
-نحن هنا في دائرة الثقافة الخاصة بالمدينة، ومسئولون عن الثقافة فيها .
تملّكه استغراب مما يسمع:
-ولكن..ولكن أين هي الثقافة…؟
ثم استدرك وهو يحرّك لسانه في فمه :
-هل لكم أن تأتوني بكأس ماء، أشعر أن لساني تخشَّب عطشاً ؟
سريعاً جاؤوا له بكأس ماء .
أفرغ الكأس في جوفه سريعاً، وشعر كأن ناراً تشتعل في حجرته:
-ما هذا الشراب ؟
امتلأ المكان ضحكاً:
-يبدو أنك لم تتعود شرب هذا الماء يا عم ؟
قالها شاب اختفت رقبته بين كتفيه.
-هل خدعتموني ؟
قالها أحمد خاني وهو غضبان .
رد عليه آخر:
-سوف تعتاده بعد قليل، وستبدع في قصيدتك عن الثعلب المنشود. وبعدها سنقدّم لك ثعلباً جميلاً، لا تشعر بالوحشة بعدها، هو الذي يتولى تصريف أعمالك .
شعر بدوخة في رأسه، وبدت الوجوه وهي تتقافز أمام ناظريه.
-ها قد بدأت بدخول مدينتنا، ولا بد أنك مستعد الآن لتقول لنا قصيدتك يا عم. أسمعْنا .
قالها أحد المجاورين له.
تمالك أحمد خاني نفسه، وحاول الوقوف مستجمعاً قواه، وهو يقول في قرارة نفسه:
لازلتُ قادراً على المشي والخروج من هنا قبل فوات الأوان.
-إلى أين يا عم؟ أين القصيدة الثعلبية ؟ ألم يعجبْك مجلسنا ؟
تقدم سريعاً صوب الباب، والتفت إليهم قبل أن يخرج، وهو يقول بصوت واضح:
مبارَك عليكم ثعلبكم، سأرجع إلى حيث كنت، قبل أن تقتلوا داخلي حب ” مم وزين ” !