إبراهيم محمود
جهرت ذئابٌ بالدعاء إلى خالقها لكي يمنحها القدرة على التحوُّل إلى بشر، لتقيم في مدينتنا. فاستجيبَ لها، ودخلت مدينتنا، بشراً عاديين، وخلال زمن وجيز، أصبح هؤلاء معتبَرين في سجلاتها الرسمية، ونظراً لأن هؤلاء تجري دماء ذئبية في عروقهم، فقد تميَّزوا بالنشاط الهائل، والسرعة في إنجاز المهام الموكلة إليهم، والدقة في تنفيذها، فلفتوا الأنظار إليهم، وخلال زمن قياسي، تسنَّموا مناصب يحسَدون عليها،ليصبحوا المرجع للكثيرين ممن كانوا يسبقونهم في إدارة وظائف لها وجاهتها، وحتى تدار في جو من السرّية.
ولم يصدّقوا هم أنفسهم تلك الحفاوة التي لاقوها، وتقديم الخدمات لهم جرّاء مناقبهم.
غير أن الذي لم يستطيعوا استيعابه، وهم لم ينقطعوا كلّياً عن جرثومتهم الذئبية بعد، هو أن الهبَات كانت تأتيهم من كل حدب وصوب، حيث احتاروا في أمرها، ولم يجدوا لذلك تفسيراً، وما زاد في إيلامهم، هو في تقديم الدعوات إليهم باستمرار لحضور المآدب المنصوبة، والإلحاح عليهم في ألا يتوقفوا عن تناول أطايب الطعام المعروضة، بما أن المآدب أقيمت على شرفهم .
ما كان في مقدورهم أن يأكلوا أكثر ما اعتادوه، لكنهم كانوا يستغربون من وجود المحيطين بهم، وهم يلتهمون كل ما يقدَّم إليهم، كما لو أن بطوناً أخرى خبّئت داخلهم.
هذه المقدرة المحددة في تناول الطعام، كما تعلّموها سابقاً، أثارت ريبة مَن حولهم، وأصبحوا يتهامسون فيما بينهم، مشيرين إلى أن سلوكهم مثار شبهات، كما لو أنهم يبيّتون لأمر ما .
والجدير بالذكر أن هناك من لقوا حتفهم جرّاء هذا الإرغام القسري على تناول الطعام، كما أن البعض الآخر أودِع السجن، بدعوى أنهم تساءلوا عما يجري، أي لماذا ينتفي الشبع بينهم.
وباتوا محل رصد من مكلَّفين لهذا الغرض، الأمر الذي دفع بهم لأن يتنادوا ضمن الفسحة التي يقيمون فيها، من باب الإعلام، بعواء متكرر، يفهمون هم وحده دلالته، لكن ذلك لم يدم، إذ استنفرت المدينة كاملة، للوصول إلى مصدر العواء، وأفصح المكلَّفون بأمنها، عن مخاوفهم تجاه حالة لهذه، وعمَّموا قراراً على أنحاء المدينة، لمعرفة مصدر العواء، ومكافأة من يحدد الجناة، وهذا ما دفع بهؤلاء إلى المزيد من الحذر، وهم يستغربون فيما بينهم، تجاه هذا الموقف، وكيف أن عواءهم بالذات أصبح محظوراً عليهم، وهذا من شأنه الدفع بهم لأن يتنبهوا إلى ما يمنهم القيام به، وهم يعبّرون عن ندمهم على ما قاموا به، وملؤهم عجب بخصوص مدينة لا تعرف الشبع، وخصوصاً، حين حاول أحدهم التقدم صوب مركّز وظيفي مهم، وبصورة غريزية، ليتولى إدارته، لكنه ووجه بالعنف والإهانة، وزادوا استغرباً، وهم يرون وجوهاً كثيرة في وظائف تتطلب المزيد من اليقظة وسلامة الجسم وقوته، كما كانوا يتعاملون فيما بينهم سابقاً.
تذكّروا تلك العلاقات المنتظمة فيما بينهم، جهة زعامة القطيع، والقيام بالمهام المشتركة، تذكّروا فيما بينهم حبَّهم الذئبي العريق، وطرق عناقهم لبعضهم بعضاً.
كانوا يلتقون بشكل دوري، وهم يتداولون ما يجري في هذه المدينة، وفي كل لقاء، ينوّهون إلى عجزهم عن فهم طبيعة إدارة شئون المدينة، ومن خلال أشخاص فقدوا المقدرة على القيام بأخف المهام، أو أبسط الأعمال، لا بل والقدرة على الكلام دون تلكؤ، والمشي دون دعم معين.
ودفعهم سوء وضعهم المتزايد، إلى أن يلتفتوا إلى أمر، لم يشغل بالهم قط سابقاً، وهو ما أعلموا بعضهم بعضاً، لأن يخرجوا من هذه المدينة دون رجعة، وهم يردّدون متسائلين فيما بينهم:
ماذا يجري لو أن هناك بشراً بالمقابل، ومن هذه المدينة، دعوا خالقهم مثلنا، ليصيّرهم ذئاباً، ويخالطوا بني جنسنا، ويقضون على كل ذئبية فيهم، ويكونون سبباً لانقراضنا ؟!
كيف فاتهم تفكير كهذا؟ كيف شغلهم البقاء في المدينة، والانقطاع عن برّيتهم والمخاوف الفعلية؟
لكَم أرعبهم هذا التفكير وتداعياته، لينطلقوا إثر ذلك بسرعة البرق، وهم يفكّرون في بني جنسهم، غير مصدّقين، كيف يخرجون من المدينة، ويبلغونهم قبل فوات الأوان.