إبراهيم محمود
تقع مدينتنا في منخفض أرضي كعين مفقوءة وثمة جبال تحيط بها، وليس من سَنة تمر، إلا وتقع تحت رحمة سيول جارفة، تعرّضها لأخطار كثيرة في الأرواح وموارد الرزق، والأخطر من كل ذلك، النهر الذي يمر بالقرب منها، ومجراه هش، لهذا، فإن تربته من الطرفين تشهد انجرافات متتالية،إذ تتزايد أعداد ضحاياه سنوياً، وحتى الحيوانات الأهلية، والأشجار التي تُقتَلع، حيث يجري ماء النهر سريعاً، ومن الصعب السباحة فيه، أو اعتباره صالحاً للملاحة. وبصفتي أقدم مهندس تربة في المدينة، فقد أشرتُ في أكثر من مكان ومناسبة، وعبر مقالات لي، بلزوم لجم هذا النهر، وحتى حماية مدينتنا من الأخطار المحدقة بها، في السيول الدورية حدوثاً، والأخطار المتزايدة لهذا النهر: عندما يفيض، وعندما ينخفض مستوى منسوبه، وما يشهده من سقوط ضحايا فيه، بسبب بنية التربة المجاورة، وأخيراً، تحقق هذا الطلب، ففرحت وأي فرح !
حين دعيت لاجتماع من قبَل مجلس المدينة، في رسالة رسمية، وبعبارات منمَّقة، بصفتي المهندس الخبير في دراسة التربة، إلى جانب كوني المحيط علماً بجغرافية المدينة كذلك.
رأيت بين أعضاء المجلس وجوهاً جديدة، اعتقدتها من الجوار، كانت مألوفة، حيث سلَّمت عليهم مصافحاً إياهم باليد، ومرحّباً بهم، فسلَّموا علي، وهم يبتسمون قليلاً، وبدوا أقرب إلى التكتم، كما لو أنهم أقسموا اليمين ألا يبتسموا، فلا تظهر أسنانهم، ألا يمدوا أيديهم لحظة المصافحة، كما يجب، ويهزّونها قليلاً، تعبيراً عن الود، كما لو أنهم هنا ربطوا بين كل حركة يد وطبيعتها والجهد المبذول ومقدار الطاقة الجسمية المستهلكة، وحتى عيونهم كانت بالكاد تطرَف، كما لو أنها صناعية، وقد اعتبرت كل ذلك من باب إعطاء فكرة عنهم، وذلك في أول لقاء، حيث لا بد من تصرفات كهذه، خصوصاً وأن طبيعة العمل تتطلب هنا، التصرف بصورة رسمية .
قيل لي أن هؤلاء يشكّلون فريقاً كاملاً للبدء بالعمل في بناء سد على نهر المدينة، للاستفادة منه، بحيث لا تعود المدينة تنام، وخاصة في فصل الهطولات المطرية، وفيها خوف، ويتم ضبط مجرى النهر كذلك، الأمر الذي يعني كذلك توليد الطاقة الكهربائية وغيرها .
شكرت مجلس المدينة على الدعوة الموجهة إلي، بمقدار ما رحَّبت بالقادمين، واعتبرتهم أهلنا، ولا بد أنهم يمتلكون فكرة شاملة عن طبيعة النهر من النواحي كافة، تتناسب وبناء سد بالمواصفات المقدَّمة، والدراسات النوعية ذات الصفة المسحية للتربة، والبنية الجيولوجية، والقشرة الأرضية، وضمن مساحة مقدَّرة، حيث يدخل فيها حساب الزلازل والبراكين، وما يتعلق بعمق التربة والمواد الداخلة فيها، والمواد الخرسانية اللازمة لبناء السد…إنها المعلومات الأساسية التي أتيت على ذكرها، وما فيها من مصطلحات ومفردات خاصة بمهنتي بالذات، وأكَّدت عن أننا معاً، أي كفريق عمل، سنسعى جاهدين إلى أن يكون بناء هذا السد حدثاً تاريخياً، يستحق الاحتفاء به، وما يدر على مدينتنا من فوائد كثيرة .
أوجزت كلمتي، فأنا لا أحب الاستطراد في الكلام، وانتظرنا أعضاء المجلس الموقرين وأنا، من يمكنه الكلام باسم الفريق القادم، كما هو بروتوكول العلاقة، وفي أول لقاء، ليكون الانطباع محفّزاً على البدء بالعمل، والدافع النفسي إيجابياً، سوى أن المتكلم باسم الفريق، وبالنسبة إلي بالذات، خيَّب ظني فيما يقول وحتى في فريقه، طالما أنه يمثله في عمومه، فكلماته كانت عادية جداً، عدا عن أنها جاءت مقتضبة للغاية، إلى جانب أنه كانت يتكلم ببطء، ويضغط على الكلمات، كأنه جهاز طابعة ورقية، تشكو مشكلة في داخله، حيث بالكاد يفتح فمه.
ما أعرفه جيداً، أنه في وضع كهذا، لا بد أن يكون للكلام ميزته، وليس عاماً، ورغم ذلك، فقد حاولت اقناع نفسي على أنه ربما لا يريد التركيز على مفردات مهنية تماماً، كما تصرفتُ أنا، لا يريد الإطالة، في مثل هذا اللقاء، ولعلّي أنّبت نفسي قليلاً مخافة أنني تحدثت أكثر من اللازم، خصوصاً وأنني حين كنت أتكلم، وأنا أوزع نظراتي بين وجوههم ووجوه أعضاء مجلس مدينتنا، كانوا بدورهم يركّزون أنظارهم علي، بصورة حيادية تماماً، وهي توحي أحياناً بأنهم ربما يفكّرون في أمور أخرى ليس لها أي علاقة بطبيعة اللقاء وما هو معَد له. ورغم ذلك أيضاً، فإنني حاولت ضبط نفسي، لمعرفتي المتواضعة بوجود اختلافات بين البشر، ولا ينبغي إصدار حكْم على أي كان، في أول لقاء، أو اجتماع، فالمحك هو العمل وطبيعته تالياً.
أضيف إلى ذلك أمراً، لا بد من الإتيان على ذكره، وهو أن فرحي بمجرد طرح فكرة بناء السد، وما كانت تعانيه مدينتنا من مخاوف للأسباب المذكورة سابقاً، حيث أحتفظ بسجل خاص بي، وفيه دوّنت، ليس ما شهدته مدينتنا هذه من كوارث طبيعية، وللنهر نصيب كبير في حدوثها، وطبيعة الأخطار، والخسائر المادية منها والمعنوية، بالتاريخ الدقيق، على مدى عقود طويلة من عمري، وإنما ما تمكنت من معرفته وأنا أنتزع المعلومات من معمّريها، وكل ما له صلة بجغرافية المدينة، والطبيعة الجوفيه فيها، حتى جهة الحكايات والأمثال ذات الصلة كذلك، فرحٌ لا يمكنني وصفه، في ضوء هذه المعلومات المقيَّدة، والتي تشكل أكثر من مجلد ضخم .
بقي علي أن أعلّق على الاسم الذي أعطي للسد، وهو ” السد الشجاع “، لقد أبديت ملاحظة، اعتبرتها عادية جداً، أي في محلها، إذ ما صلة ” الشجاعة ” بالسد؟ أليس من اسم آخر يمكن منْحه للسد، كما هي السدود المقامة في مختلف أنحاء العالم، اسم يخص مناسبة معينة، اسم يرتبط بشخص معين له مزاياه في ذاكرة المدينة، قيمة معينة، سوى أنني جوبهتُ، وأكثر من ذلك، وجِهت إلي ملاحظة وهي أنني غير مطلع ، كما يجب، بحقيقة اسم كهذا، فالمقصد منه، هو إبراز هذا السد، وللأعداء المحيطين بالمدينة، على أنه هو نفسه كائن حي، أنه شجاع، لا يهاب أحداً، وأنه بالمرصاد للعدو. ماالذي أوحى بمثل هذه الفكرة الغريبة فعلاً، وبكل المعايير ؟
وانتظرت لحظة البدء بالعمل، انتظرت دعوتي من قبل الفريق القادم أو المستقدَم، لكي نتدارس فكرة بناء السد: أين، وكيف، وما يجب وضعه في المخطط، وما يلزم لكل ذلك مادياً وعلمياً، سوى أن الانتظار طال، إلا أنني فوجئت أن فريق العمل هذا، وكما أُعلِمت، قد خُصّصَ له موقع في أعلى مرتفع أرضي مجاور للمدينة، وما يشبه المخيم أو المعسكر، وفي بيوت جاهزة، وقد دعِيتُ لمرة واحدة إلى هناك، وتبين لي أنهم يحملون مخططاتهم معهم، وهي معدة مسبقاً، ولكم حاولت المستحيل أن أرى هذه المخططات المتعددة الوظائف والمتعلقة بالمشروع المنتظر تنفيذه، دون جدوى. جل ما قيل لي، أن عملي سيتحدد لحظة بالبدء بالمشروع، وأنهم قد أعدّوا لكل شيء، ولا داعي للخوف أو حتى للعجلة. كانوا يتكلمون وأنظارهم صوب جهة أخرى.
أتراني، في الحالة هذه، أشكو من حساسية معينة، حين أشير إلى أن القلق بدأ يساورني، ولا بد أنه وثيق الصلة بصفتي المهنية وصلتي بالمكان بالذات، وكون الذين قدِموا بالكاد يتكلمون، وإذا تكلموا أوجزوا، وليتبادلوا أحاديث فيما بينهم، بكلمات يصعب علي فهمها غالباً، كما لو أن لديهم لغة خاصة بهم، أم أن هذه الحساسية في محلها، ومن موقع الحرص على مدينتي وأهلها، وكوني أحسب الحساب الدقيق للمستقبل؟
لا أخفي أنني ومن خلال عمري الطويل نسبياً، والمعارف التي اكتسبتها، وهي ذات صفة هندسية، كنت شديد الدقة في كل كلمة تقال بصدد المنطقة هيدروليكياً، أو جيولوجياً، أو تاريخياً.
وأن خشيتي هي مما يمكن أن يحصل: ترى أي أخطار تحدق بمدينتنا في حال وقوع خطأ لا يُحتسَب له، في دراسة التربة، كما يجب، في منسوب المياه وضغطها، في طبيعة المياه ذاتها، في الخرسانة المستخدمة وصلتها بالتربة: عمقاً وارتفاعاً، وطريقة إنجاز العمل ومتابعة، في الظروف البيئية، والصلة بين حدوث أي زيادة مائية في السد، وجيولوجية المنطقة، وضمن مساحة جغرافية، لا يعرف بأمرها إلا من له اطلاع في هذا المجال . إن غمْس طائر منقاره في البحيرة المائية التي ستتشكل وراء الجدار المصطنع، يؤخَذ بعين الاعتبار، ومن باب الضرورة!
خيبة أملي ازدادت مع الزمن، حيث لم يتم اطلاعي إلا على خرائط لا قيمة لها بالنسبة إلى بنية العمل ونوعيته، ومعلومات بالكاد أفصحت عما يمكن القيام به .
هذه الخيبة تحولت مع الأيام إلى صدمة، وعنصر ردْع، من قبل أعضاء في مجلس المدينة، حين علِمت بأنهم شكوني إليهم، بدعوى أنني مصاب بمرض الحساسية المرضية، والارتياب في وسطي، وعقدة التعالم، وهذا يؤثر في سير العمل، والأفضل لي أن أضبط نفسي .
اعتبرتها رسالة تحذير أدبية، ولا أعرف ما يمكن أن يحصل إثر ذلك، سوى أن الذي علمتُ به، وشاهدته بالعين المجردة، هو أن معسكرهم الذي كان محروساً بدقة عالية، كان يضاء من أول المساء إلى لحظة طلوع الشمس، وقليلاً ما تمر ليلة، دون أن يتردد صدى أصوات طرب وأغان وصيحات، وكنت أسائل نفسي باستمرار: كيف يُبنى سد في ضوء ما أسمع وأرى ؟!
كنت أتابع بناء السد، بصفتي في الموقع، وعن بعد، وفي كل مرة، كنت أشهد تراكم أخطاء في كل شيء، ولقد حاولت أكثر من مرة، ودون أن أتمالك نفسي، التدخل، لا بل ورفْع صوتي، على أن الذي خطأ، لا بل وخطأ فادح، لكنني كنتُ أبعَد أكثر فأكثر، وكثيراً ما كنت أجدهم منغمسين في عملهم، وهم يبتسمون فيما بينهم، مكتفين أحياناً بالنظر السريع إلي، وما في ذلك من سخرية حسبتها طعناً ليس في اعتباري الشخصي، وإنما استهانة بالمدينة وأهلها بالذات.
من هؤلاء، من أين جاؤوا، أو اُستقدِموا؟ لم أُعطَ أي معلومة دقيقة، وأنا أشهد بمساحة الفجوة وهي تزداد اتساعاً بيني وبينهم، وأنا أميل إلى الصمت أكثر فأكثر، جرّاء هذا التجاهل، وأنا أشعر بخوفي يتنامى، حيث أنتمي إلى مدينة، ولدتُ فيها، وكل من فيها في عداد عائلتي الكبرى، وأنا أجنح إلى الخيالات على وقْع هذه العلاقات، غير قادر على الانسحاب، بسبب هذه الرابطة، وأشعر بالضعف كوني أعدِم القوة للتدخل، والحيلولة دون الاستمرار في الأخطاء.
لقد أنجِز بناء السد بالكامل، وليس في وسعي سرد الأخطاء وطبيعتها، ونتائجها المتوقعة، ومن هم الذين سهَّلوا هذه المهمة، ودفعوا الكثير من دماء أهل مدينتنا، وتبعاً لأي علاقة، وتشكَّلت بحيرة مائية، لم أفرح لمرآها البتة، وهي بعمق هائل، وضغط مائي هائل، على خلفية قائمة الأخطار التي حسبتها من لحظة اللقاء الأول، وليس من لحظة المباشرة بالمشروع، حيث تكاملت الفكرة في ذهني، وأنا أرى مساحة زرقاء تمتد في عدة جهات، كما لو أن الجبال المحيطة بالسد هي عينها باتت تعاني ضغطاً لا يقاوم، حيث لم يحسَب له الحساب المطلوب.
وبدا الجدار المبني وبطول ما يقرب من المائة متراً، حيث مدينتنا تقع في الأسفل، كما لو أنه كف عملاق أسطوري ترتفع عالياً، والمدينة في مرمى ضربتها، في أي لحظة .
ذات صباح، أفقت، ونظرت لا شعورياً جهة المعسكر المذكور. لم يكن هناك من أثر له، كان الصمت يغطي المكان، بقي علي أن أتحوط لما سيحصل كارثياً بشكل غير مسبوق، حيث يمثُل أمام ناظري السد المدعو بالشجاع، إنما ممن، وفي من، وعلى من، وكيف ؟ !