رحلة النزوح وأمل العودة

المحامي : حسن برو
لم يكن يتوقع ان تقوم تركيا بالهجوم على المنطقة رغم قناعته بان تركيا لاشيء يمكن ردعها ايضاً، في يوم 9/10/2019 خرج كعادته من المنزل إلى المكتب…. وكان القلق بادي على وجه جميع من رأهُ في الطريق من “المنزل للمكتب ….للمحكمة “، في قاعة المحامين التي تعود ان يجلس فيها مع زملائه المحامين ليشرب معهم قهوة الصباح، كالعادة يتناقش جميع من في القاعدة البعض موالي لنظام والبعض الأخر للكرد والادارة وأخرون مع الجيش الحر ولكنهم لا يظهرون ما بأنفسهم، أخذو رأيه عن إمكانية اجتياح تركيا للمنطقة ” بشكل واثق أجاب من خلال التحليل الشخصي ” بأن تركيا لا يمكن ان تزيد مشكلتها مشكلة أخرى فهي تعاني من ازمة سياسية داخلية واقتصادية وانقسام في حزب رئيس جمهوريتها ولن يكون هناك اجتياح الا بضوء اخضر امريكي وهذا لن يحصل بحسب الأخبار التي كانت تتوارد يومها “
بعد انتهاء الدوام تزايد قلق الناس بشكل مخيف وبات البعض يحمل حاجياته ولوازمه إلى خارج المدينة ، والاجتياح بات مؤكداً ، ومع ذلك عاد للمنزل تغذى مع ضيوف كانوا في زيارة لهم بسبب مرض الزوجة وقدومها من دمشق بعد اجرائها عملية جراحية لعينها، وهو ما كان يقلقهُ كثيراً وسبباً لخوفه من أن تفقد بصرها من جديد، وبين كل حديث وآخر يطمئنها بأن لا شيء يدعو للخوف، وان حصل شيء ما ربما تقوم تركيا بقصف مناطق محددة لترضي بها انصارها، وتبعت برسالة لعدويها المقاومين من قوات سوريا الديمقراطية، لم يمضي وقت طويل حتى الرابعة عصراً عندما ظهرت خطوط بيضاء في السماء وكأنها ترسم خارطة نزوحنا باتجاه الجنوب قبل القصف الذي بدأ قبل ان تنتهي تلك الخطوط وتندثر، حينها انقلب كل شيء رأساً على عقب والحارة التي كانت صامتة وتترقب بهدوء أصبحت مملوءة “بالصوت والدخان والصراخ الأطفال العويل النساء” مع استمرار مراقبته لكل العيون الخائفة والباكية لم يقم بأي رد فعل سريع اتجاه ذلك كله إلا عندما اخبرته زوجته بالقول “وكأن عيني ستخرج من محجرها من الضغط ” طلب من ولديه تجميع المهم والذي لا يتجاوز لابتوبين (جهازي كومبيوتر) وبعض الأوراق الشخصية ” ويركبوا جميعاً في السيارة الصغيرة والتي لا تستطيع سوى حملهم، ليلحق بركب النازحين والذين امتدوا لمسافة عشرة كيلومتر باتجاه جنوب المدينة بشكل متراص أوصل أولاده لقرية قريبة لا تبتعد مسافة عشرة كيلو مترا ايضاً ، ظناً منه بأن هذه المسافة ربما تكون مسافة كافية للأمان، رجع للمدينة الملتحفة بسواد “الليل والدخان ” وكابوس “اصوات الرصاص والمدافع” ، تواصل مع بعض الأصدقاء ليجد أربعة لا زالوا موجودين، اشتدت اصوات القصف…. تعالت اصوات المقاومة احياناً وخفتت احيان اخرى ، تتسرب اخبار عن سيطرة في حي المحطة غرباً، وحي الصناعة شرقاً، بعدها تتواتر اخبار اخرى بعكس الأولى التقطوا اخر صور لرفع معنويات من يتابعهم ونشروها على صفحات الفيس بوك، والكل على قناعة بان الأمر لن يتعدى سوى هذه الليلة أو اليوم الثاني وان تركيا لن تستهدف المدنيين، بقوا للساعة الثالثة وربما أكثر ليستيقظوا على اصوات قريبة بان كل الطرق التي تربط المدينة بالحسكة والدرباسية قطعت من قبل الاحتلال التركي ومرتزقته، وبمساعدة من بعض الخلايا النائمة، بقي في المدينة تجول بحذر باتجاه السوق لم يجد سوى بعض المقاتلين والذي يراقبون الأجواء بقلق، حاول احدهم ان يعطيه سلاحاً رفض لأنه يرفض السلاح منذ ان آمن بالحقوقية حلول السياسية للقضايا المنطقة وعمل مع منظمات حقوقية لأجل ذلك والتي تؤمن بهذه الحلول، عاد للبيت من جديد، وحاول الاتصال مع زوجته واولاده الأصوات تتقطع وهم يطلبون منه الخروج، مر شريط الحياة الماضية سريعاً أمام عينيه ” هل من المعقول ان تستهدف تركيا المدنيين ؟؟!” ” هل سيعود الأهالي بتلك السرعة التي خرجوا بها من المدينة ؟ هل يمكن ان تستمر مقاومة المقاتلين مع أكبر تاني قوة في حلف الناتو ؟؟ هل سيقوم المرتزقة بالسرقة والنهب والقتل مثلما فعلوا ويفعلون في عفرين؟؟ هل سيصمت العالم عما ترتكبه تركيا بحق هذا الشعب المسكين ؟ لا يعرف كيف اغمض عينيه لمرة ثانية …….. وفتحهما على صوت قوي ولكن ليس صوت”المدافع أو القصف ” انما على صوت جيرانه الذين وجدوا سيارته أمام المنزل وطلبوا منه ان يخرجهم من المدينة ركب الجميع على عجل اطفال يبكون وسيدة تضرب وجهها ورجل قلق على اطفاله يدعي الله في كل ثانية بان لانصاب بطلقة أو شظية أو حتى قصف، عاد سريعا إلى خزانة الملابس قام بإخراج “طقمي ثياب” ولكنه رماهما من جديد في الخزانة مصمما على العودة وعدم الخروج من المنزل، غامر هذه المرة باتجاه الطريق المحاذي للحدود التركية باتجاه الدرباسية واصل العائلة بعد قلق وخوف لأكثر من نصف ساعة إلى بلدة ابو رأسين وعاد قافلاً من جديد باتجاه المدينة ولكن على بعد اقل من عشرة كيلو متر لم يعد باستطاعته اكمال المسير بسبب القصف، ولم يعد بمقدوره العودة بسبب انقطاع الطريق باتجاه الدرباسية فاختار الطرق الفرعية بين القرى والمزارع بعد انتظار دام ساعات وكابوس الخوف والقلق يرافقانه طوال هذه الرحلة وحيداً، وبعد يوم وصل الدرباسية ومن ثم الحسكة وفي الطريق وجد”الناس تفترش العراء “و “الاطفال منتشرون على جانبي الطريق” و “الحزن بادي على الوجوه ” مدخل الحسكة…. الرصيف معبأة بأشلاء حية وارواح تتنفس البعض يقدم مساعدات خجلة بطانيات عتيقة ومياه معدنية والبعض يحمل الخبز ويوزعها ولكنها لا تغطي شيء أمام تلك لجموع وصلت المنزل الذي منحنا اياه صديق يقيم خارج البلاد وسكننا بداية خمس عوائل مع اطفالنا والنساء ” وبدأت مأساة انقطاع الماء عن مدينة الحسكة والمستمرة للآن، لم تعد العائلات تطيق بعضها الكل افترش البلاط ونام ليلته لعله يحلم بغد افضل ولكنهم سردوا الكوابيس التي حلموا بها في صباح اليوم التالي، العوائل تناثرت في الأيام التالية لنبقى ثلاث عوائل على مضض، لم يكن في الحسبان بأننا سنكون نازحين يوماً لم نجلب معنا سوى الأمل بالعودة والذي بقي أملاً للآن وبكل اسف .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…