هذا الموت الطاغية، عن رحيل شاكر سيد حسين

إبراهيم محمود
علِمت اليوم من جهة أحد الأصدقاء ” الفنان سعد فرسو ” في قامشلو، أن ” أبو خليل”: شاكر سيد حسين رحل إلى مثواه الأخير. اتصلت في الحال بـ”أبو رشيد”: محمد سيد حسين الباحث المعروف، وهو أخو الراحل، الذي يقيم في تشيك، ويكابد عللاً ثقيلة الوطء على جسده الواهن، عدا عن كونه راقداً الآن في مشفى تشيكي، إثر عملية جراحية لأذنه، إلى جانب أوجاع مرَضية أخرى، لأعزّيه. لم أشأ إخباره مباشرة، نظراً للصدمة التي يحدثها موت طاغية كهذا، إنما اتصلت بالأخ رشيد “نجله” الأكبر، هناك، حيث لم يكن قد سمع بالنبأ، وبعد إعلامه لوالده، جرى الاتصال مجدداً، كان صوته مزيجاً من الكلام المخنوق والبكاء الخانق. في غربة موت، وعجْز شيخوخة موت، وموت كوروني، موت مستبد لا مثيل له، وهو يفصل بين مصاب به، وأقرب أهليه إليه .
رغم معرفتي المباشرة بالراحل الذي عرِف بدماثة الأخلاق، وطيب المعشر، حال عموم أخوته وأخواته،توقفتُ لبعض الوقت، في وضعية صادمة كهذه، وأنا في دهوك، وواجب العزاء مقلق وموجع ومفجع في آن، ترددت في الاتصال بالتشيك، ولحظة سماعي صوت “بافي رشيد” وبجواره، أو معه في مهجره ” ديا رشيد ” التي تكابد هي الأخرى أوجاعاً حادة، حيث كنت أعيشُ الصوت المخنوق، والبكاء الشاهد على لوعة البعاد، ووحشة الغربة، والألم الروحي لأخ تجاه أخيه، وعِلل الأبوين، وآلآم الأخوة الآخرين هناك، إلى جانب المصاب النافذ بشدة ألمه، والمسافة الفاصلة بينهم، وتداعيات الذكريات، ومتتاعيات الأوجاع بالمقابل، على وقْع نعوات كهذه، وجدت نفسي بتأثير من أسى نفسي، منكباً على كتابة ما يخفّف ثقل العزاء على نفسي، ربما إشعاراً بعزاء جماعي، ربما بحيلة من نفسي، لصد الغزو المباغت لكورونا، ومخلفات كورونا النفسية، ربما لأن في الكتابة على هذه الشاكلة، إعلان حِدَاد ما، احتفاظ بلحظة الحياة التي لا تقاوَم مهما كان نفاذ فعل الموت، ربما لأن في تسطير كلمات عزائية الطابع، استماتة في الدفاع عن حياة من تعنينا حياته أو حياتهم، أو مؤاساة تمضي بنصها إلى المعزّى، حيث يكون يكون أفراد عائلة الراحل، أبناء وبناتاً، حيث يكون أخوته وأخواته في جهات أوربا وأبعد، وفي قامشلو وأبعد، تمضي بصوت الكاتب المدرِك لقسوة موت من هذا النوع، إلى حيث يقيم كل هؤلاء الأحبة، ومصافحتهم فرداً فرداً، رغم أنف كورونا والتعليمات التي تحمل بصمة كورونا المنفّرة والمخيمة كشبح يشاح عنه نظراً أنّى كان الاسم وظله.
نعم، كل من يلفظ أنفاسه الأخيرة، لرحيله وقْع لا يُسَر، وليس من أحد بقادر على الحلول محله، وما أكثر هؤلاء في اختلاف أعمارهم، وأطوارهم، وأحوالهم، سوى أن أحدهم في طريقة رحيله الأخير، أو أسلوبه، وفي المناخ النفسي، يثير شجوناً من نوع مختلف، وتهيؤات نفسية من نوع مختلف.
أقولها، وأنا أحاول تخيل ما كان عليه حال الراحل القدير “أبو خليل” وهو في النزع الأخير، إلى أين كانت تتجه عيناه، وأين يتركز تفكيره، ومن يمثُل أمام ناظريه، حيث الباب في واجهة تصوره، والرغبة في حضور الغائبين قسراً قائمة، حتى لحظة النفَس الأخير، وكيف فارقته روحه، وتبعاً لأي مقياس ألم أهلي، كان الفراق هذا، فأغالب في نفسي وبنفسي دمعاً تطلق عين لا تجد مفراً من الدفع به، لينحدر إلى الأسفل ويشع أعلى الوجنتين شاهداً حياً على حجم الفاجعة، وهول المصاب، أو عنف مردود رحيل كهذا، وطي زمن كهذا.
سلام لروحك بافي خليل، وعزائي مجدداً لأقرب مقربيك، وأهلك، وأحبتك ومعارفك فرداً فرداً، ودمت طيَّب الذكر.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبدالعزيز قاسم

(كان من المقرر ان اقدم هذه المداخلة عن “اللغة الشعرية في القصيدة الكردية المعاصرة ـ ڕۆژاڤا” في مهرجان فولفسبورغ للشعر الكردي اليوم السبت ٢٥ اكتوبر، ولكن بسبب انشغالي بواجب اجتماعي قدمت بطاقة اعتذار إلى لجنة إعداد المهرجان).

وهذه هي نص المداخلة:

من خلال قراءتي لنتاجات العديد من الشعراء الكرد (الكرمانجية) المعاصرين من مناطق مختلفة “بادينان،…

إبراهيم محمود

 

تلويح خطي

كيف لرجل عاش بين عامي” 1916-2006 ” وفي مجتمع مضطرب في أوضاعه السياسية والاجتماعية، أن يكون شاهداً، أو في موقع الشاهد على أحداثه، ولو في حقبة منه، إنما بعد مضي عقود زمنية ثلاثة عليه، دون تجاهل المخاطر التي تتهدده وتتوعده؟ وتحديداً إذا كان في موقع اجتماعي مرصود بأكثر من معنى طبعً، كونه سياسياً…

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…