إبراهيم محمود
كيف لي أن أنازل هذا الأسود الذي داهم مملكتي، ولا يكف عن إزعاجي وإقلاقي؟ كيف لي أنا الأبيض ذو الشامة العنبرية، أن أعلن حرباً على هذا الأسود المغبَّر الذي يُسمّونه البرغوث؟
لا أدري ما أصله وفصله، سوى أنه ظهر لي فجأة كالكابوس، وأخرجني من حالة السكَينة، إلى الخوف الذي يتمثّل في مزاحمتي على مملكتي اللحمية المشبعة بالدم الساخن المتناسب مع مزاجي، خاصة دم الرأس، وأنا أغرس نابي الهدّاف في فروة الرأس يابسة لتخرج مشبعة بالدم؟
علّمني أبي عن جدّي، وهذا عن جده الأول، كيف نحافظ على محميتنا، ونستميت في الدفاع عنها، فلا نغادرها، ولهذا، تُسمَع فرقعة أحدنا، حين يوضَع بين إظفرين و” طق ” يقضى عليه. إن الدم الذي يتناثر جرّاء معسه، هو علامة تشبثنا بالمكان، وليس كهذا النطناط الجبان .
لم يجد القمل بُداً من مراقبة البرغوث، وهو يتوغل داخل طيات المخيوط من اللباس، ويختبىء في زاوية معتمة، ليعلن غزوه المباغت للحم المجاور، القريب من الصرة، من الخاصرة، من الإبط، حيث يمكنه ذلك، وبسرعة برقة، وبلسعة واحدة، يقضي وطره الدموي، إذ إنه وعلى مر السنين، تكونت لدى القمل خبرة تناقلت بالوراثة من جيل قملي إلى آخر، وبعد مسح دقيق وشامل للجسم، عن النقاط الأكثر أماناً، إنما الأكثر ثراءً، ومنحاً للقوة والغذاء السائل الشهي .
بينما كان البرغوث محصّناً في طيّة مدروزة بإحكام، قلعته المسماة، وهو يستشعر حركة القمل في أجزاء متفرقة من الجسم، توتَّر جسمه شبه المدور لهذا التحرك غير المحتَسب، خصوصاً، حين أحس بحرارته، وقد نزل إلى منطقة لطالما اشتهاها نظراً لغناها بالدم، وتميّزها بالمرونة، وسهولة الحصول على الدم داخل لمَّة شعر العانة، حيث تكون مساحة التحرك واسعة، تكفي المقيم هناك لزمن طويل. ردد بينه وبين نفسه، أن لا بد من مجابهته، إذ من يعلم، ربما يضيّق علي الخناق، من يعلم، ربما يباغتني بحركة غادرة كعادة القمل البغيض، وكما أعلمني أبي عن جدي الأول عن العداء القديم بيننا وبين القمل، حول مناطق النفوذ في الجسم، وأن هذا الأبيض المنمش الذي يخاف من ظله، لا بد من تلقينه درساً برغوثياً لا ينسى .
تواجه كل من القمل والبرغوث، تدفعهما غريزة السيادة على محمية كل منهما، وتقديراً من كلا منهما، أن الآخر، يشكّل خطراً عليه، إذ إن حركة طائشة من أي منهما، أشبه بالحماقة، قد تستثير الكائن لأن يستشيط غضباً، ويباشر هو الآخر إعلان الحرب على كليهما.
في لحظة ما، حين تقدَّم كل منهما من الآخر، استدرك القمل ما عليه فعله، قبيل الالتحام بين الاثنين، والنتائج الوخيمة التي ستنعكس على عموم أفراد جماعتيهما المنتشرين في مناطق مختلفة من الجسم.
خاطب القملُ البرغوث وهو يرفع نابه سلاحه الفتاك:
-انتظر أيها الأسود!
لم تعجب البرغوث نبرة القمل، فرد عليه في الحال مستصغراً من شأنه:
-ماذا لديك أيها الأبيض المشوه ؟
تحامل القمل على نفسه، تحسباً لأي خسارة تكون جماعية، وقد تناهت إلى جسمه الرخوي فكرة:
-هل فكرت في نتيجة المواجهة، إن تنازعنا معاً ؟
وقف البرغوث على قائمتين متناهيتي الصغر، كانتا كافيتين لأن يرى القمل البرغوث من خلالهما، وإشعاره، أن دخول معركة ليس كالخروج منها، وخاطبه بلغة المعتد بنفسه:
-ماذا لديك، قلها، لدي عمل كثير.
لململ القمل شتات نفسه، وخاطبه هذه المرة بصوت هادىء:
-علينا تجني الدخول في أي قتال، لمصلحتينا نحن الاثنين .
راقت الفكرة للبرغوث، ولكنه أراد إعلام القمل بأنه في موقع القوة:
-وكيف يا قمل ال…
لم يشأ الإضافة، حرصاً على مصلحته هو بالذات، وليس مصلحة القمل .
لزم القمل الصمت لبعض الوقت.
استعجله البرغوث:
-ماذا لديك يا قمل؟ لماذا سكت، هل أنت خائف؟
رد القمل:
-إذا كان هناك خوف، فعلى كلينا.
ثم استدرك قائلاً:
-اسمع يا برغوث، أن ندع هذه النعمة، في الوفرة من الدم، وثمة أجسام كثيرة تنتظرنا، تكفينا وأحفاد أحفادنا، ماداموا بهذا الإهمال لصحتهم. ليكن لكل منا مناطق نفوذه.
فرح البرغوث للفكرة، وقال سائلاً إياه:
-أنت تعرف جيداً، أنني قليل الحركة، يعني لا أحب التنقلات، أما أنت فسريع، نشيط، عدا عن كونك تمتلك القدرة على الوثب العالي، وهذه سمة لا أمتلكها. ستكون فروة الرأس لي، ومناطق محدودة في الجسم، لدي قابلية تكيف للإقامة فيها، وأغلب الجسم لك .
استساغ البرغوث فكرة القمل، وتخيل النّعَم الكثيرة التي سيحصل عليها، كافية لأن تبعد عنه وعن صغاره وصغارصغاره شبح الجوع، أو الخوف من الملاحقة، أو القتل .
بالطريقة هذه، تقاسم كل من القمل والبرغوث مناطق الجسم، ليصبح اتفاقهما ساري المفعول إلى الأبد، ومن ذلك التاريخ المدوَّن بينهما، لم يحصل خرق لذلك الاتفاق من قبَل أيّ منهما إلا نادراً.