إبراهيم محمود
قيل فيه الكثير، ومن ألسنة كثيرة ليست واحدة، حيث رؤي فيه الكثير، بوصفه من بين أغرب وجوه مدينتنا، وربما أغربهم خلقة، وسلوكاً طبعاً، إذ إنه كان يحمل يحمل ميزة استثنائية في عينيه. فقد تردد أنه من لحظة الولادة، كان في مقدوره أن يبصر الأشياء عن بُعد، وهذا ضرب من الاستحالة بالمفهوم العلمي: الطبّي، إذ تحتاج العضوية إلى زمن كاف لتنضج بغية الإبصار، وأنه مع الزمن، بات يرى الأشياء من على مسافة بعيدة جداً، يذكّر بزرقاء اليمامة، وكان مصدر بهجة وفخار وتندُّر أيضاً لأهل مدينتنا، وإنما إزعاج حقيقي في الوقت نفسه، فهناك أمور كثيرة تتم، ولا تُرى، إلا ضمن مسافة بصرية معينة، أما مع الذي سمّوه بـ” أبو العينين ” فمغايرة تماماً، وكان على أيّ كان من أهل مدينتنا أن يحتاط للأمر، إزاء هذه الحالة الغريبة، سوى أن ما استجد معه، بوصفه ملَكة استثنائية، ربّانية، عند البعض، شكّلت مصدر ألم شديد له.
مع الزمن، وخاصة عندما بلغ مرحلة الفتوة في العمر، ظهرت لديه بوادر أخرى انعكست على صحته، ومزاجه النفسي، إذ حصل تباعد في زاوية الرؤية بين كلتا عينيه، أكثر من وقوع حوَل في العينين. كانت كل عين ترى الأشياء والأشخاص من مسافة بعيدة، والعين الأخرى لم تكن متجاوبة معها، إذ تراها من زاوية مقابلة، دون أن تنسجم معها، حتى في حال غمْض عين، للنظر بالأخرى، وفشلت كل المحاولات في معالجة هذه الحالة، فلا الأطباء تمكّنوا من وجود علاج معين، ولم يبدُ أي استعداد لمواجهة هذا الأمر، ولا الرقى والتعاويذ أسعفته. هناك من اعتبروه عقاباً ربانياً، لأنه كان يتدخل في أمور كثيرة، وهو يُسمي ما كان يراه، تعجز أحدث المناظير المقربة، عن الكشف عنها، وكذلك مصدر فرحهم، لا بل واستخفافهم بـ” أبو العينين “.
لم تقف الحالة عند هذه النقطة من منسوب الألم والإزعاج والتوتر، فالشيء الواحد بات منقسماً، دون أن يثبت على هيئة واحدة أمام ناظره، حتى بالنسبة إلى أبسط الأشياء، فكان على أحد أهله، أو أي شخص كان بالقرب منه، ولا بد من ذلك، أن يقوم بهذه المهمة، فيناوله كأس ماء، وحتى ملعقة الطعام، وحتى تناول الخبز” كان يبقي رغيف الخبز في يده، وهو يتناول طعامه “، ولكن صحن الطعام، يبقى أمامه، ولا يكون أمامه، جرّاء الخلل المؤلم في نظر عينيه، فكل عين كانت تزيد في إيلامه، ما أن يُنظَر في شيء ما، وحتى في غمضهما لم يكن يسلم من الوجع، وهذا ما زاد في أعباء أسرته. كان لا بد إذاً أن يبقى أحد أفرادها ملازماً له أنّى توجه أو تحرك .
لكن ذلك لم يحل المشكل، فالألم ازداد مع الزمن، والنعمة التي تضايق منها أهل مدينته، انقلبت نقمة، وكان مصدر حسدهم اللافت، وهذه النقمة أنسته كل شيء، وبات مضطرباً، لا يستطيع ضبط نفسه، حتى وهو يأكل، ببساطة، لأنه كان يتوجع. ولكم تمنى أبو العينين أن يفقد حاسة البصر ويرتاح، على الأقل بينه وبين نفسه، ويريح أهله وآخرين، ويستطيع التحرك ولو ضمن مسافة معينة بطريقة ما، يستطيع أن ينام، وهو مسلّم أمره إلى ربه، ليقضي بقية عمره هكذا . سوى أن خالقه لم يستجب لدعائه. وحيث إن كل الطرق ذهبت أدراج الرياح، بات أفراد أسرته أنفسهم يستثقلون وجوده، لأنه لا يكتفي بإبقاء أحدهم معه أنّى قام وتحرك، وإنما ليتحمل سخطه وهياجه، ومن ثم تأمين ما يلزم جهة حاجاته. كان يقول في حالات كثيرة، أن ما يجري لا يد له فيه، ويبكي بكاء مراً، كان بكاء متحشرجاً، فيواسونه، ويبكون معه .
أحدهم عرض على أهله فكرة، هي محاولة علاجية مفترضة، تمنى له الشفاء في إثرها، وهي في التوجه إلى خارج المدينة، حيث تكون الأرض المنبسطة، ورحابة الفضاء، فليس هناك سوى المدى المفتوح. إلا أن أمراً آخر أخِذ في الحسبان حالاً، وهو أنه لكي يصبح خارج المدينة، لا بد عليه من قطع مسافة كافية، لأن الأرض التي تحيط بالمدينة، وحتى مسافة شاسعة، عبارة عن منحدرات، وتلال، ووديان، وصخور بالمقابل، وكل ذلك لن يكون في مصلحته، بالعكس، سوف يزداد ألماً، ولم يبق إلا الابتعاد، بحيث إن المسافة التي يتطلب عليه قطعها صحبة أحدهم يتطوع لهذه المهمة، تتوارى وراءها المدينة، وهذا من شأنه مضاعفة المهمة، إذ لا بد من قضاء فترة زمنية كافية، لانتظار الأمل، وإيجاد المكان المناسب، أملاً بعودة عينيه إلى وضعهما الطبيعي، كأي كان، وليس كما كان في الطفولة وحتى مرحلة الصبا، ويعيش معتمداً على نفسه، وليس عالة على غيره، وهذا ما أقلق أهله والذين تعاطفوا معه، وأشفقوا عليه، وباتوا يحوقلون، ولا يضيفون إلى ذلك شيئاً، ليزداد الوضع سوءاً، ولتنقطع أخباره فجأة، دون أن يكون هناك أي مصدر يفيد في معرفة حقيقة ما جرى بعد ذلك، شأن أمور كثيرة في مدينتنا الغريبة !