سليم بركات بين المطبخ والغابة

 إبراهيم محمود
كان يوماً ربيعياً بتقويمنا، حين زرتُه، أعني به شاعرنا وروائينا الكردي سليم بركات، في السويد، في عاصمة السويد استوكهولم، على تخوم غابة سكوغوس، حيث يتكرر الاسم الأخير في نهاية الكثير من أعماله التي كتبها قبل أكثر من عقدين من الزمن، وكان التاريخ 2006. كان الوقت مساء، قُبيل أن تغمض الشمس جفنيها، بين بيته المشهود له بباب يواجه الغابة المذكورة، والغابة هذه، سكة حديد، وثمة شباك، يحاور الغابة بأشجارها الحور المتعانقة السامقة، الشباك شباك مطبخ بركات، حيث ما أن تعبُر الباب الخارجي، حتى تراه شمالك، وهناك يتم الاستقبال.
تذكرتُ هذه اللحظة التاريخية التي قاربتْ ساعة من الزمان الخاص، في مكان خاص، مع وجه خاص، لأمر خاص، في زيارة خاصة، تذكرت اللحظة هذه، إذ كنت أقرأ مزايا المطبخ، فقادتني ذاكرة المكان إلى هناك، قبل أربعة عشر عاماً، ودور المطبخ في كتابته، وموقع الغابة كذلك.
المطبخ الذي كتبت في شأنه العديد من المقالات، ونشرتها في منابر ثقافية مختلفة، بوصفه مطبخاً طبعاً، وما يتركز على ما أسمّيه بـ” انتروبولوجيا المطبخ “: عالمه الروائحي، أطباقه، ناره، غازه، مغسله، ثلاجته، الأطعمة التي تودَع فيه، مساحته، أوقات الجلوس فيه، وأحاديثه …
كل ذلك له موقع اعتباري في سياق المكاشفة الدلالية، وما يعلِمنا به مطبخ بركات : فانوسه السحري، عالمه الذي لا يكف عن التشكل من خلال تنوع أطعمته، مشروباته التي تضعه في عالم آخر، فيكف بركات عن أن يكون بركات، يكف عن أن يكون المرئي، ليكون رحالة في المكان الذي يتحرر من ضيق مساحته، وقد ازداد عمقاً، ازداد فضائية، وهناك يمضي متخيله المنتشي بما يعتاده من مشروب يحلّق بظله عالياً، وترتقي به طاولته الصغيرة، كهذه التي تفصل بيننا، وثمة زجاجة مشروب تدلي بشهادتها، ثمة قدحان منتصفيان يؤكدان شهادة الزجاجة المتنفسة برائحتها هي الأخرى، وفي الخلف يكون الشباك الذي يري ما هو فسيح من بحر مترع بالأخضر الشجري، وثمة عناصر أخرى تلهِم بركات، وفي كل محاولة ثمة تلبّس هيئة مختلفة .
بركات في فانيلته، وذراعيه المفتولتين، لا يبدو عليه أنه يحب الثياب كثيراً، يكفيه الخفيف منها، كما لو أنه بذراعيه يشدّد على فعل اليد بسيمائه المرئية في الكتابة، إنه يحفر بقلمه، ويعبر حدوداً غير مرئية بقلمه مأخوذاً ربما بـ” بُرَاق ” متخيله، إلى ما تشاؤه رغبته صبوة المرتجى فيه .
أستعيد اللحظة البركاتية عبر ثنائية المطبخ – الغابة: بركات متنزه الغابة التي تتراءى لا متناهية، إنها تختبر الداخل فيها، وبمقدار أهليته على التوغل فيها، تحتشد داخل حكايات عن مخلوقات لامرئية، وتراوده حالات نفسية، تستحيل شهود عيان غير مسبوقين، وقد استقروا في واجهة متخيله، لتصبح الغابة مجموعة من الخلائق التي تفيض أمام ناظري الداخل فيها .
في حال المطبخ، تتداخل الطعوم، بأسمائها وروائحها، حيث إن مقدرة المتعامل معها: الطباخ، هي التي ترينا حصيلة التمازج بين الأطعمة الداخلة في نطاق طبْخ معين، وتنجم رائحة مركبة، هي لائحة روائح، من خلال نوعية الأطعمة والبهارات، والنار الفاعلة فيها .
الغابة تتحدث بلغات شتى، هي لغات حيواناتها المسموعة، وتلك التي تقدَّر فيها، وتمازجاتها هي طبخة أصوات، روائح منبعثة من خلال تساقط الأوراق، تخمرها، ومدى التفاعل بين التربة وبينها، بين الروائح التي تصدم الأنف وتعلِم بوجودها، والأصوات التي تصدم الأذنين وتخبِر عن مواقعها، ويتدخل اللمس نفسه في قياس المرئي، ولعل أهلية الداخل في الغابة، وطبيعتها، هي التي تقول كلمتها الفعلية، صراحة الأثر، واكتشاف الغريب والعجيب غابياً.
تلك هي العلامة الفارقة للمطبخ، فمثلما أن الغابة تقديراً، أومجازاً: مطبخ حي، قائم بذاته، ويتحدى الداخل فيها، كما أنها تمتحن فيه قواه النفسية، بمباغتاتها، هكذا يكون المطبخ غابة، إنما وهو في ضيق مساحته الهائل الرحابة تقديراً، تتناغم أصوات مقدَّرة، ليس ما يصدر من وعاء المطبخ، وإنما ما يمكن تخيله، حيث ألسنة الرائحة البخارية المرئية واللامرئية تتولى مثل هذه المهمة، وتبقي القائم على شئون الطبخ، وهو بكامل حذره، في تركيز نظره، إنما أيضاً في التشديد على كل لحظة تتفاعل فيها الأطعمة المودعة، أو المتمازجة في وعاء واحد، وما يترتب على هذه المكاشفة من استرسال لجنيات اللون والصوت، جنيات الرائحة التي يفجّرها قاع الوعاء، وهي تتسلل إلى الخارج، وتسبح في فضاء المطبخ، ويستقبلها أنف الطباخ، كما أن حاسة الذوق هي التي تقرّر ما سيكون عليه المنتظر.
 
في كتابة بركات السويدية نشأة، ثمة الغابة بغموضها، برهاناتها، بوضعياتها المتحولة، بروائحها كما تعلِمنا نصوصه الروائية والشعرية وحتى مقالاته عينها، وثمة المطبخ الذي يقف بالمقابل، وهو المشهود له بتاريخ أعرق، كما يحفّز الباحث في بنية علاقات كهذه، على إمكان تحرّي خاصية توأم الغابة- المطبخ، وبالعكس، على تبيُّن وشائج القربى بينهما، وفي البرزخ الذي لا يُرى يكون ظل بركات، ذراعاه العاريتان، مذاقه الأدبي، انتشاه منتخيله، رصده لكل رائحة وحركة، وصورة مركَّبة، يكون وضعه النفسي زماناً ومكاناً، وذلك يمنح قارئه فرصة أكثر غواية لاستقصاء أثريات الرائحة والمشهديات الغابية في أصل نصوصه، وما يتحرك على هامش الكتابة، وطرق التعبير الوصفية عن كل ذلك، حيث الكتابة عينها مسطورة ومتحررة من ربقة التسطير، من خلال المنبثق ظلال آثار، وهيئات تعابير مجاوره ومرافقة ومتجددة.
ربما يكون درس كهذا مفيداً لمن يعنى بالتكوين النفسي لكاتبنا بركات، لأن يتقصى ما هو غائر في هذا التكوين، وما هو نشط بتداعياته من لحظة الطفولة، واستنطاق ما يبدو ملغزاً، ولعلها المهمة الكبرى والرائحة للكتابة، والكتابة عن الكتابة . 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…