من أوابدنا التي لا تندثر عمر حمدي ( مالفا ) و الذكرى الخامسة على خسارتنا له

 غريب ملا زلال 
” لن تكون يوماً سوى حمالاً في سوق الخضرة ” الصرخة التي بقيت مرافقة له طوال حياته ، صرخة والده له حين كان يجده يرسم ، الصرخة التي جعلته أكثر عناداً لكي ينجح و يكون غير ذلك ، و ليثبت لوالده بأنه فعلاً ليس سوى حمالاً لكن ليس في سوق الخضرة ، بل حمالاً للوحاته يجول بها الأرض و متاحفه ليكون خير سفير لنا و لفن الشرق عموماً ، ليثبت لوالده بأنه ليس فناناً فاشلاً ، بل فناناً تعرض أعماله في متاحف الجهات كلها ، و تباع أعماله قبل أن ترسم ، فإسمه لوحده كاف ليكون العابر كرسول اللون في هذه الحياة التي كانت جميلة يوماً ما ، تحول إلى غوغول الفن التشكيلي من تحت معطفه خرج الكثيرون ، و الأكثر مازال قابعاً تحت هذا المعطف ، غير قادرين على الخروج من تحته ،  و من هذا الأخير أسماء لها غرورها الكبير ، حاولوا تلويث ذلك المعطف ، و الفاعل منهم ، حاولوا أن ينالوا منه ، لكنه أرفع من ذلك بكثير فكان يجمع كل حجرة ترمى عليه ليصعد عليها و يسمو في الأعالي أكثر و كأنه يترجم نصيحة غاندي في ذلك ، سما حتى بات طيراً يحلق إلى اللانهاية ، لا تطاله القامات المسبقة الصنع ، و لا القامات الخلبية التي سرعان ما تتلاشى ما إن تبزغ الشمس ، و لا القامات التي تحتاج إلى مجهر لتراها ، و لا القامات الزغبية العقيمة غير القادرة على النمو ، نعم سما مالفا بفنه و روحه ، و مضى بقافلته الحاملة بالحياة ، بصدقها و حالاتها المأساوية ، بحماسها و المعاناة الشديدة فيها ، مضى بطاقته المتجددة فيه ، و بقوة تعبيريته علّها تدعمه في إقامته الجديدة و تكشف معه بقليل من الحياء عن طموحه الذي بقي يتيماً بين بصماته ، تكشف عنه برؤية جديدة تناسب مقامه و الجنة التي ينام فيها .
مالفا لم يترك الحياة طوعاً ، كان لا بد أن يرحل عنها ، لم تعد قادرة على حمله ، باتت عاجزة على ترجمة حلمه ، فحمل خاصيته في خياراتها الكثيرة ، حملها في مسيرة جديدة لزمن جديد تأخذ مفاتيحها من خصوصيته الجديدة ، فالعشق قدره بمفارقاته الأصيلة ، و برونقه المنشرح إلى حد التلاشي ، قدره الذي هزه من الأعماق و لم يعد يهدأ ، أخذ مكانه في دواخله ، لم يترك جانباً فيه دون العزف المنفرد بناياته الحزينة المملوءة بالأحياء الموتى على زمنه الطويل ، كاشفاً بوضوح المحب الجوهر الحقيقي لتصويراته التي تخترق القلب و كأنها عملية تعاقب مستمر و متواصل للآمال الجديدة بمضمون جديد و فهم جديد أيضاً ، فنقاء روحه مازال يتوق للبياض و هيولاه ، و يسخر من الحياة البائسة التي كان يعيشها ، مازال يتوق لتصوير التناقضات القائمة في أساسها على الدور الحاسم لمعادلته في فهم الواقع و تبعية الإنسان له و الظروف التي تسحقه نحو العدم بتناغم تاريخي بين القول و الفعل مشكلة في المحصلة سيرورة الحياة و شكلها ، متجاوزة الأوهام المتزايدة ، و وطأتها مع الكشف للقوى و الوقائع الفعلية الجوهرية لهذا الواقع ، و هنا تبرز الحدود بين الواقعية و الطبيعية ، بين الأشكال و ما ترتديها من خصائص تتسم بالتغيير لا بالثبات ، بالإثارة لا بالإستقرار ، و تمحى تلك الحدود إذا حضرت التعبيرية و هي في قمة عطائها الجمالي فتصبح مصدراً للمماحكة بين الأحاسيس و المشاعر حتى درجة النفاذ إلى أعماق العالم الداخلي للإنسان .
مالفا يجسد شخصية الفنان الذي تتضخم الحقيقة بين أصابعه و هي تجبل ألوانها ، لا يلهث وراء التركيبات البنائية المعقدة ، و لا يتحول إلى فريسة للترميز و الغموض و سطوتهما ، فخلطته إختراعات من مختلف الألوان ، فيها تتجلى العناصر الجمالية و ترفع من سقف صراحته مستوعباً غائية الفن ، و ميزتها من النزعة الإنسانية التي تعطي تصوراً كاملاً بطابع ملحمي عن الحياة البسيطة و ما فيها من آلام و آمال ، و من هنا صمد أمام حركة الغرب الدؤوبة التي لم ترحم ، صمد أمام متطلبات و أشكال التقدم التقني الفني ، و تبعياتها المعقدة و المتناقضة أحياناً للمنهج ، فالميول و الإتجاهات الحديثة في دأب ، و التعاطف العميق معها لم يكن مرتبطاً بالموقف المبدئي و لا بالإدانة الأخلاقية لما يجري ، بل بمسألة المعاناة العميقة و ما تحمله من رغبات و دوافع روحية / عاطفية عميقة ، و هذا واضح لدى معظم فناني تلك المرحلة ، حيث تواجد مالفا في مكان مروا منه ، و تنفس الهواء ذاته ، و هو القادم من الشرق حاملاً فسيفسائه و لهيب مواسمه و روحانية أبنائه ، فخطا بتجربته للحصول على المعرفة الخاصة بعالم الديمومة الذي يعتبر النشاط الفني من أهم تجلياته ، خطا بحدسه من خلال أعمال تعبر عن روحه ، بقبولها و رفضها لجوهر ما تواجد فيه ، بتركيبها و مزجها متسمة بالكفاءة القادرة على تزويد المتلقي بمنظومته الخاصة التي قد لا تتكرر ، فهي نتيجة مرتبة لتعبيريته التي تثير الكثير من العناصر و التنظيمات الموجودة في اللوحة ، و التي تبعث فيها الروح ، تلك الروح التي تتثاءب فيها على إمتداد التخيّيل و الإمعان فيها و التي تتعدى و تنتقل للمتلقي أوتوماتيكياً ليتتثاب هو الآخر فيه و يبدأ الفنان ذاته بهذا التثاؤب الطويل و الجميل و بذلك يتمثل مع اللوحة عند اللاحدود ، و يتمثل المتلقي عند خبرته / الفنان التي وضعها في لوحته / عمله ، و هنا تبدأ المناحي المعرفية بالميل نحو المناحي الجمالية و الإتفاق معها و القيام معاً بممارسة تأثيرات متميزة عليه /المتلقي ، هذه من جهة ، و القيام بمقاربات خاصة بينهما للوصول إلى تفضيلات جمالية مناسبة حولها من جهة ثانية دون أن يستثير الملل و النفور ، و بالتالي دون أن يستثير حالة من التعقيد المعرفي / عدم الفهم ، بل تثير مجموعة تساؤلات ترتبط في جوهرها بفروض عدة ( فرض الإنزياح مثلاً ) ، ترتبط بخصائص شكلية بنائية طامحة إلى تأسيس منحى جمالي منها تتدفق السياقات المستقلة كمعزوفات موسيقية تحمل إيقاعاتها في ذاتها و تظهر لنا حين نبدأ الإنصات لها .
مالفا من كنوزنا الباقية و التي لا يمكن أن تندثر ، و لهذا أدعو مجدداً إلى توثيق كل ما يتعلق به و جمعها ، من مقتنيات و أدوات و أعمال ، و كتابات ، و الإحتفاظ بها ضمن متحف تحمل اسمه ، و علينا أن نتذكر دائماً بأن قيمة الأوطان و الشعوب تقاس بمبدعيها من فنانين و كتاب و شعراء و موسيقيين …. إلخ ، فهؤلاء هم أوابدنا الخالدة ، فلنحافظ عليها ، و نحتفي بها ، و نقدمها للآخرين كما قدمتنا هي لهم ، فهي خير من تعبر عنا ، فالمبدعون الحقيقيون رسلنا في هذه الحياة ، و أعمالهم رسائلنا فيها .


شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…