غريب ملا زلال
” لن تكون يوماً سوى حمالاً في سوق الخضرة ” الصرخة التي بقيت مرافقة له طوال حياته ، صرخة والده له حين كان يجده يرسم ، الصرخة التي جعلته أكثر عناداً لكي ينجح و يكون غير ذلك ، و ليثبت لوالده بأنه فعلاً ليس سوى حمالاً لكن ليس في سوق الخضرة ، بل حمالاً للوحاته يجول بها الأرض و متاحفه ليكون خير سفير لنا و لفن الشرق عموماً ، ليثبت لوالده بأنه ليس فناناً فاشلاً ، بل فناناً تعرض أعماله في متاحف الجهات كلها ، و تباع أعماله قبل أن ترسم ، فإسمه لوحده كاف ليكون العابر كرسول اللون في هذه الحياة التي كانت جميلة يوماً ما ، تحول إلى غوغول الفن التشكيلي من تحت معطفه خرج الكثيرون ، و الأكثر مازال قابعاً تحت هذا المعطف ، غير قادرين على الخروج من تحته ، و من هذا الأخير أسماء لها غرورها الكبير ، حاولوا تلويث ذلك المعطف ، و الفاعل منهم ، حاولوا أن ينالوا منه ، لكنه أرفع من ذلك بكثير فكان يجمع كل حجرة ترمى عليه ليصعد عليها و يسمو في الأعالي أكثر و كأنه يترجم نصيحة غاندي في ذلك ، سما حتى بات طيراً يحلق إلى اللانهاية ، لا تطاله القامات المسبقة الصنع ، و لا القامات الخلبية التي سرعان ما تتلاشى ما إن تبزغ الشمس ، و لا القامات التي تحتاج إلى مجهر لتراها ، و لا القامات الزغبية العقيمة غير القادرة على النمو ، نعم سما مالفا بفنه و روحه ، و مضى بقافلته الحاملة بالحياة ، بصدقها و حالاتها المأساوية ، بحماسها و المعاناة الشديدة فيها ، مضى بطاقته المتجددة فيه ، و بقوة تعبيريته علّها تدعمه في إقامته الجديدة و تكشف معه بقليل من الحياء عن طموحه الذي بقي يتيماً بين بصماته ، تكشف عنه برؤية جديدة تناسب مقامه و الجنة التي ينام فيها .
مالفا لم يترك الحياة طوعاً ، كان لا بد أن يرحل عنها ، لم تعد قادرة على حمله ، باتت عاجزة على ترجمة حلمه ، فحمل خاصيته في خياراتها الكثيرة ، حملها في مسيرة جديدة لزمن جديد تأخذ مفاتيحها من خصوصيته الجديدة ، فالعشق قدره بمفارقاته الأصيلة ، و برونقه المنشرح إلى حد التلاشي ، قدره الذي هزه من الأعماق و لم يعد يهدأ ، أخذ مكانه في دواخله ، لم يترك جانباً فيه دون العزف المنفرد بناياته الحزينة المملوءة بالأحياء الموتى على زمنه الطويل ، كاشفاً بوضوح المحب الجوهر الحقيقي لتصويراته التي تخترق القلب و كأنها عملية تعاقب مستمر و متواصل للآمال الجديدة بمضمون جديد و فهم جديد أيضاً ، فنقاء روحه مازال يتوق للبياض و هيولاه ، و يسخر من الحياة البائسة التي كان يعيشها ، مازال يتوق لتصوير التناقضات القائمة في أساسها على الدور الحاسم لمعادلته في فهم الواقع و تبعية الإنسان له و الظروف التي تسحقه نحو العدم بتناغم تاريخي بين القول و الفعل مشكلة في المحصلة سيرورة الحياة و شكلها ، متجاوزة الأوهام المتزايدة ، و وطأتها مع الكشف للقوى و الوقائع الفعلية الجوهرية لهذا الواقع ، و هنا تبرز الحدود بين الواقعية و الطبيعية ، بين الأشكال و ما ترتديها من خصائص تتسم بالتغيير لا بالثبات ، بالإثارة لا بالإستقرار ، و تمحى تلك الحدود إذا حضرت التعبيرية و هي في قمة عطائها الجمالي فتصبح مصدراً للمماحكة بين الأحاسيس و المشاعر حتى درجة النفاذ إلى أعماق العالم الداخلي للإنسان .
مالفا يجسد شخصية الفنان الذي تتضخم الحقيقة بين أصابعه و هي تجبل ألوانها ، لا يلهث وراء التركيبات البنائية المعقدة ، و لا يتحول إلى فريسة للترميز و الغموض و سطوتهما ، فخلطته إختراعات من مختلف الألوان ، فيها تتجلى العناصر الجمالية و ترفع من سقف صراحته مستوعباً غائية الفن ، و ميزتها من النزعة الإنسانية التي تعطي تصوراً كاملاً بطابع ملحمي عن الحياة البسيطة و ما فيها من آلام و آمال ، و من هنا صمد أمام حركة الغرب الدؤوبة التي لم ترحم ، صمد أمام متطلبات و أشكال التقدم التقني الفني ، و تبعياتها المعقدة و المتناقضة أحياناً للمنهج ، فالميول و الإتجاهات الحديثة في دأب ، و التعاطف العميق معها لم يكن مرتبطاً بالموقف المبدئي و لا بالإدانة الأخلاقية لما يجري ، بل بمسألة المعاناة العميقة و ما تحمله من رغبات و دوافع روحية / عاطفية عميقة ، و هذا واضح لدى معظم فناني تلك المرحلة ، حيث تواجد مالفا في مكان مروا منه ، و تنفس الهواء ذاته ، و هو القادم من الشرق حاملاً فسيفسائه و لهيب مواسمه و روحانية أبنائه ، فخطا بتجربته للحصول على المعرفة الخاصة بعالم الديمومة الذي يعتبر النشاط الفني من أهم تجلياته ، خطا بحدسه من خلال أعمال تعبر عن روحه ، بقبولها و رفضها لجوهر ما تواجد فيه ، بتركيبها و مزجها متسمة بالكفاءة القادرة على تزويد المتلقي بمنظومته الخاصة التي قد لا تتكرر ، فهي نتيجة مرتبة لتعبيريته التي تثير الكثير من العناصر و التنظيمات الموجودة في اللوحة ، و التي تبعث فيها الروح ، تلك الروح التي تتثاءب فيها على إمتداد التخيّيل و الإمعان فيها و التي تتعدى و تنتقل للمتلقي أوتوماتيكياً ليتتثاب هو الآخر فيه و يبدأ الفنان ذاته بهذا التثاؤب الطويل و الجميل و بذلك يتمثل مع اللوحة عند اللاحدود ، و يتمثل المتلقي عند خبرته / الفنان التي وضعها في لوحته / عمله ، و هنا تبدأ المناحي المعرفية بالميل نحو المناحي الجمالية و الإتفاق معها و القيام معاً بممارسة تأثيرات متميزة عليه /المتلقي ، هذه من جهة ، و القيام بمقاربات خاصة بينهما للوصول إلى تفضيلات جمالية مناسبة حولها من جهة ثانية دون أن يستثير الملل و النفور ، و بالتالي دون أن يستثير حالة من التعقيد المعرفي / عدم الفهم ، بل تثير مجموعة تساؤلات ترتبط في جوهرها بفروض عدة ( فرض الإنزياح مثلاً ) ، ترتبط بخصائص شكلية بنائية طامحة إلى تأسيس منحى جمالي منها تتدفق السياقات المستقلة كمعزوفات موسيقية تحمل إيقاعاتها في ذاتها و تظهر لنا حين نبدأ الإنصات لها .
مالفا من كنوزنا الباقية و التي لا يمكن أن تندثر ، و لهذا أدعو مجدداً إلى توثيق كل ما يتعلق به و جمعها ، من مقتنيات و أدوات و أعمال ، و كتابات ، و الإحتفاظ بها ضمن متحف تحمل اسمه ، و علينا أن نتذكر دائماً بأن قيمة الأوطان و الشعوب تقاس بمبدعيها من فنانين و كتاب و شعراء و موسيقيين …. إلخ ، فهؤلاء هم أوابدنا الخالدة ، فلنحافظ عليها ، و نحتفي بها ، و نقدمها للآخرين كما قدمتنا هي لهم ، فهي خير من تعبر عنا ، فالمبدعون الحقيقيون رسلنا في هذه الحياة ، و أعمالهم رسائلنا فيها .