غريب ملا زلال
-الحوار مع عنايت عطار هو حوار مع البحر ، بمده و جزره ، بأمواجه و مرجانه ، بملامحه و معالمه ، بمفرداته الآسرة و سحر ألوانه ، بنهمه و إقباله على الحياة ، بقدرته المفتوحة على الجهات و مداراتها .
الحوار مع عنايت هو حوار مع كائن تضج به الحياة بكل جوانحها ، و تجلياتها ، كائن كل ما فيه يرسم بوصلتك لنفسك بأن الأرض مازالت تحمل على أكتافها من يعشقها و يمنحها الروح و الحس الجمالي بذاتها ، كائن يحمل تفاصيل الإنسان الذي بعثه الرب طفلاً على إمتداد المكان و الزمان .
عنايت فنان يجمع و يزاوج ، في أسفاره البصرية بين روح الشرق في إنتماءاته الميثيولوجية ، و بين الغرب في حداثته و ملاحقته لخصوصية الإتجاهات في ثناياها و ما تحمله من مقولات فنية تشع على أبجديتنا .
عنايت إبن بيئة تلخص الكثير من إبتكاراته و تمنحه ذاكرة خصبة بحقول معرفية تجعله واحة لجماليات بصرية إليها نسافر كعشاق ، هو إبن عفرين ، في ريفها حملته والدته حلماً قابلاً للظهور و هو يحمل هواجسه المبدعة كجزء يثيره و يستفزه على مدار الولادة ، كان ذلك في عام 1948 .
لن نطيل في المقدمة فهو خير من يتحدث لنا عن نفسه و لآلئله ، و حوارنا معه طويل جداً ننشر هنا تباعاً .
غريب :
جائزة عمر حمدي (مالفا) التي يشرف عليها اتحاد الكتاب و الصحفيين الكرد في سورية في دورتها الثانية ذهبت إليك ، و دون شك فأنت تستحقها و أكثر.. كيف استقبلت الخبر.. خاصة و هي تحمل اسم صديقك الأقرب لروحك مالفا .. قبل ان تتحدث لنا عن عنايت ، هل لك أن تتحدث لنا قليلاً عن علاقتك بمالفا و صداقتك به ، و ما تحمله في ذاكرتك عنه ، و لماذا تحول إلى فوبيا لدى الكثيرين من فنانينا و خاصة عند الذين لا يملكون إلا عيناً واحدة .
عنايت :
نعم جائزة الصديق المرحوم عمر حمدي كانت مفاجاة لي وقد أسعدتني لأنها تحمل اسم فنان أعتبره كبيراً ليس في الوسط الفني الكردي و السوري فحسب ، بل و في الوسط العالمي أيضاً ، عمر والرحمة عليه كانت بداية تعرفنا في الخدمة الإلزامية بالشام وأمضينا أوقاتاً جميلة إذ كان يخدم في (مجلة الفرسان) كمصمم ورسام ومخرج للصفحات ، كنت أزوره بإستمرار في بيته بالهامة ، وكنت مع خدمتي مسجلاً في كلية الفنون الجميلة ، وبعد سنتين أهملتها ، وبعد تسريحي ذهبت إلى بيروت إذ عملت رساماً لإعلانات السينما واللوحات التجارية للمحلات كباب لطلب الرزق ، و في أية زيارة لي للشام كان لا بد ان تكون لي محطة عند صديقي عمر ، أنا الوحيد الذي كان يعلم بانه سيهرب من الخدمة ويسافر إلى أوربا ، قالها لنا ، قالها لي وللشاعر حامد بدرخان في بيته وهو يطبق ( يحزم ) حقيبته .
اما عن الفوبيا والقيل والقال ؟؟؟؟ ليس هناك أي شئ من هذا القبيل ، فقط إنه كان صامتاً ، أبداً لم يكن يحب الثرثرة ، وكان يقول لي دائماً : لو كنت أعرف التحدث في الأدب لما رسمت ،
وقال لي مرة : أشتري كتب عن الفنانين العالميين فقط لأنظر إلى لوحاتهم ، ولكي أعرف إلى أين وصلت تجاربهم من حيث الحداثة أو المذهبية ، ومن الذكريات أيضاً انني أهديته كتالوكاً لدالي وبعد شهر قال لي لم أستطع هضم اعماله لأنها فانتازيا لاتمثل أي شئ من الصدق في التعبير .
غريب :
ما الذي جاء بك إلى الرسم ، كيف ولجت محرابه ، ما الذي دفعك إلى اللون ، ما المحرّض إلى ذلك ، كيف كان اللقاء الأول مع الريشة ، كيف ولد ، بإختصار ما هي الظروف التي حملتك إلى اللون ، أقصد كيف ولد هذا العشق الجنوني بينك و بين الريشة ، و دعنا قبل ذلك أن نعود إلى عنايت الطفل ، عنايت ابن الريف الجميل ، ابن الجبل والزيتون ، دعنا نعود إلى عنايت و هو يتسلق الجبل حافياً بحثاً عن شيء لا يدركه ، قد يكون هذا الشيء هو الذي قذف بك إلى بحيرة الألوان ، فكانت شظايا الماء هي أعمالك ، ماذا تسرد لنا من طفولتك و مافيها من محرضات و حكايات ، ماذا تبقى منها في ذاكرتك البعيدة .
عنايت :
كيف ومتى مسكت الريشة ولعبت بالالوان ؟
لقد كانت أمي متعلمة ، وفي قريتنا ( برمجة ) هي التي كانت تأتي لي بالأدوات ، وتشجعني ، إلى أن توفاها الله ، حينها كان عمري إثنتي عشرة (12 ) سنة .
في المرحلة الإعدادية كان من حظي أن يأتي إلينا مدرس مصري اسمه فتحي ، كان ذلك في أيام الوحدة مع مصر فعلمني ألوان الغواش التي تغطي الورق أو لوناً آخر فيما كنت أتمرن على الألوان المائية ، و أنحت أيضاً في حجارة الحوار العفرينية المعروفة ببياضها وسهولة نقشها أو نحتها ، و بزواج أبي من إمراة اخرى بقيت عند جدي وكان لابد من الرحيل معه إلى حلب لإتمام الدراسة ،
وفي حلب رأيت الافق في وسعه والعلاقات ومعرفة الفن والمتاحف ومراكز الفنون والفنانين والخطاطين ..إلخ ، أمثال لؤي كيالي ، وحيد استابولي ، وحيد مغاربة، عبد الرحمن موقت ، سعد يكن ، حازم عقيل ، يوسف عقيل ، ولفيف من الشعراء والروائيين أمثال نيروز مالك وعصام ترشحاني وحامد بدرخان …إلخ .
بعد الثانوية إلتحقت بكلية الفنون الجميلة بدمشق وكنت قد لمعت نوعاً ما ، وبت معروفاً إلى حد ما أيضاً ، وبت أشترك في معارض جماعية مع اساتذتي .
تركت الكلية بعد ان تعرفت تقريباً على أغلب فناني سوريا في الشام ، و أغلب الوسط الثقافي ، وكما ذكرت سابقاً كان من بينهم الصديق المرحوم عمر حمدي وفاتح المدرس وقشلان …إلخ ، وما كادت السنة الثانية تقترب من آخرها حتى ودعتها قاصداً بيروت ومشتغلاً بلوحاتي و بإعلانات السينما ولافتات المحلات التجارية ، وكان معلمي هناك وإسمه جوزيف شمعون شجعني أن أكمل الدراسة مسائياً في معهد الجمهورية وتم ذلك في تخصص التصميم الداخلي ، وكان لابد من عودتي للخدمة الإجبارية وكان ذلك في الشام أيضاً ، وبعد تسريحي مباشرة ، بعد حرب تشرين قدمت على تدريس الفنون وتم تعييني في مدينة الرقة ، وهناك أسسنا فرعاً لنقابة الفنون الجميلة ، وبدأت العرض في أغلب المحافظات السورية إلى جانب عملي التخصصي في الديكور بعد أن طلبت إستقالتي من التدريس .
.. يتبع