ماجد ع محمد
إذا كان دانتي قد رسم لنا صورة الجحيم قبل أن نموت ونترك خلفنا دنيا الأحياء بكل ما يشدنا إليها، متحسرين على ما فاتنا فيها، على ما لم نقم به في حضرتها، على ما لم نقله أثناء التنقل في أرجائها، على ما ارتكبناه ولم نرتكبه بحقنا أو حق أناسها، وصرنا في عِداد الأموات رغماً عنا؛ فإن تردي الواقع السوري يوماً بعد يوم، وإنعكاس الطقس القاتم بوجهٍ عام، وتأثير المواجع المتكررة لأهالي مدينة كوباني بوجهٍ خاص على نفسية الشاعر إدريس سالم دفعاه ليقدم لنا الحياة بحلة جحيمية، على طبقٍ من القطران، على هيئةٍ معتمة مرعبة تستدعي النفور من كل ما فيها، ولا شك أن ردة فعله الأدبي لم تكن حباً بتلك العوالم الفظيعة التي لم يُخلق لها، ولا كان يوماً من طلابها، ولا ساهم في إيقاد شعلتها، إنما معالم الجحيم رُسمت ههنا من قِبل الشاعر نتيجة حساسيتة الشديدة تجاه المجريات المنظورة، وحيث بات الواقع بالنسبة له جحيمٌ أسحم يتقلب الأوادم على صفيحه وهم أحياء، وذلك كمقدمة ترويضية ربما قبل الإنتقال إلى دنيا الأموات.
والمناهض للتوقع هو أن في هذا العمل المبني بمداميك اللعنة وألسنة السعير، لم يمسك الشاعر بيد قارئه على غرار دانتي، وهو يأخذه بعد جولة العذاب في الجحيمِ نحو المطهر، ومن ثم يختم الرحلة في الفردوس لمن كان من أهله، أو من استحق المكوث فيه للأبد، إنما لم يود إدريس سالم مغادرة الجحيم أصلاً، وأبقانا في وديانه لتلسعنا حروفه حتى إشعارٍ آخر، ونتصور بأن لسان حاله بخصوص هذا القنوط الذي سُحب منه ما تبقى من الرجاء يقول: كيف أغادر الجحيم فيما الواقع في بلدي ما يزال يومياً ومنذ تسع سنوات يقدم الصور الجحيمية تلو الأخرى؟ وما من علاماتٍ تشير إلى الخروج بسلامٍ من هذه الهاوية، أو إنتهاء هذا الفصل المرعب من عمر سورية؛ بما أن رحلة دانتي في الممالك الثلاث الجحيم والمطهر والجنة بحسب أحداث الملحمة استغرقت أسبوع واحد فقط؛ يومان في الجحيم، وأربعة في المطهر، ويوم في الجنة؛ بينما الجحيم السوري قائم منذ ما يزيد عن تسع سنوات!.
ومن يتأمّل عناوين القصائد في ديوان الشاعر (وحي الحرائق، سقوط الآلهة، صراع الطواحين، بلاد منحوسة، مدن الاغتيال، لجوء يرقص مع الحرب، خساسة منفى، ..الخ) سيلاحظ بأن فكرة الخروج من الجحيم ربما لم تخطر على بال الشاعر بعدُ، وأن الصور الكابوسية والرعب والمناخ الكارثي لم يفارقا هواجس الأديب طوال فترة كتابة القصائد، وربما حتى فترة إعداد العمل للطبع، وإلاّ لكان على الأقل أورد قصيدة فيها شيء من نفح السعادة أو فيها شيء من ترانيم البهجة والحبور، إذ حتى القصائد المعنونة بالحياة لم تكن الحياة فيها إلاّ فصلاً من فصول المأساة أو الوجع كقصيدتي “خارج من الحياة” وألمٌ إكسير الحياة”.
واقعياً فرغم الوضوح الذي نقرأه في محيا الشاعر، ورغم السماحة التي يبديها مع المحيطين به، إلاّ أننا نتفاجأ به وقد دخل في خِضم لعبة تقمص أدوارٍ إشكالية في بعض قصائده، إذ في قصيدة “وحي الحرائق” ص: 7 ثمة تداخل بين أنا الطاغية وأنا الشاعر، فأنا الطاغية تمثل بنمرود الذي لم يألف إلاّ الخراب والدماء في حياته، وهو ههنا أي الطاغية ورغم أنه غدا مستشعرا بأنه شارف على الرحيل، ولكنه ما يزال غير قادر على تصور أي لوحة بهية أو نبتة جميلة تنبت على الأطلال التي كان وراء دمارها؛ بينما في المقطع السابع من القصيدة نفسها ص:10 تعبّر أنا الشاعر عن الحالة الراهنة التي ليست أكثر من محرقة تحيط بالشاعر من كل الاتجاهات نتيجة ما جلبه الطاغية من اللهيب الذي أحال كل شيء الى فحم.
وفي قصيدة “غناء الحجل”ص:11 لا يحيلنا الشاعر إلى استحضار خيبة الكرد فحسب من خلال اسطورة الحجل الذي لا يكف عن وضع الفخاخ لإخوانه ليكون السبب الدائم في الإمساك بهم، إنما يغيّر حتى أبهى المفاهيم، وعلى سبيل المثال: فالحرية يناضل في سبيل تحقيقها الملايين من شعوب المعمورة وشعوب الشرق الأوسط على وجه الخصوص، بينما الشاعر ومن فرط صدمته بما رأى وسمع وقرأ وشاهد وعايش، ومن فرط تأثره بالواقع والأحداث اليومية فغدت الحرية بالنسبة له” عفريت يلتهم الأخضر واليابس، ويشرب مريديه السم والهم” ص: 12، فيما الحرب ليست أكثر من “جرن لهرس الأحلام النقية” بينما الحقيقة التي نتطلع إليها هي ههنا لدى الشاعر “عدوة عهدٍ مفقود، صديقة عدلٍ نائم وسلامٍ هارب” ص:13، وفي المقطع 13 من “غناء الحجل” يشير الشاعر إلى هواجس الكردي في الدفاع المجاني عن هذه الجهة أو تلك في لحظة سيطرة العاطفة الإنسانية عليه، بينما بكل سهولة يتم التخلص منه، أو يُباع في مزادات السياسة الرعناء، بعد إنتهاء أسباب الحاجة إلى قربانيته، وبما أن الكردي خُدع عشرات المرات مِن قِبل الدول والسلطات فصار الشك يلازمه في حله وترحاله، في ما إذا كان سيأخذ بزمام الأمور يوماً، وتبدأ بالتالي دورته الفاعلة في الحياة على هذا الكوكب أم سيبقى رهين حالته ومجرد “أداة لا محل لها في كل العصور”؟ ص: 17.
كما أن لوحة نقد الذات القومية تعاود بصيغة أخرى في المقطعين الثامن والتاسع من قصيدة “ذاكرتان لخمسة أيام” ص: 39 وحيث أن الكردي عوضاً عن الخدمات الجليلة التي قدمها للآخرين، وبدلاً من الفوز بالمغانم لقاء تضحياته الجسام، يفقد حتى ما كان يمتلكه من قبلُ، بل لا يكافأ عادةً إلاّ بالقبور على ما قام به، كما أن هذه المحنة المتكررة يعيدها الشاعر بطريقة أخرى في المقطع السادس من “جحيم حي”، وحيث يشير فيها إلى مَن يغامر منذ سنوات بأجساد ودماء وأرواح ومستقبل الكرد وخاصةً ذلك الطرف السياعسكري الذي فرض نفسه بقوة السلاح والأيديولوجيا على المناطق الكردية في سورية بعد 2012 حيث يقول الشاعر: “نحن من نشتري الحروب، بدماء أبنائنا، نبيع الانتصارات لألد أعدائنا، نحن من نزرع أراضينا، رصاص ومقابر، نزركش بيوتنا …خنادق وشبابيكنا… بنادق” ص: 47، وكذلك الأمر في المقطع التاسع من القصيدة حين يقول:”ماذا ستفوز في رهان الحياة أيها الكردي السكران؟ أنت تخسر، أنت تباع بأرخص الأثمان”ص: 52، والملفت في العمل هو أن الشاعر وقبل الشروع في نقد المجتمع والذات القومية، كان قد استفتح الديوان بنقد الرب المنزلي ولكن بطريقة مستحبة تدل على معاتبة المحب حيث يقول: “غريب يرانا كباراً، وقريبٌ يرانا صغاراً ص 6.
أما في “سقوط الآله” ص:19 فيتناول المفارقات الكبيرة من خلال تغيير المفاهيم المجتمعية، كما لا ينسى في القصيدة ذاتها وخاصة في المقطع الثالث منها بأن يعري الناطقين باسم الدين، هؤلاء الذين لم يقدموا أي صورة إيجابية لهم في كوباني وعفرين سوى أنهم غزاة كرِهون ولو تلحفوا بمزامير وسور كل الكتب المسماة بالسماوية، وفي المقطع الرابع من القصيدة يلمح إلى أن ثقافة السلب والنهب هي جزء من كينوتهم الوجودية، بينما في المقطع الخامس من القصيدة فيحيلنا الشاعر إلى صيرورة التاريخ في هزيمة كل من كانوا مجرد قفازات للآخرين الذين لم يرغبوا في استخدام أياديهم في القذارة وممارسة جميع الموبقات، لذا استأجروا أدوات الإرتزاق لتحمل عنهم وزر الغزوات؛ وفي “صراع الطواحين”ص:25 يقدم الشاعر لوحة فجائعية لكوباني بعد غزو قراصنة الدين الذين دمروا المدينة قبل أن ترفعهم إلى السماء طائرات التحالف الدولي، ومن ثم تحكُّم بضعة أقزام من أتباع الإله القابع في الجزيرة، الذين قدموا من خلف الحدود ليتحكموا برقاب الخلق في المدينة “بذكاء الثعالب، وذكاء الذئاب” ص: 30، المدينة التي ما تزال مجروحة بطعنات جنود الرب السماوي ومقامرات القادة الجهلة لزعيم تلك العقيدة الأرضية، وفي قصيدة “أيتام وطن من ورق” نقرأ أقبح ما يمكن أن نعاين من الصور المقدمة عن الوطن، وحيث يقول الشاعر: “أيتام وطن من ورق، في عراك على أريكة ما، أفيال تغتصب نملة، أفاع تزرع فحيحها في رؤوس الديدان، صقور تنتشي في سيقان الجنادب، قطط تتحرش بالذئاب، هذا هو وطني، مستعمرات تتحرر من شراساتها، مجاز يعيش في المجاز” ص:35.
وبما أن الطغيان والاستبداد حاضرٌ في الحياة العسكرية والأمنية السياسية والدينية وربما حتى الاقتصادية بالنسبة للشخص المعدم في غالبية دول الشرق الأوسط، ولئلا يقول الشاعر للقراء بأن هذا الذي أمامكم أو الذي يمكث بقربكم أو فوق أنفاسكم هو مَن أتحدث عنه، رسم للقارئ ملامح المستبدين والطغاة من خلال شخصية الدكتاتور الأحمر في قصيدة (ذاكرتان لخمسة أيتام) حيث يقول فيها: “ستالينُ: غولٌ أكُولٌ، تركَ ميراثاً، من هزائمَ مُنتعشةٍ، في عُكّةٍ أكلَتها كُهُولةٌ مالحةٌ، إرهاباً ينخرُ في نُطْفة العرّافين والعرّابين، دكتاتوراً نصفُه جلّادٌ، ونصفُه جزّارٌ؛ موتاً ينِزُّ في جَفنة مُنتصبةٍ، غسلَ وجهَنا بالرياح والجبالِ والخذُول”ص:41.
كما أن الشاعر في لحظة تذمره من غياب العدالة لدى واهب الموجودات في القصيدة ذاتها يعاتب الخالق على عدم إنصافه مع كل مخلوقاته على اختلاف مراميهم وقيمهم وممارساتهم، وحيث يضعهم في محفلٍ واحد، وهو ما يشي بأن هذه الآلية لدى الواجد هي بمثابة العقوبة القاسية لبعضهم، بينما في ذات الوقت فهذا اللاإنصاف قد يغزي مشاعر الإثم والعدوان لدى غيرهم؛ وفي “وطن معتر”ص:63 يذكرنا الشاعر في المقطع السابع من القصيدة بمجزرة كوباني التي وصفتها وسائل الإعلام عقب الكارثة بفترة وجيزة بأنها ثاني أكبر مذبحة ارتكبها تنظيم داعش في سورية، إذ أسفرت المجزرة عن سقوط نحو 500 شخص بين قتيلٍ وجريح، إضافة الى أسر نحو 50 شخصاً حسب الهلال الاحمر الكردي.
أما في القصيدة التي حملت عنوان:”خيمة حرب.. حرب أرقام” ص:71 يظهر الشاعر كيف أن السلوكيات القميئة للكثير ممن حملوا السلاح وسموا أنفسهم ثوارا دعت الناس بعد مشاهدة سلوكياتهم القميئة إلى أن تغيّر من نظرتها للثورة والثوار معاً، وبالتالي تعيد قراءة الثورات والانتفاضات بطريقة مغايرة لم تعد هي نفس النظرة التي كانت للثورة والثوار في سورية قبل 2011، وحيث كانت الثورة ابان تفتقها انشودة عذبة، بهية، مشرقة، حالمة، يتغنى بها الشباب والصبايا ليل نهار، بينما اليوم يتأفف من اسمها وسيرتها حتى بعض مَن كانوا مِن أكثر المتحمسين لها، وفي المقطع التالي:”إن لم أنطقها، إن لم أجدها، تأكلني ديدان، نمل، دبابير، رياح وأشباح” ص 80، من قصيدة “لنعد صغاراً” ثمّة ما يحرّض الشاعر على البوح والتحري رغم العواقب المحتملة، وهو يشير إلى أن وقائع الحياة اليومية ومنغصاتها والمواقف التي تصادف الواحد منا قد تماثل نفس الحالات التي عايشها قبلنا آخرون، وربما ستداهم شخصاً ما نفس الهواجس في عصورٍ لاحقة، إذ لعل تلاطم المشاعر المتضادة بسبب ظروف الصراع الدائر منذ قرون بين الخير والشر، الحق والباطل، الحرية والعبودية، الاستبداد والديمقراطية لدى الشاعر إدريس سالم كانت نفسها لدى الشاعر الفلسطيني الراحل معين بسيسو الذي دفعته الوقائع والظروف ليكتب يوماً: “إنْ قُلْتَها مُتّ، وإن لم تَقُلْها مُتّ، إذَنْ، قلها ومُتْ”.
وفي قصيدة “إحباطٌ ثرثار” يظهر الشاعر كيف أن إطالة أمد الخراب والدمار في البلد واستمرار الظروف الاقتصادية القاهرة جعلت المواطن يضيق ذرعاً بالآخرين، وحيث أن التعاسة التي تراكمت على كاهل المواطن لم يعد بسببها قادر على تحمل أثقال سواه، إذ غدا المرء عبئاً على غيره بعد أن أنهكت الحرب الكل، وقضت على أحلام الجميع في التغيير نحو الأحسن بقوله “كلانا يقول للآخر: أعتقني حتى أعيش بسلام أو أموت بسلام” ص 94؛ أما في قصيدة “خارج من الحياة” ص: 97 يحاول الشاعر أن يجعل أماكن العبادة أكثر دفئاً واُلفة وحيوية، وبعيدة عن التزمت والرسمية والجهامة، فتغدو تلك الأماكن قريبة جداً من الهواجس والمشاعر اليومية لطلاب الدنيا والآخرة على حدٍ سواء، محاولاً بذلك أن ينزع عنها القيود والمكبلات الماورائية، فتصبح الكنيسة مثل روضة أطفال، والجامع أشبه بملتقى للرومنسيين والعشاق والشعراء، فيقرّب بذلك أماكن عبادة إله السماء مِن أهل الأرضِ ومَن يدب عليها أكثر من تعلقها بالماوراء وأهداف ومرامي الآخرة، وهو ما يذكرنا بالكاتب الكردي زاغروس آمدي في كتابه “تأريض الإسلام” والذي حاول هو الآخر قبل رحيله عن دنيانا في الشهر الماضي أن يزيل المقدس من النص الديني ويقطع الحبل السري بينه وبين السماء، ليشعر ويفكر المواطن المتدين بحرية أكثر بعد تخطي كل الأسوار التي أحيطت به وتخلصه من كل الحواجز المنصوبة أمامه.
وفي نهاية هذه القراءة السريعة للديوان فمن الصور الشعرية واللقطات التي تدعو القارئ إلى الوقوف ملياً أمامها، وعلى إثرها قد يغادر عالم المكتوبِ حيناً ليسبح في الفضاء الخارجي قبل أن تجذبه إليها لقطة أخرى من الديوان، نقرأ:
“شخيره يسرح في أرجاء الغرفة” ص 6
“زرعوا في نفوسنا، قائداً قوّاداً، يتوضأ من جمرنا، ويصلي” ص 26.
” كلما خيطنا وجهاً جديداً، عدنا، وارتدينا وجوهنا القديمة” ص 40.
“لمَ كلما أنهضُ، يقفُ صدأ الغبار على قدميه” ص 77 .
“أكسبني ما تبقى من شرفٍ متلعثم، فأسراي مشردون في محرقةٍ عزباء” ص: 108.
“أملك ذكريات محاصرة في ذكرياتي، أملك نبيذ أيامٍ ولا أملك نخب انتصارٍ على تراجيديا الأزل”ص: 113.
ــــــــــــــــــــــــــ
صدر ديوان الشاعر السوري إدريس سالم، هذا العام وحملت المجموعة الشعرية الصادرة عن دار فضاءات للنشر والتوزيع، عنوان «جحيم حيّ» وتقع المجموعة في 130 صفحة على امتداد عشرون قصيدة تتناول مواضيع متنوعة تتعلّق بالدين والموت والسياسة وخيانة الوطن، إضافة إلى موضوعات استبداد أنظمة الشرق الأوسط وانحراف الثورة السورية والحرب والمجازر واللجوء.