في غرفة العمليات

خالد إبراهيم
عندما حاول طبيب التخدير أن يلعب معي لعبة الخيال والغوص بي نحو الموت السريري المؤقت، طلبتُ منه أن أرى الطبيب مسعود، كنتُ خائفا بعض الشيء، إلا أنني توسمتُ به كل الخير، لا أعلم من أين هو الطبيب مسعود، هو ليس كردياً بالطبع، ولكن أسمه جميل ويعشقه أغلب الكردستانيون.
لا أعلم من أي مدينة بالضبط، ربما من بلد البراميل المتفجرة / حلب الشهباء/ ربما من حمص العدية، ربما من دمشق أو ريفها، هل يعقل أنه من دير الزور وقد شرب من الفرات أو دجلة، كل ما اعلمه أنني طلبت لقائه قبل كل شيء محتمل داخل تلك الغرفة المخيفة،
حيث قام بترتيب الأنابيب على معصميَّ وحقني بشيء غليظ تخيلته زجاجة متوسطة الحجم ممتلئة بالماء، علمت حينها لن أرى أحدا، ولكنني تحايلت عليه وعلى معاوينه، طالباً منهم قلماً وورقة بيضاء، رأيته كيف يضحك، مستغرباً قائلاً:
الآن قد عرفتكَ، أنتَ الكاتب فلان إذا، لقد حكى عنكَ الدكتور أحمد رشيد من الأمارات، ابتسمتُ له موضحاً حقيقة ما قاله الدكتور أحمد، بينما احسستُ بدوارٍ بطيء جداً، أحسسته كيف يتقدم نحوي مثل الأفعى الهادئة، إلا أنني تظاهراتُ بالحذر الشديد، حاولت أن أكتب عن شيئاً ما، ربما عن الوجع نفسه، ربما عن غليان الجسد ومن تحته جمر الأحقاد المسعورة، ربما عن مستقبل قدمي التي تخيلتها مشلولة، ياااااه
لم افعل شيء ولكنني سمعتُ نفسي أقول: أين هو مسعود؟
أين هو أحمد رشيد؟
كم مغرية لحظة التخدير العام، أحبها، أعشقها، لا تشعر بشيء وأنت تعلم سالفاً أن هناك طبيباً وجراحاً وآخرون بغرفةٍ مليئة بالأجهزة والسكاكين والمشارط والمطارق، يجهزون لكَ محكمةً ميدانية، هم أبطالها لا محالة.
لديهم الوقت الكافي كي يجعلوكَ بطلاً أو مارقاً، عاجزاً، ومشلولاً إن شاءت الأقدار، يستطيعون أن يرسمون على وجهك وردة، نعم هم الملائكة المخيّرون، المسَّيرون، على الأرض
نعم، هم بارعون جداً في مهنتهم العلمية، وأنا سأكتب
وماذا ستكتب، قال لي الطبيب مسعود
سأكتب عنكم، سأكتب أنكم رسل الله على الأرض، تجتاحون علوم المستحيل بأدمغتكم الفتاكة
سأكتب عنكَ أيضاً
عني أنا، قال الطبيب مسعود
نعم، سأكتب أنني أعرفكَ منذُ براءة الطفلة وأكوام الثلج في شوارع مدننا البعيدة
وأعلم أيضا ستجرح ظهري الآن، وستمارس عليه كل أنواع الممنوع والمسموح، لا أدري ما هي عدد الأجزاء التي ستجزئه، وكم هي كمية اللحوم الخائنة التي كانت تنمو بجسدي، لا تدعني أراها، أرميها لكلاب الليل وقطط النفايات
ولكن دعني أدخن
دعني أدخن
دعني أدخن
دعني أدخن
هل أنت وحيد يا خالد؟ يسألني الطبيب
وماذا تعني بالوحدة أولاً
ما تعرف عن الوحدة يا صديقي الطبيب
هل تعني الأهل والعشيرة: سأقول لكَ بميزان العقل لا أملكُ أحداً
أم الأصدقاء والأحباب، والخلان ايضاً سأقول لكً أنني لا أملكُ أحداً
أم الأصدقاء الافتراضيون المارقون والحاضرون كما هؤلاء الذين تراهم في أعراس القرى المنكوبة، ينتظرون وجبة الغداء من قطع لحمة وخبز الصاج
ماذا تعني بالوحدة يا دكتور:
لستُ وحيداً بقدر قتل نملة، لستُ وحيداً ما دام الفيسبوك بدء يحل مشاكل الكثيرين، ببوستٍ فاسق، أو مقالٍ تلميعي.
لستُ وحيداُ ما دام الماسنجر لدي نائم، مشلولٌ، يسألون غيري عني، مفارقة غريبة / عالمٌ جرثومي مولودٌ من رحم السيكس
الوحدة ليست هكذا
الوحدة كانت عندما اشتهيت حبيبتي أن تكون معي قبل مشرطك هذا.
صباحاً وقبل فنجان قهوتي وسيجارتي
هل تحبها؟ يسألني الطبيب
وهل تكره مهنتكَ؟ سألته
هل تكره وطنكَ؟ سألته مرةً أخرى
أنا هكذا يا صديقي الطبيب
نظرَ أليَّ مبتسماً و وضع يديه حول خاصرتي المعطلة
كنتُ أريدها أن تقول لي كلمة واحدة، كلمة واحدة قالتها ليلة أمس ولم أنم ليلتها، ربما كانت حقيقة، ربما لا
ربما كان بيني وبينها بكاءٌ فقط، الوحدة، التي أحسُ بها الأن يا صديقي الطبيب، برودة هذه الغرفة، مشرطكِ المخيف تارةً وابتسامتكَ الجميلة تارةً
لا عليكَ، دعني أحكي لكَ عن هذا العالم الموحش، الذي ينتظرني، الجميع يريد مني قطعة.
نعم ستخرج، ولن تخرج قبل أن أراكَ بخير، ستخرج وسترى ملايين السكاكين والمشارط والمطارق بانتظارك وعليكَ توخي الحذر، يرد علي الطبيب / مسعود/
هل تعلم أن لدي صِفة تلازمني منذ الصغر؟ ردتُ على الطبيب بينما أشعلتُ سيجارةً ونارها غضب الله في صدري.
هل تعلم إنها عكس شخصيتي التي يراها الجميع يا دكتور
أنني أحب قضاء أكثر وقتي في المنزل بعيداً عن السكاكين والمشارط والمطارق
 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…