خالد إبراهيم
عندما تهبطُ عليك لعنة الكتابة، ما عليك سِوى الصمت، والتفكير بعمق يضاهي ترسّبات الأرض، وبُعدِ السماء عن النار والماء، كُنْ حُرَّ الأصابعِ والرؤيا والمنافذِ والمعابرِ، ولا تسقطْ في فخّ مليء بالأشواك وأقراص «الإباحية» المدوي في فلك هذا الأتون القبيح، اشربْ القهوةَ بهدوء، واجعلْ من سجائرك صكٌّ يفتحُ لك معبراً نحو صورتك المُعلّقة على باب وجعك الممتدّ منك، وإليك كخيط «نايلونٍ» شفّاف.
الآن وأنا جالسٌ، في عمق هذا المشفى الذي باتَ يُرعبني، وأنا الاوسلندر المحروق بوجع حضيض النسب والملّة، لا أرى سوى سقوط الأخلاق مِثل رصاصات، وكيف تخترقُ الرصاصاتُ جوفَ عتمة عينيّ، لأقولَ لنفسي أنها الغربة، الغربة التي عَرتْ الوجوهَ أكثرَ مما كانت عاريةً، فلم أعدْ أدري كيف يتجرّأُ البعض من زرع مفخّخة، أو وضع قنبلة في بهو حديقة عامة، أو قنص قلب إنسانٍ عابر، عابر من كلّ ما جرى ويجري، بريءٌ مِثل دمعتي الأولى والأخيرة.
هل ينبغي أن تقتليني دون هدف إنساني أيّتها الغربة؟
تعالي لنتكلّمَ قليلاً، ودعكِ من زناد المسدّس، حَملُ السلاح عملٌ رجولي إن تمّ استخدامه في الزمان والمكان الصحيحين، تعالي لنجلسَ هناك على تلك الصخرة المنشطرة إلى حذفين وهاويتين تتلاقيان وقت غياب الشمس، وبعد أن يحلَّ النعاسُ على فوهات المدافع والبنادق سأحكي لكِ عن ميزان المالِ والعقولِ والقلوبِ المثقوبة، سأحكي لكِ قصصَ العشّاقِ، عن هذا الكم الهائل عني أنا.
عني وأنا في هذه الزنزانة المطلية باللون الأبيض، أنظر إلى شباكٍ في أعلى الجدار، منتظراً زائراً، أو كلمة طرية، تصقل هذه القساوة التي تمددت بين أطرافي
إلى من كنتَ صديقي
الصداقة أفعال وليست مصالح وأقوال
ياااااااه أيتها الحرب
لا تخافي، فلن أخبرَ والدتك أنك تشربين السجائر سرّاً، ولن أبوحَ لأحدٍ عن علاقتنا وعادتنا السرّية في فراشك المنقوش بالدم والبارود. يخيّلُ لي أن العالمَ نائمٌ الآن، لذا يتوجّبُ عليك أن تتعرّي أمامي مثل الأنثى، وقبل أن أبدأَ بالعبث العطشان، اسمحي لي بالصراخ بوجه النسب والملّة، بوجه العابرين، اسمحي لي بالبكاء على كتفيك برهة، دعيني ألتمِسُ كلَّ هذا الخوفَ المندثرَ على أديم جسدك، ربما ترقصُ ذئابُ روحي مع هذا الأتون المندسّ، الذي لا يخدمُ غير القوادين والعاهرات.
أيّتها الحربُ:
هل تذكرين كم من الفرسان قد سقطوا؟ وكم من الأطفال اختفوا؟ وكم من العصافير هاجرت؟
هل تعلمين قد حوّلتِ هذا الكون إلى مقبرة واسعة وبعين واحدة؟
هل تعلمين أنكِ رفعت عن الكثيرين أقنعتهم المزيفة، كم صديقٍ تغير، كم من قريبٍ أبتعد دون مبرر، كم أخٍ رفسَ أخاه؟
يوووووه أبتها الملعونة الشرسة، عن ماذا أتكلم لكِ؟
هل تعلمين أن أصابعَنا باتتْ تكتبُ سياسة بمناسبة أو دونه؟
وأحياناً تكذبُ السياسةُ، ذهابُنا إلى المدارس سياسة، اجتماعاتنا العائلية تتحوّل إلى سياسة، حتى كلمة شكراً ومرحباً نحوّلُها إلى سياسة، حتى ممارسة الجنس مع زوجاتنا باتت سياسة، والجنينُ في رحم أمّه نوعٌ من أنواع السياسة.
من أين أبدأُ بالحديث، وهذا الكم الهائل من الألم يتسلّقُ جدرانَ حنجرتي؟
لماذا لا تميّزين الكراهيةَ من المحبة؟
أيّتها الحرب:
تعالي، وجرّبي هذا القلب المُدمى، افتحيه بهدوء، المسيه بكلّ لطفٍ، ولا تحرّكي الخناجرَ المغروزة فيه، فقط تمعّني النظر، وستعلمين كم قلبي يحبُّ هذه الحياة وكم يخافُ من لحظاته الأخيرة.
حسناً أيّتها الآلهة:
هناك مَن يدسُّ السمَّ في عروقنا، هناك مَن حوّل الطفلَ في الثمانين من العمر، وهناك مَن حوّل ملحَ البحارِ أمنية الفقراء والمحتاجين، وهناك أيضاً مَن حرقَ رغيفَ الخبزِ بطلقة رصاصٍ مأجور.
هناك الكثيرُ أيّتها الحربُ، ستشرقُ الشمسُ، ولم أنتهِ بعد، حيث أن الله يُسدلُ ستائرَ غرفته الترابية كخيط دخّانٍ يتسلّلُ من ثقوب الفضاءات الواسعة، هو يراني الآن، ويسمعُني جيداً، إلا أنه يتباهى ويتغاضى، ويخفي كلّ أخطائي.
أريدُ أن أراه، سيبكي كثيراً، هكذا ينبغي أن يكون، وهكذا أتخيّل يومَ وقوفي بينَ جموع الكلاب والقوادين ومتسوّلي الشوارع الباردة. لا أدري مَن هو الله؟
شهيدٌ، أم معتقلٌ، أم قلمٌ، أم سجّانٌ، أم صرخةُ طفلٍ تحتَ مزنجرة، أم أنا هذا الذي يلتفُّ حولَ صمتِه على هذه الصخرة؟
أم عن صديق ابتعد، أم عن أبٌ تخله عن طفله، أم عن أمٍ لم تكلم ولدها منذ قرابة العامين وأكثر، أم عن عنين العنُّ المعنون المُجيف في شوارع أوروبا التي كشفت طبائع الإنسان الشرقي، القحب، القواد، الجنسي المنال؟
لا أدري متى سنتحدّثُ مرّة أخرى أيّتها الغربة التي مازلتِ تنحتين ما تبقى في جسدي؟
كوني على يقين أننا سنعيشُ رغمَ هذا الشرَّ الذي يملئُ الكونَ؛ لأن الحياةَ تولدُ بدواخلنا في اليوم آلاف المرات، هكذا علّمتنا الإنسانيةُ، وهكذا تمضي بنا الأيام.
عجيبة هذه الدنيا، غريبة الأطوار، تتفسخُ بين أضلعكَ جرحاً يتلو جرحاً، تتساقطُ كما أوراق الشجر المتناثر في العراء، في العراء الذي يتصدر شتاءاتِ زمنٍ مرّ.
هل مارستَ الصبر الفتاك ضد السحر والسحَرة، والمشعوذين؟
هل عانيتَ من غضبٍ غير مسموع وغير مرئي، تماماً مثل الشَّر الذي يحصد الارواح والمدن؟
وأنتَ تلتفتُ حولكَ مثل الخائف المعجون، المُلتحفِ بهرطقات ملطخة بدماء الشّر، العابث في ديجور الاتجاهات المدمنةِ، المُبتلةِ، الدافئةِ تحت يقطين الزوال مِن العدم.
حتى الأطباء، بارعون في رجم الوقتِ، بالسكاكين والمشارط والمطارق، هم ملوك الأسلحة البيضاء في صراع الوجود واللا وجود.
هل جربتَ أن تنغرز عنوةً في جسدِ العزلة مثل مسماراً منسيّ في جدارٍ متهالكٍ يُسمى الرعب؟
ما أرعب هذه الدنيا وأنتَ وحيداً تصارع بقاءكَ الأبدي الخالد الأسطوري يا أيها الإنسان؟
أنثرُ نَفسي كحباتِ رملٍ على شواطئ تمتصُ عبق القهر والترحال، لئلا أتصدعُ وأسقطُ مثلَ جبلٍ يتهاوى إثر زلزالٍ أحمق أسمه (الوحدة)
اشتاقُ لنفسي وأنتِ معي
” مرعبةٌ غرفتي لهذه الليلة، السرير الأبيض يتمايل مثل تابوتٍ يريد الهروب، فلا أعرفُ إلى أين؟
الجدران تتهامسُ، زجاج النافذة يقفزُ أمامي، بل يتحول البلور إلى سِهامٍ تجرح جسدي المعطوب، البردُ، العتمةُ، القهوة الباردة، حزني المثقوب بالدمِ والرصاص، ألم ظهري، رأسي الذي تحول كجرّةٍ فارغة، معدتي الفارغة، صبريَّ المفقود تحت تلةِ الملاعين”
كُل هذا لا يهم
ما يشطرني إلى شطرين هو بكاءكِ ليلُ البارحة، خوفكِ الذي يتربص بي مثل ملائكة الرحمة، حزنكِ الذي ينهش ما تبقى من قوةٍ بأعماقي
لا تكوني ضعيفة، لئلا أذوب مثل شمعةٍ وسط عتمةٍ قاسية
أحبكِ