غريب ملا زلال
تعرفت عليه في بداية الثمانينات ، كنّا حينها على مقاعد الثانوية ، كان له نشاط ثقافي كبير وكثيف و على نحو أخص ضمن الفرق الفنية الفولكلورية الكردية / تشكيلياً ، مسرحياً / و التي كانت عروضها محصورة لعيد نوروز فكان الدينمو الأهم لهذه النشاطات ، يمثل ويخرج بنجاح ويرسم جداريات المسرح بنجاح آخر ، المسرح الذي سيقدم في الهواء الطلق ، و هو إبن المدينة التي ولدت فيها / عامودا / مدينة صغيرة بجسدها ، كبيرة بقلبها و بمبدعيها ، وكنت أراهن دوماً على الطاقة الإبداعية في دواخله وأكسب الرهان ، و تشاء الصدف أن ندرس معاً في دمشق ، فيلتحق هو بكلية الفنون الجميلة المكان الأنسب له و ألتحق بدوري بكلية الآداب ، وكان يبهرني دوماً بصفاء روحه و نقاء علاقاته مع اللون من جهة ومع أصدقائه من جهة أخرى ،
وكان قد زارني في صيف 2014 ، هنا في تركيا ، التقينا بعد فراق دام أكثر من ربع قرن ، و على مدار وجوده في ضيافتي حوّل جزء من مكان عملي إلى ورشة عمل فيها يضج باللون فخرج لي بعملين ، ما زلت أحتفظ بإحداها والثانية ذهبت ولم تعد حيث شارك بها في كرنفال آمد للفن التشكيلي على أمل أن تعود إلي ، رحيمو من الأسماء التي كان من المفترض أن يكون له حيّز أكبر من الذي يشغله الآن ، فهو يملك طاقة إبداعية تنحدر من أعماقه حمامات وديعة ، سعدت مؤخراً حين علمت أنه يقيم معرضاً في بروكسل ضمن جوقة مشغولة بالخفقان الجميل .
أعماله مسكونة بنزيف من العشق المنبعث من عالم يسعى إلى تشخيصه بإثارة إنفعالات شخوصه ، فهو يؤسس لخطاب لا ينطفىء و إن كشف على نحو ما عن لعبته السردية فهو ينيط الحكاية و في بعده الشاقولي بسيل من التفاصيل العميقة مع حشدها بكميات متفاوتة القيمة من تشكيلات عاطفية مدروسة تخضع لإفراط حسي واسع و فاعل في التحريك لا في التثبيت ، و هذا ما يجعله يؤسس للدهشة مسلكاً يمكن التعرف عليه من الكتل اللونية التي تسيطر عليها العتمة مع ترك آثار لبريق هي أحزمة التعبير لديه على أساس من التقلص التدريجي لحالات الضوء فله مقدرة عالية في التحليق مع عصافير الروح في الموقع المحدد من فضاء العمل الفضاء المكتظ بالحركة وبكرات ضوئية تدفع النور المنبثق من اللوحة بدينامية نحو الداخل ، و هذا ما يجعله ينخرط في مغامرة بناء المعرفة دون أن ينزلق في المجاهيل ، فإدراجه العمل ضمن تداخل الحركة المتموجة للحزم الضوئية يدفعه لخلق شكل من التجانس بين النور المنتشر أفقياً والعتمة التي تتراجع للخلف ، و يرفد كل ذلك بتراكم معرفي يدفعنا بدوره إلى محاورة بحثه في أكثر من نقطة و في أكثر من إتجاه مع ضرورة الإشارة في إطار الواقع الفعلي لتعامله مع منجزه و الذي يجعل منه خالقاً و مخلوقاً في الآن ذاته ، أي متابعاً و مرتبطاً بلغة الحوار التي تجره لا إلى عنق التجربة بل إلى عمقها ليكمل البحث فيها حيث شطحاته الخيالية العذبة و التي تضاف لتجربته مما يمنحها إضافات جميلة يعتز بها و يحرص عليها كطرحه لأسئلته بجهد من المفيد النظر إليها و الوقوف عندها ، فهو يطرح التجريب كبحث عن أشكال جديدة في التعبير قد يكون ناجحاً أو منهكاً في عقد ليست قليلة ، لمنجزه ذو طابع جمالي / إنساني يخاطب المتلقي في تحيزاته المثيرة و الكثيرة ، و قد يكون هنا السر منذ البدء حين قام بنقل مشروع تخرجه من كلية الفنون الجميلة في دمشق الى مدينته عامودا ضمن معرض فني تحول فيما بعد إلى تظاهرة فنية جميلة ضجت بها المدينة كلها ولم تشهد هذه المدينة الغنية بمبدعيها مثلها .
……