ذاكرة التفاصيل

عمران علي
فيما كنّا جالسين ويمرر أحدنا للأخر حديث الأمكنة ، استعرضنا الأصدقاء والقرى ووجوه شخوصها المغبرة ، منحنيات الدروب واشباح القادمين من البعيد وما فاتنا التوقف عن سرد ماأصابنا من التجهم على سبيل البلاد ، تجاهلنا وجودنا في خضم الأضواء لنستنزف حلماً لطالما راود ذواتنا المختلة وبوجع بالغ .
بتّنا جادين بالخوض فيما أصبحنا عليه من التكتم ، رمينا على أكتافنا وزر المشقة وتوغلنا في عميق المعضلة ، غافلنا الوقت ونحن نوهم الطاولة بنرد الفرص ، أفرغنا عليها ملامحنا وأسبغناها بكنايات التخب .
كم كان شاقاً ذاك الحديث حين انجرف بأنفاسنا صوب المشهد وكم كنا سفهاء حين تأملنا في لملمته بوازع النقاء . 
غادرتنا الوجوه وتركت صخبها في ذاكرة المقاعد ، حاولنا المهادنة وتقمص الأداء تارة لإيهام النفس بالموازة ومن ثم الترفع بوتيرة التغاضي تارة أخرى علّنا نستفيق من ذهول الحالة لنركن أجسادنا بوجلٍ  إلى مقتضيات المشيئة . 
في البداية أفردنا على مضض محتويات حقيبتنا وحين تسنى لنا فسحة وافية لنقترب أكثر لم نتردد وعلى الفور حملنا فوضانا وبعجالة لنستحوذ على منصة لائقة للبدء باستحضار مافاتنا من الأنتظار ولنخصّ قساوة خشبها من بقي منسياً في معرض الافتقاد .
على تلك الرقعة الصغيرة أفردنا متسعاً من الأسماء والأمكنة وكذلك أوردنا الكثير ممن تنصلوا من دفاترنا في غمرة التوصيفات ، بحثنا المضني عن أشياءهم والتي غافلتنا لوهلة ما وانكفاءهم في أدراج المدوّنات .
داهمتنا الممرات بتفرعاتها الضيقة وأسبغت علينا نهايات الفصل وأحالتنا من جديد إلى خريف متسكع لتتداول دورة أصفرارنا من على متن المنابر وفي مدنٍ تناسلنا إليها تباعاً بهيئة مارقين وبصنوف شتى من الأهمال .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس

حين يمرض الضوء، تبقى الذاكرة سنده.

قبل فترةٍ ليست بعيدة، استوقفني غياب الأخت الكاتبة نسرين تيلو عن المشهد الثقافي، وانقطاع حضورها عن صفحات التواصل الاجتماعي، تلك التي كانت تملؤها بنصوصها القصصية المشرقة، وبأسلوبها المرهف الذي حمل إلينا عبر العقود نبض المجتمع الكوردي بخصوصيته، والمجتمع السوري بعموميته. كانت قصصها مرآةً للناس العاديين، تنبض بالصدق والعاطفة،…

خالد حسو

 

ثمة روايات تُكتب لتُروى.

وثمة روايات تُكتب لتُفجّر العالم من الداخل.

ورواية «الأوسلاندر» لخالد إبراهيم ليست رواية، بل صرخة وجودٍ في منفى يتنكّر لسكّانه، وثيقة ألمٍ لجيلٍ طُرد من المعنى، وتشريحٌ لجسد الغربة حين يتحول إلى قَدَرٍ لا شفاء منه.

كلّ جملةٍ في هذا العمل تخرج من لحمٍ يحترق، ومن وعيٍ لم يعد يحتمل الصمت.

فهو لا…

صدرت الترجمة الفرنسية لسيرة إبراهيم محمود الفكرية” بروق تتقاسم رأسي ” عن دار ” آزادي ” في باريس حديثاً ” 2025 “، بترجمة الباحث والمترجم صبحي دقوري، وتحت عنوان :

Les éclaires se partagent ma tête: La Biography Intellectuelle

جاء الكتاب بترجمة دقيقة وغلاف أنيق، وفي ” 2012 ”

وقد صدر كتاب” بروق تتقاسم رأسي: سيرة فكرية” عن…

كردستان يوسف

هل يمكن أن يكون قلم المرأة حراً في التعبير؟ من روح هذا التساؤل الذي يبدو بسيطاً لكنه يعكس في جوهره معركة طويلة بين الصمت والكلمة، بين الخضوع والوعي، بين التاريخ الذكوري الذي كتب عنها، وتاريخها الذي تكتبه بنفسها الآن، فكل امرأة تمسك القلم تمسك معه ميراثاً ثقيلا ً من المنع والتأطير والرقابة، وكل حرف…