أمسية كانونية

عمران علي
العازف في تلك الليلة الكانونية كان يتفقد أصابعه والصبية الواقفة بالقرب منه كانت مذهولة بدفء تنويعاته ومستغرقة في الأداء، كان صديقي القصي عني في الساحة وبمعطفه السميك منهمكاً بالحميمية، يترنح على ايقاع صوتها غافلاً عن المشهد وعن كينونة اللحن فثمة أوتارٍ كان يرتأيها وترتج في دوامة مخيلته، كان منتشياً وفاقداً لصواب الخطو، يتأرجح كالإنارات فيتناثر كالظلال في المكان فتتهجاه إضاءاتها. 
في الساحة تلك وفي ثنائية تشاركية حيث كانت تلك الواقفة تقلّد المؤدي انصاتها وتبهره بمقطوعات وقوفه وبمحاذاة المشهد كانت النقوش المنفلتة من أحجار الكاتدرائية والطافحة بالبخور والمهرة تستولي بأحقيتها على زخرفة من تبقى وتسترعي على فائض الدهشة.
أحتسيت جلوساً بعناد أزلية المكان وأدعيت الأصغاء والتصفيق كي أبرر للمشهد ولعي وحتمية المثابرة فيما صديقي يجوب الزوايا في البحث عني غير مدرك بما تولاني فينصاع كلانا للأخر وبتنا كمن يطوف حول رخاوة المناسك وصعود مدّعيها، ترنحنا معاً عائمين على صفحات الشوارع وهي تفسح المزيد من الوجوه ، نتبدى لها على هيئة متسكعين يستحوذان على جمهرة نقدية بإزدراء الواجهات، نتباعد قليلاً فتسعفنا الجرعات في الأمتثال لجاذبية الوجهة، صديقي ذو المعطف السميك والمندرج على لائحة البدواة يصرُّ على الدوام في غرز قراه على لاحات الأمكنة فيما أنا أحمل عنه أوتاد وجعه في كل تفصيلة واستمر عاجزاً في تنصيب شعائرها .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…

ماهين شيخاني.

 

وصلتُ إلى المدينة في الصباح، قرابة التاسعة، بعد رحلة طويلة من الانتظار… أكثر مما هي من التنقل. كنت متعبًا، لكن موعدي مع جهاز الرنين المغناطيسي لا ينتظر، ذاك الجهاز الذي – دون مبالغة – صار يعرف عمودي الفقري أكثر مما أعرفه أنا.

ترجّلتُ من الحافلة ألهث كما لو أنني خرجتُ للتو من سباق قريتنا الريفي،…