غريب ملا زلال
“إنّ حبّي للطبيعة، كان المشجّع الرئيسي لي للمتابعة، فقد كنّا نقطن في منطقة المهاجرين، وفي منطقة تُحيط بها الحواكير في بيت خشبي قديم، فيه كلّ ما تشتهي، وكنت أنهض صباحًا على ضوء الشمس لأستمتع بالطبيعة الجميلة حولنا” ، فإذا كانت الطبيعة منذ البدء هي المحرك الأهم لنصير شورى ( 1920 – 1992 دمشق ) و التي سيطرت على تجربته لفترة زمنية ليست قليلة و إن زاوجها بواقعيته المعهودة فيما بعد ، ليعود إلى الطبيعة في سنواته الأخيرة بعد أن خاض غماراً في تكثيف الطاقات اللونية مبرزاً عناصرها الأساسية ، مهتماً بحركتها و تفاصيلها ، فمن شأنه حينها أن تضاء مصابيحه كلها موظفاً إياها في المجالات المختلفة مع توجيهها نحو المزيد من الراحة النفسية و المتعة الإنسانية ، كيف لا تكون لمعطياته الإبداعية التفرد و على إنتباه ملحوظ في الزمن الصعب ، زمن النبضات المتسارعة و هي تمضي في إحتمالات مبهمة ، و هو المتأمل أبداً في الطبيعة و في روح فصولها العشرة ، ليشعر بالإنتماء لتفصيلات اللحظة التي تكشف جوهرية الإنسان و ما يمتلكه من حس يكبر معه ، و يتبلل بدموعه خوفاً من أفق قد لا يأتي ،
فشورى بدأ بإكتشاف نفسه من خلال الطبيعة ، النفس التي ستكشف له الطبيعة بدورها ، فهذا الإصرار نحو إثبات الذات هو الذي سيرسم له هويته الفنية ، و هو الذي سينزع له الإعترافات الكثيرة على أهميته و أهمية تجربته ، فهو المسافر في دواخله بقدر إنفتاحه على جهاتها العشرة مع قدرته العالية في كسر كل الحدود فيما بينها ، و هذا يقربه من دائرة لا يخشى من دخولها ، فهو الحامل لأسرارها و مفاتيحها، الدائرة / المعبد الذي فيه سيمارس طقوس سفره و العوم فيه مع الكبار ، الدائرة / المعبد الذي يتعبد فيه قافلة الكهنة من أصدقائه فاتح المدرس ، محمود حماد ، ميشيل كرشة ، محمود جلال ، رشاد قصيباتي ، عبدالوهاب أبو السعود ، ….إلخ ، و في مقابل ذلك فهو عنيد في صخبه ، لا يرهقه الغبار ، و لا تضاريس الروح ، مسكون بالبلاد و ناسها ، بالمكان و رائحته ، بالذاكرة و ألوانها ، يضيف لمساته على التراث البصري ، بل يواجهها بتداعيات تمردية قد تتطلب بقاء اللون الشرقي لكن بلغته هو ، بلغة نصير شورى المنتمي إلى عالم تمنحه الوصول بحداثته في إكتشاف الطبيعة حتى بات من روادها ، بحداثته اللونية في التجريد حتى بات الأكثر تفوقاً فيها من أبناء جيله ، و هو المالك للقدرة الفائقة في التعامل مع اللون الواحد و تدرجاته ، و لا يتطلب ذلك أية مقارنة ، فهو الهارب إلى المساحات البيضاء بجرأته المعهودة ، و بتطلعاته الغنية و الكبيرة بغنى تجربته و حجمها ، أقول ذلك من باب سفوحه العالية ، و أشجاره الباسقة و المثمرة ، من باب مهمته الحسية الإنسانية المكثفة بقيم لا تتآكل مهما عبث الزمن بها ، من باب قطعه لمسافات غير مبرمجة ساهم بها و بلغته اللونية و بطاقاتها الروحية الهائلة في تشكيل إنسانيته التي لم يحد عنها مهما كانت الأعاصير غادرة ، فمساحاته اللونية ليست مجرد بقع لونية / أقصده في تجربته التجريدية / ، بل يغزو بواباتها معلناً عن فتوحاته ، ممارساً فيها طقوسه الداخلية و إكتشافاته ، مظهراً إيماءاتها بتركيباتها الجديرة بالإهتمام من خلال تقديماته لأشكال غير محدودة ، بحركاته الخاصة و ما تحمله من دلالات ، و ما يلائمها من رموز ، و الخاضعة للحياة إلى حد الرسوخ ، يعرض السكون و الثبات ، الإنقباض و الإنبساط ، التوازي و التقابل ، الصعود و الهبوط ليبقى بعده الخاص بالزمن في حالة نمو و حضور .
في أواخر الثلاثينات من القرن الفائت حزم شورى حقائبه بإتجاه إيطاليا لدراسة الفن ، لكن سرعان ما عاد إلى سورية بسبب إندلاع الحرب العالمية الثانية ، لكن همته لدراسة الفن لم تقل ، و ذاته الباحثة عن زوادة طريقه لم تهدأ ، و لهذا إنعطف بإتجاه مصر ليشفي غليله هناك و بنهم ، ليمكث فيها خمس سنوات و هو يقترب من أعماق التشكيلات المهيمنة وقتذاك ، يتنقل بين صالاتها و متاحفها ، يلازم فنانيها ، يحاول إستكشاف كل ما لديهم بلمساته هو ، و برؤيته هو ، فيمسك بالأشياء و يحركها بحركيته هو ، يتناولها بفضول و تساؤل ، باحثاً عن محركاتها الأساسية بطريقته هو ، محاولاً الإرتقاء بها ، لا يكتفي بالإستمتاع بالأشياء العادية بل يهتم في غورها بفضول و دهشة ، لا يستجيب إلا لتلك المثيرات البصرية ، إلا ما كان مصحوباً بإنفعالات تحفزه للإمساك بصوته هو و الإنصات إليه إلى آخر غصن فيه و هو يتمايل متشوقاً لما يجري حوله ، ليتخرج من جامعاتها سنة 1947، من كلية الفنون الجميلة /قسم التصوير ، و يعود من جديد إلى دمشق ليبدأ بطرح موضاعات جديدة بمفاهيم جديدة ، ففي الوقت الذي كان مجايليه منشغلين بواقعية تسجيلية ، إنشغل هو بالطبيعة ، يبحث عن أسرارها ليعلنها على الملأ و على مساحاته البيضاء حتى حاز على الريادة فيها ، و في ضوء المتغيرات العديدة التي أنجزها في الحركة التشكيلية السورية إتجه أكثر من جيل لينهل من نهره المتدفق أبداً و العذب جداً دون أن يتباهى بذلك ، فأعماله هي التي تتحدث عن نفسها و هي التي تلفت الأنظار من حوله ، و هي المتدفقة في نهره الذي عام و يعوم فيه الكثيرون .
بحق يعتبر نصير شورى من أهم أعلام الفن التشكيلي في سورية ، و له دوره في وضع ركائزه و إنطلاقته و تطويره ، سعى لأكثر من نصف قرن و بقوة العاشق بعشقه إلى تصوير الطبيعة بأشكال متنوعة تخصه هو بعمليات تجعله يمنح الرؤية فعلها للإقتراب من ذاته و من ذات الأشياء أيضاً ، فيعبر عن تلك الذات بتصورات تجذب نظر المتلقي على نحو يقظ حتى تحوز على بعض أفكاره و إن بشيء من الإختصار ، فهذه العملية الإدراكية و اللاشعورية في الوقت نفسه ، و التي يشترك فيها المتلقي أيضاً ، و المتعلقة بتكوين اللحظة و تشكيلها ، و التي ترتبط إلى حد بعيد بما يراه شورى من صور بصرية في ضوء المشهد و مشاركته في الكشف عن الطريقة التي بها ستتفاعل الجوانب كلها مع بعضها ، و في الحالات كلها بما فيها حالة الإستغراق في المرآة للقبض على الذات و تعزيزها ، ليكون ذلك مدخلاً لإستثارة التجربة بعوالمها المختلفة و عواملها المتماسكة و إخضاعها لخبرته الخاصة مع التوحد مع الذات و إستحضارها بمتخيّلات تعكس فعلي الإنتاج و المشاهدة كمأوى لمعلومات تميل إلى إختيار ما يدفع إحساسنا نحو إستكشافات لا يمكن أن تغادرها المتعة الجمالية .