إدريس سالم
رائحة بيرة راكدة في مدخل البناية. ضغط الأُكْرَة بحذر نحو الأسفل، ما إن فتحها حتى سحب أحد ما الباب نحو الداخل. أنثى متوسّطة القامة، ورديّة البشرة، شعرها الغزير الطويل الأسود الضارب إلى الحمرة كان مجدولاً في ضفيرة سميكة واحدة، تلهث تعباً وذعراً «دورتي… دورتي»، تفاجئ (س) العائد من عمله كأستاذ لتعليم آلة «تار» لطلاب المعهد الموسيقي الكردي بمدينة اسطنبول، فخرجت عيناه من محجرهما «ما بك آشين؟!»، فأخذها إغماء هزيل إلى حضنه.
«تنمّرٌ خوّارٌ
يعرجُ بوجه بيضاويّ مدوّرٍ محمرٍّ من الاستفزاز
على طلقات ألمِها مرّةً
ومرّاتٍ ومرّاتٍ على انتفاضات صرخاتها المقيّحة.
له شاربٌ ألمانيٌّ على لحية مَلَكيةٍ كثّة
دنّسَ شالاً صوفيّاً ملفوفاً حولَ عنق مزركشٍ بخطوط خضراء.
تنمّرٌ كوّرَ بعضاً من الحقد والكرهِ
رمى به في أذن الحقيقةِ والحقيقيين
مقوّسُ الظهرِ والخيال
بصدره الأحمرِ المكدود
بخدّين متباعدين
مسطّحٌ، والآخرُ مجوّفٌ
وفمِه النتنِ اليقظِ المفتوحِ كمغارة «سرِيْسَاتْ»
تلعبُ فيه أسنانٌ متناثرةٌ
تسيلُ منها دماءُ البراءة».
بلمح البصر قال هذا الكلام في سرّه، بينَما آشين كانت ترتدي ثوباً عليه بقع حمراء، يُخال أنها من دم جسدها. حملها إلى الردهة، وما إن خطا خطوتين نحو باب الشقّة حتى رأى شخصاً ماسكاً بيده اليمنى بنطاله واليسرى قميصه الرصاصي؛ محاولاً الهروب بإشباعه المتوتّر والخروج مسرعاً، فاصطدم بهما، فوقعَا في الردهة، وأغمي هو الآخر، دون حركة.
كم مؤلم أن تترجّاك فتاة في مقتبل عمرها في أن تعِدَك بممارسة طويلة في ليلة ما شريطة ألا تقترب منها؛ لكونها داخلة في دورتها الشهرية، ولن تتحمّل سرطان الاغتصاب، ورؤية مظهر امتزاج المني بدماء دورتها! كم مؤلم أن الذي يمارس الاغتصاب يمارسه بأسلوب آخر، عندما يدّعي على مواقع التواصل الاجتماعي بمناصرة المرأة وحقوقها وكينونتها ودورتها! وكم الخسارة ستكون كبيرة حينما تخبّئ مشاعر الاحترام والاهتمام لشخص يكبرك بعقد، بينما هو كان يضع عيدان الاستغلال والتخلّف والغلّ فوقَ شهوته الشرسة المختلّة، شخص كان صديقاً حميمياً لعائلتك!
استفاق أخيراً، كان كفّه الأيمن على فخذها الأيسر، «ما هذه اللزوجة؟!»، تساءل س مرتاباً، سحب كفّه نحو فمه وأخذ يشمّه في عتمة الردهة «إنها رائحة إنسانية مغتصبة من شهوة معفّنة». نهض من مكانه والدهشة والحيرة تضربان رأسيهما بزوايا الجدار المكسورة وصفحة السقف المصابة بالرطوبة.
«لا لطمس بهاء الأنوثة من ذكورتنا العمياء»، نشر (م) هذا الكلام على الفيس بوك، في يوم المرأة العالمي، ليقوم بفعلته الشنيعة بعد يومين من ذاك التاريخ ضد جديلة آشين، ليغتصبها في منزلها مستهتراً بعلاقة الصداقة التي تربطه بعائلتها، وهي التي النقاء والثقة كانتا قد أوصلتاها إلى دهاءه المريض.
«الحقيقة يا س أنني لا أكره م، بل أعترف أنني حمقاء وغبية؛ لفرط ثقتي بمَن حولي، نعم! أعترف أنني غبيّة، فلم أسمع نصيحتك، ولم أعطِها أيّ اهتمام، كنت تقول لي دوماً: إيّاكِ وأن تجعلي أحداً سلطان ثقتك، فإنك ستحترقين في شيطانه الذي لا ينام. أنا الآن أرتعد من التفكير بحقيقة هذا الواقع، نعم أنا هنا، أقارب الستة وعشرين عاماً، لكنني أبلغ الآن الستة وتسعين بل مائة عام، احملني واحتويني؛ فأنا أخاف جهلي، وتعبي المزمن الذي لا يغادرني».
خرج س إلى الشرفة، التي تلفحها الريح بشدّة، وطلب من آشين أن تستحمّ وتغيّر ملابسها. نظر في العتمة، كان تائهاً بين رمزية منشور م الذي كان قد قرأه وعلّق عليه «الأنثى نقاء إن كنت نقياً، ودهاء إن كنت داهية»، وبكاء آشين الذي لا يهدأ ولا يتوقّف، وما يحاصره من أفكار غاضبة وأفعال يحاول الأخذ بها وتنفيذها. قال في نفسه «لو تكون للرجال والشباب فقط دورة سنوية، بحيث يخرج دم نتنٍ من قضيبهم لمَا أقدم م على اغتصابها، وهي قد دخلت يومها الثاني من دورتها الشهرية الصعبة والمعقّدة، حينما كانت في إجازة من وظيفتها كممرّضة في المستوصف، في يوم زيارة أهلها إلى بيت عمّها في مدينة إزمير».
«س أين أنت؟!». سؤال حرّره من عتمة تفكيره الصاخب وشروده الغاضب، «أنا هنا». رمى رأسه إلى الخلف وتناول يده إلى يدها المرتجفة. عضّ على شفتيه وسألها مخبّئاً غضبه في صبر أعلنه في حديثه «هل آخذك إلى المشفى؟ لقد نزفت كثيراً»، «لا…! فنزيف الجسد أرحم من نزيف الروح». كان البرد يتغلغل في خوفها. طالبته بالمبيت معها في هذه الليلة، فدفنت وجهها في منحى كتفه وقالت من هناك «أشعرني بأمان الرجال الحقيقيين»، فدفن هو الآخر لحيته في فروة رأسها، ليكون للتنهّدات سطوتها في العبث بهما.
فتحت صفحتها، ولا زالت في منحى كتفيه واقفة تتنهّد، بينما س يلامس سيكارة من لسانه ويقرّبها من أنفه، وهي تتصفّح زخم المنشورات الطويلة والقصيرة، تتأمّل الصور وتقرأ، فجأة ظهرت علامات غير مفهومة على وجهها، فاحمرّت سخطاً، إنها صورة لـ م، ممسكاً بقطّ حبشيّ يضمد قدمه، كان التاريخ يشير إلى أنه قد نشره بعد ثلاث ساعات من هروبه مع جريمته تلك، كتب أعلى الصورة «الرأفة بالحيوانات الأليفة، أيّها اللاجئون المتوحّشون!». كاد هذا المنشور أن يمزّق ما تبقى من جسدها وروحها، مثلما مزّقت سايكس – بيكو وسيفر ولوزان جسد كردستان إلى ألف تائه وخائن وبائع للوطنيات.
ألم يستحوذ على حضور السكينة، هذا الألم خادم عالي المرتبة، باختصار، يجعل الجسد والروح خَدَماً من ذوي المرتبة الدنيا، لا رادع له إلا الموت، والموت وحيداً، يجابه يقين البشر بوجوده وتشكيكهم بعدمه. الموت الذي ربّما لا فائدة تُرجى منه في حالات نفسية كارثية كهذه. الموت الذي ربّما سيُستباح على يده الكثير؛ فهو ذاكرة تمتلك اثنتي عشر حاسّة. الموت الملتاث بلعنة الألم المتسلّط والمتحكّم بتفاصيل عشّاق أبديين في فلسفتهم، المركونة في دهاليز ملذّاتهم السرّية.
وأنا الألف بهمزتها السفلية التي تسرد هذه الحكاية الواقعية، عشتها وتعايشت معها، أسأل نفسي «إلى أين ستوصلنا بعدُ هذه الحرب وهذه الشهوة؟ متى ستزهر صحراء عقلنا؟». أومأ (أ) برأسه لسؤاليه اللحوحين اللذين أرهقاه، دون الإجابة عليهما من أحد، وراح يراقب ما في داخله من مشاعر متعبة وعزيمة منفّرة. «قبل أيّ شيء، وأيّ سؤال يا آشين»، قال س، «لا بدّ أن تصغي بكلّ تركيز لما سأسأله»، «ماذا هناك؟»، وأحاط بذراعه مواسياً إيّاها وقال «هل نجعل من قصّتك هذه قضية رأي عام، أم نتستّر على ما مارسه عليك م من كارثة، لن تُمحَى آثارها ولو بعد قرن من الزمن؟».
أخذت آشين تنظر إليه بفم مزموم وعينين ترمشان بقلق وباستمرار، لتعترف له أن م وفي كلّ وضعية ممارسة كان يسكب على جسدها البضّ والعاري سبع قنانٍ من البيرة التي جلبها معه من ألمانيا، ثم يبدأ ككلب شرس مسعور وبنَهَم مليون مشرّد جائع عطِش بلحْس قطرات بيرة «كُلْش – Kِlsch» من على جسمها «لن أنسى وحشية هذه المشاهد التي يعجز ألف رسّام عالمي عن تخيّلها ورسمها، لن أنسى تلك الوضعيات الخمس ما حييت، آآآآآهٍ يا س!»، وضعت كفّيها منديلاً على وجهها الذي كان يُغتسل بالدموع، وبكت كطفلة أخذوا منها دميتها وهي تصرخ «احذروا الصداقات العائلية!».
13 كانون الأول، 2020م
مرسين – تركيا