أنتِ حقاً سيدة العالم …قصة من مدينتي

هيثم هورو 
 -1-
بدأت حفلة زفاف في إحدى القرى بمدينة عفرين ، حضرها جميع أهالي القرية ، وكان سردار من بين المدعوين ، حيث قرعت طبول الفرح ، وتعالت صدى المزامير بالأغاني التراثية والفلكلورية ، دارت حلقة الرقص ، كما أنضم سردار إليها بحماس وغبطة ، بعد عدة دورات من الرقص ، شعر أحد المشاركين بنشوة الفرح وبكبرياء عالي أخرج من طرف خاصرته مسدساً ، وبدأ يطلق الرصاص عالياً ، تعبيراً عن سروره ومشاركته القوية ، ومتباهياً أمام أهل قريته والقرى المجاورة ، لم يستجيب المسدس للنهاية لرغبة الضيف المشارك ، أستعصت طلقتان بالخروج ثم حاول تكراراٌ ، ولسوء حظه مرة أخرى خرجت رصاصة طائشة واردت سردار قتيلاً . 
 -2-
اصبحت أطفال سردار يتامى ، ثلاث صبيان وبنتان ، وقد كان أصغرهم الصبي بلند ، كان لم يتجاوز العاشرة ربيعاً ، ومرت سنوات تزوجن البنات ، وبعد ذلك تزوج الشقيقان ، أما بلند فبقي عازباً .
قام الشقيقان المتزوجان بتقسيم الميراث المؤلف من كروم الزيتون والعنب ، فأخذ الأخوان كروم الزيتون والعنب المدرة للإنتاج ، وأصبحت قطعة أرض التي تبلغ مساحتها هكتارين ، لكنها كانت مليئة بالصخور والأحجار ، لا تصلح للزراعة صار من حصة بلند ، تألم بلند كثيراً من هذا التقسيم الغير العادل ، وتذكر حالاً مثلاً كردياً :
Ģûkê gura be ne  Ģûkê bira be 
( كن أصغر الذئاب ولا تكن أصغر الأخوة )
بعد فترة وجيزة ، خرج بلند في يوم ربيعي إلى الجبل ، حاملاً سلته الصغيرة ، وبيده عصى طويلاً مدببة من طرف واحد كي يجمع pîvok  ( الحيلوان)
ذات الازهار الصفراء وهي نبات لها بصلة صغيرة تؤكل وحلو المذاق ، ملأ بلند سلته من هذه الزهرة الجذابة ، وبيد أن الكآبة لم تفارقه أثناء العودة إلى القرية من جراء تصرفات الجائرة لأخويه، 
لكن بينما كان يمر من وسط القرية قاصداً داره رأته الفتاة نازدار من مصطبة بيتها ، حاولت الفتاة الذهاب إلى دار بلند لترى ما يحمله بلند في سلته ، ولكن مرّ بلند من أمام دار نازدار ، فسلم عليها وأجابتها نازدار بالسؤال كيف حالك ؟ 
أجابها بلند الحمد لله ،  ردت عليه لكنني آراك كئيباً وعابساً ، لم يعترف بلند بدايةً عن سبب حزنه وكآبته ، لكن أصرت نازدار على معرفة الأسباب ، فأضطر هنا بلند أن يفصح الأسباب ، وصارحها عن التوزيع الغير العادل لممتلكات والده بين الأخوة وأنه الأصغر والمظلوم كثيراً ، ثم ردت عليه نازدار بقولها سيعوضك الله بالأحسن يا بلند وهي مبتسمة متفائلة حينها شعر بلند بالطمأنينة والراحة النفسية ، وهنا بادرته نازدار بالسؤال ما التي تحمله في سلتك؟ 
أجابها بلند أنها الحيلوان جمعت الكثير منها وها أنا اهديها لك على كلماتك اللطيفة ، والمملوءة بالحنان واللطف لكن سلتي سأحتاج إليها لاحقاً ، تناولت نازدار السلة ، وافرغتها في منزلها ، ثم أعادتها إلى بلند مسرورةً ، وغازلها بلند بكلمات تفوح منها عطر زهرة الحيلوان ، ثم تابع بلند مسيرته إلى منزله وهو متفائلاً ، بأيام لاحقة مفعمة بالحب والحنان وتضيئها الشمس بخيوطها البنفسجية .
 -3-
هاجر بلند إلى مدينة حلب ، وأصبح حارساً لدائرة رسمية ، ثم أستأجر منزلاً تمهيداُ ليوم الزفاف ، اقتصد مبلغاً من المال ، واتصل مع نازدار التي وقفت إلى جانبه معنوياً مطالباً يدها ، وافقت نازدار حالاً وتزوجا وعاشا في مدينة حلب. 
لقد كانت نازدار تتمتع بشخصية قوية تملك ذكاءً حادً أستطاعت أن تبدع في خياطة الفساتين والصداري المدرسية ، بماكينة الخياطة التي ورثتها من جدتها وبأسعار زهيدة ، وفي خلال فترة قصيرة أستطاعت أن تنال شهرة واسعة في حيها ، ومن إبان مهاراتها واتعابها ساندت زوجها المحبوب .
 -4-
بعد مرور خمس وعشرون سنة ، توسعت قرية بلند بشكل ملحوظ باتجاه أطراف أرضه ، فكانت لتلك القرية طريق واحد سالك بصعوبة ، ولا سيما للمشاة والمراكب عندما تتساقط الثلوج ، والأمطار الغزيرة .
لذا قررت البلدية بتحويل مسار طريق القرية إلى مكان آخر  ، وهنا شملت خطة البلدية الأرض الموروثة لبلند ، سمع بلند هذا الخبر وقطعة أرضه ستنقسم إلى شطرين ، وهنا أكلته مآساة جديدة وفقد صوابه .
لم يتمالك بلند غضبه الشديد امام زوجته نازدار ، وأخبرها حالاً عن مشروع البلدية والخسارة الجسيمة التي ستلحق أرضه المصخرة ، ردت عليه نازدار قائلةً:
هل تتذكر يا زوجي العزيز قلت لك قبل خمس وعشرون سنة ، إن الله سيعوضك ولا تيأس ها قد أفرج الله علينا وأرسل لنا رزقاً وفيراً ، لم يفهم بلند كلام نازدار بدايةً ، فسألها كيف ذلك وهل تحلمين يا عزيزتي ! ردت نازدار عليه بسهولة وبطريقة ذكية موضوعية ، بعيداً عن الأحلام اليقظة ، والأوهام المبدعة ، ان كثافة السكان في القرية تزداد باستمرار وسيحصل تمدد سكاني في القرية وتصبح أرضنا محاضر للسكن ، ولا سيما هي صخرية صالحة للبناء ،
وسنبيع أرضنا بأسعار باهظة وذلك وفق الوضع الحالي سمع بلند هذا الكلام من زوجته بغبطة فائقة فأصبح قلبه كعصفور يرفرف في صدره ، ويثني زوجته على أفكارها الصائبة .
 -5-
فكر الأخوان الكبار اللذان لا يزالان يعيشان في القرية بوضع فخ جديد لأخيهما الأصغر وسافرا إلى مدينة حلب ليصطادا تلك القطعة الصخرية ، بثمن زهيد ظناً منهما بأن بلند لا يزال صغير العقل وضعيف الشخصية ، ولكنهما أصابا بخيبة الأمل عندما واجههما بلند بعبارات قاسية ، ووجه لهما عتابات شديدة وذكرهما بالسنوات الفائتة عندما كان يحتاج إلى صفيحة من الزيت والزيتون ، ولم يرى شيئاً منهما لأطفاله ثم تابع الحديث وقال لهما : حسناً انتظروني فترة قصيرة ومن خلالها سأفرز أرضي إلى عدة محاضر ، ومن ثم ابيعكم ما ترغبون وحسب الأسعار في السوق الحالي ، أجتاحت خيبة الأمل في عروق جسدهما ، تلعثم لسانهما أمام بلند ، وعادا إلى القرية فارغ اليدين مقهوران .
بدأت بلدية القرية بتنفيذ مشروعها في القرية ، وأصبحت القرية تتجه نحو الحضارة والمدنية ، بدأ الأهالي يعمرون أبنية جديدة ، وتتوسع القرية وأستغل بلند تلك الفرصة الذهبية ، وباع مساحة ضئيلة من أرضه بثمن باهظ ، وأستطاع مباشرةً شراء بناء من طابقين في مدينة حلب ، وبعضاً من كروم الزيتون والعنب في قريته ، حينها قالت : له زوجته هل اعتقدت الآن بأن المرأة أيضاً تستطيع أن تقرأ المستقبل وتكون دائماً عوناً للرجل في الحياة يا زوجي الغالي ؟
قبّلَ بلند وجنتي زوجته وقال لها :
أنت حقاً سيدة العالم !!! 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…