بیوار إبراهیم
مثل كل صباح تائه في وطنٍ يقاوم الخراب، أيقظتني حمائم برية من غفورات ثملة في أحضان الحلم. بدت لي كأنها تحمل بين أمواج هذيلها آلام المسيح، بل آلام الأنبياء كلهم. سألتها ما أن كانت آلام الأوطان وشعوبها المسكينة تشبه آلام الأنبياء؟ لم تنتبه جيداً. كانت منشغلة بفتات الخبز وحبات القمح الذي أنثره عادة على شرفة نافذتي لأغريها بالعودة إذا ما رحلت. كنت ألتقط صوراً لتلك الحمامات من روئ أو حلم أو ما يشابه. صور ترن في مخيلتي كما أجراس أعيادُ ميلادٍ تئن تحت وطأة الآلام وهي تجر عربات الخيبة، عربة تلو الأخرى تبشر بدخول عامٍ جديد.
صور كثيرة أصبحت باهتة في ذهني، لكن لا أدري لماذا صور الفرسان والأبطال وحكاياتهم لا تتركني أعود لواقعي. ذاكرتي التي بدأت تتشبث بالمدى كي لا تنسى ما رحل منها، أصبحت تحرض أفكاري على النطق بما لا ينطق به. منذ فترة وأنا أتجنب شيء يلح علي, لكن إلحاحه هذا الصباح بدى أكثر من المعتاد. هذا الصباح المُثقل بوطأة الخيبات. آثر المناضل مجيد حاجو الخروج مسرعاً هذه المرة، على متن حصانه الأصهب ليجوب براري أفكاري. كنت قد وعدته بأن أزوره بين الحين والآخر، كي أحدثه عن تفاصيل هذا الوطن. الوطن الذي بات مجرد حلبة مصارعة لأمم العالم أجمع. ونحن، أصحاب الأرض، بتنا مجرد عبيد نخدم اللاعبين والمتفرجين. لم استطع رفض طلبه بالحديث قليلاً. كان يعاتبني لأني لم أزره منذ مدة كي نتبادل أطراف الحديث قليلاً كما اعتدنا.
– ها قد عدت إليك كما وعدتكَ أملاً بشحذ بعض الأمل. أملنا الذي لم يعد حاداً كما كان، أصبح من ورق، كما الكثير من أبطالنا اليوم. عدت إليك لتحدثني وأحدثك عن الكثير.. الكثير من مروجنا الباكية، حقولنا اليتيمة، عن قصصنا وحكاياتنا المنسية. عدت إليك في كانون من جديد، ذلك الكانون البعيد الذي عرفني بك. عشرون كانوناً ولم أرتوي بعد من صمت عينيك وابتسامة حزنك، همس قلمك وأنت تناضل جاهداً في نشر مجلة لأوي. صوت الحروف بين أصابعك وأمن الأمان بآلتك الكاتبة التي تحولت إلى شبحٍ تخفيه تحت سترتك، تهربها من مكان إلى آخر بحثاَ عن القليل من الأمان و الأمل.
– أعتقد أن عودتك أتت متأخرة بعض الشيء- قالها لي ببعض الأسى- قرابة العشرين عاماً وأنا بعيد عنكم، أكاد انسى مجريات الحياة التي عشتها معكم هناك. ما أتذكره لا يتعدى قصصاً وحكاياتً منسية. أصوت أزرار آلتي الكاتبة التي كنت أنقر عليها بأصابع مجروحة ترن أحياناً في ذاكرتي. لم أعد أقدر على التذكر يا ابنتي، فذاكرتي قد امتلأت على ما أعتقد من فرط ما دونت عليها من الأوجاع.
– حدثني يا عمي عن ذاك الزمن. حيث كان الحُر حراً والعبد يناضل ويقاوم ليصبح حراً بدوره. حيث كان للحرية معنىً و للمقاومة مضحين وللوطن عشّاقٌ حتى الجنون. كنت من أولئك العاشقين بالتأكيد. حاولتَ دائماً الحفاظ على نور القبس الذي أضاءه جدك حاجو آغا في سبيل بناء دولة كردية. حدثني عن زمن الرجال الذين كانوا رجالاً بالفعل. حيث الأقوال لا تتناقض مع الأفعال. حقيقية بمجملها، لا زيف فيها و لا تزوير.
– لكن الصمت يا ابنتي لازمني أكثر الأوقات. اعتقدت دوماً إن الكلمة القوية المدونة هي صمتٌ أقوى بكثير من حديث ظننته فارغاً. لقد نسيت الكثير من الكلام المدون، حتى تلك التي دونتها تحت أسماء أُخرى أكاد أنساها. بعد عشرين كانوناً بتنا بحاجة إلى كشف الصمت الذي بدأ يصرخ في وجه الماضي والحاضر. لا أعتقد إن المستقبل ببعيد منه أيضاَ. – يسألني وهو ينظر صوب اللامكان- لكن قبل كل ذلك، لماذا لم تخبريني برحيل شقيقي زناور؟ ألم يكن صديقاً وأخاً؟ هل كنت ِعلى خلاف معه؟! أعرف إن بقائه مؤخراً بعيداً في منفاه الصامت ومجالسة الكتب أغلب الوقت كان خياره الوحيد بعد الحرب. حدثيني عنه، كم اشتقت الى خفة روحه وسلاسة حديثه.
– لست على خلاف مع أحد! بل على العكس، أحترم كل فرد من عائلتكم يخطو على درب جدكم حاجو آغا في العمل والنضال. ذكرني رحيل العم زناور ببداية معرفتي بك وبالكثيرين ممن يشبهونك من عائلتكم في سلك تلك الدروب. أنا ممتنة للقدر الذي جمعني بكم خاصة جيلك مثل زناور وفرهاد وحزني. لا أذكر أنهم ملوا أو تذمروا من الحديث عنك, كانوا يغادرون المكان أحياناً ويستمر الحديث عنك, كأني كنت اراهم يتحدثون إليك وليس عنك. أما عن عدم إخباري لك عن رحيل شقيقك زناور، هو شعوري أني بتُّ جزءً من كل رحيل. كان رحيله مؤلماً. لم يكن الألم في الرحيل بذاته، بل في قسوة الغربة و المنفى. أغلب أبناء الوطن أمسوا شبه منفيين تقريباً. لا أعرف إسماَ لهذا المنفى، هو ليس اجباري ولا اختياري، أراه اسم آخر للموت فقط. موت بطيء يميت صاحبه كل يوم قبل موته. حقيقة لا أعرف من أين أبدأ! لكثرة قسوة الواقع وضغطه الذي يطحن عظامنا كل يوم، بتنا بأمس الحاجة لعراف يفسر الواقع أكثر بكثير ممن يفسر الأحلام والمستقبل هذه الأيام. قليلون من تعلموا من زمنكم أنه إذا ما استسلمنا للفشل، سنكون الفشل بذاته كل يوم، بل في كل ساعة وكل حين . لكن يا للخيبة! يا لأرواحنا المغلوبة على أنفسها كما قالها سليم بركات ذات مرة.
خلفائكم في الدرب ما كانوا سوى أبطال من ورق، كُتِبوا على ورق. أَقسَم الكثيرون في وقت ليس ببعيد، بأنهم إذا لم يفوا بوعودهم للوطن وأبناءه، ستكون أربطة أعناقهم مشانقاً لهم. آخرون وعدوا بأن ينتحروا دون ندم، وأخرون ادَعوا أن يتنحوا عن كراسيهم التي تئن من عبء تراكم جهلهم عبر السنين. لا ريب إن فواتيرهم لم تحتمل التأجيل، والوعود، كل الوعود، ما كانت إلا جسور متحركة لعبور المصالح، ورقة مقايضة أو فاتورة مسبقة الدفع ليس إلا. و كأن التاريخ يعيد نفسه مثلها مثل ما حدث مع محمد الماغوط عندما كان يمشي في شوارع حلب ذات يوم, حيث سمع بائع الجرائد ينادي: الوطن بخمس ليرات و الثورة بخمس ليرات و العروبة بليرتين.. حينها كان يظن أن البائع يقصد ثمن الجرائد.
الرجولة تقتضي كما يقولون إن وعد الحر/الحرة دين، هل هم أحرار حقاً؟ حتى دجاجات أمهاتنا لا شك لها في الأمر. لم نعد نعرف من يتاجر لأجلنا ومن يتاجر بنا. ما يؤرقني أكثر أن الكثير من خيرة أبناء الوطن من الجيل الجديد، المتعلم أكاديمياً، تحولوا إلى فراشات غبية وتائهة وتافهة، تحترق مع كل اقتراب لها من ضوء أو لمعان لجيوش من الأوهام والأشباح التي ملأت مدننا وقرانا. جيوش ثملة بفلسفة تدعي المدنية والديمقراطية وحقوق الانسان، وأساطير مزيفة ووعود سخيفة بأن نكون مجتمعاً متمدناً يليق بالمستقبل.
– تمهلي قليلاً يا ابنتي! لا تكوني بهذه السوداوية الكئيبة. كآبة قبري الذي لا يُزار تكفي. لا تقتلي الأمل. لكل زمان رجاله ونساءه. تعلمين, لكل روحٍ حلمٌ، حتى لو كان حلماً سخيفاً. كثيرون خانوا أحلام طفولاتهم، رموا بكل شيء عرض الحائط. غيرهم لم يترددوا في صناعة بطولاتهم على أشلاء وأنقاض من ضحوا. لكن! ما يزال هناك الآلاف المتمسكين بالكفاح والنضال. قد تكون أصواتهم لا صوت لها الآن. ربما خنقت أو ضاعت على الطريق. ربما آثروا المضي بصمت وسط كل هذا الركام الذي نتحدث عنه، لكن ما زالوا يواجهون.. يدافعون.. يضحون.. يستشهدون.. يستمرون بشجاعة. كان لنا أخطائنا أيضاً. لم نكن بتلك المثالية التي في مخيلتك. حاولنا بكل تصميم وإصرار تغيير مسار الحظوظ السيئة التي كانت تلاحقنا منذ أمد بعيد، لكن الريح كانت وما زالت تهب في غير أوانها. تأخذ معها كل شئ، لا تترك لنا سوى غبار يعبث بنا ويعطي الحمقى والفاسدين آلات القتل والتدمير. لنحاول معأ تخفيف الجروح على الأقل من على حافات حياتنا هذه وأرصفتها المتهدمة. لنتحدث قليلاً عن بعض الصور الجميلة المتبقية في مخيلتينا. لم يعد يهم أن يسمعنا أحد. سأعود الأن كي استريح قليلاُ، سئمت الحرب والدمار وأحاديثها. لن أقول وداعاً الآن، عودي كي نتحدث مرة أخرى. لنجلس معاً قرابة نهر جَرَحْ مع أنه بات جافاً الآن، لنزرع القمح معاً، لنزرع الأمل معاً، ونرغم المصلين على الصلاة لكل شمال هو قبلتنا ونوقف دبكات الدم عن النزيف.
– حسناً يا عمي، أعتذر عن كآبتي الزائدة عن حدها. سئمت حكايات الحرب والدمار أنا أيضاً، سئمت الأمس، سئمت الخوف من الغد. أعدك بأني سأعود، لنكمل حديثنا معاً، مع كل شمال لنا وكل جبل وكل نهرٍ. سأزرع ما تبقى من شجيرات الحب في جعبتي قبالة نوافذ الغد، سنملأ ذلك النهر وكل نهر بالأمل، بسرد القصص والحكايات النائمة في أرواحنا التي أنهكتها السنين. سنغير معاً خرائط حدودنا المتهشمة الألوان. سأترك دفاتر التدوين لحديثنا مفتوحاً، سنبوح عن المكنونات الصامتة في صدرنا وصدر الوطن. سنكتب معاً قانوناً جديداً للتدوين والحديث عن الحروب الصامتة وحروب العهر والمافيات والدولارات. سنخرج الكثير من جثث الحقائق المتعفنة من تحت أنقاض الوطن المغتال برصاص الجشع وحب الذات. سوف نجلس قبالة باكوك و نتحدث عن كل روح وحلم اغتيل بين صخوره.
17- 01-2021