حلم امرأة متمردة .. قراءة في سردية «بعد آخر» لهيفي قجو

مازن عرفة

بين دهشة أولى وتنهيدة أخيرة، ينتظم كل نص من نصوص المبدعة الكردية هيفي قجو، في مجموعتها “بُعدٌ آخر”، الصادرة بطبعتها الأولى في عام 2020، عن “فضاءات للنشر” ـ عمان. تتوزع النصوص بين ومضات ألق قصيرة وارتماءات فضاء شاسعة، مشبعة بتفاصيل الحياة اليومية الصغيرة، لكنها تتألق بشاعرية الندى، في ارتعاشات القلب. نصوص يغزلها توق غامض في الروح، بحثاً عن زمن مفتقد، يسعى لاستعادة أمكنة الإلفة، لنا؛ نحن الذين نحيا الحنين إلى حكايتنا، إلى البلاد التي غادرناها مكرهين، ولم تغادرنا شغفاً، مقابل منفى دون حكايات طفولة وعشق على الدروب، وصلناه، دون أن نختاره.
 نتمزق بين دفء حكايات الروح، التي غابت، هناك، وبين لاحكاية الصقيع، الذي يغمرنا، هنا… هنا أمان المنفى و”المنزل الأسمنتي”، وفرح الثلج. لكنه أمان “بارد”، لا دفء روحي فيه، ولا دفء إنساني، نحن هنا مجرد “أرقام” لاجئين. هنا تكتسب المرأة “حريتها”، لكن ما هذه “الحرية”، والرجال يتخلون عن نسائهم، والنساء عن رجالهم؛ أولئك الذين عاشوا معاً مرارة القهر في البلاد، التي غادروها، مقابل وهم “الحرية”، المتناسبة مع برد البلاد و”العواطف”. هي صدمة الحياة الجديدة، حيث لا طفولة لنا هنا، لا ذكريات، لا عشق للحياة، وأطفالنا يصبحون غرباء عنا. أما هناك، في البلاد التي لم تغادرنا، كان لدينا منازل الطين، منازل الفقر والشقاء، وقساوة الشتاء، وكان الثلج والدلف نقمة. لكن البيوت الطينية ـ وإن كان يجلل ساكنيها “تفكير من طين” ـ، كانت دافئة، تحيطنا بالحنان. تلك البلاد أمست “حلماً”، لا ظلال له، و”ذكرى مرة كالعلقم”… نحن نتمزق، ونفكر أين الواقع ـ الحقيقة الآن! لا “هنا” ولا “هناك”، إنما في حكايتنا، في زمننا الخاص. هي حكاية حنين، لا أكثر. أحبائنا الذين نتذكرهم بالحنين، يعيشون بين تخوم الحكاية وواقع الحياة… لكنهم لم يعودوا من واقعنا.  
 ما الفرق هنا بين جبال كردية، مجللة بإكليل القهر، أو سهول عربية، مأسورة بالدم، مادمنا ننتمي إلى هذا “الشرق” اللعين، الذي يلاحقنا، بتقسيماته الآثنية، والطائفية، والعشائرية، بذكوريته “البطريركية”، حتى في منفانا، وفي أحلامنا… هل نحن هنا، أم نحن هناك! لذا لا تكتب هيفي حكايتها فقط، بل حكاياتنا أيضاً، نحن الممزقين بين “هنا” و”هناك”، في انفصام روحي، لا يستقر إلا في زمن الحكاية، التي نكتبها، علها تنقذنا من انتحار الكلمات.
تكتسب النصوص قيمتها من غزْلها بروح امرأة، “أنثى”، من الشرق؛ “الأنثى المقدسة”، الغارقة بحنينها في عصور “الأمومة الأولى”، المتجذرة في تاريخ بدئي، باذخة بمشاعرها، سامقة بكبريائها. إلهة تتحدى استبدادية “العقل البطريركي ـ الأبوي”، الذي يتبدى في ديكتاتور عسكري، بنسخه من الممسوخين الساديين، الذين انتعلوا البوط العسكري في رؤوسهم، بدءاً من مخبريه إلى جلاديّ سجونه. ويتبدى بنسخه المشوهة، ممن انتعل لحية رجل دين “داعشي. وكل لحية هي مشروع داعشي، لا فرق، مادام يتبع “الإله التوحيدي” الدموي، القابض بأسنانه على سيف ينزف دمائنا، ونحن ضحايا قرابينه. ويتبدى في العائلة الشرقية (“الأب”، و”الأخ”، وابن العم”)، تتوارث الاستبداد والثأر في جيناتها، وتقدس في ضعفها بكارة المرأة، فتخترقها كبدوي مرزول، مهزوم بكبرياء “الأنثى الإلهة”، فلا يجد نفسه إلا في اغتصاب “السبايا” (“الأم”، و”الأخت” و”الابنة”)، المرأة التي ينبغي أن تنجب صبياناً، لا بناتاً، المرأة التي ينبغي أن تلبي رغبات الرجل، دون الاهتمام برغباتها… هؤلاء هم شخصيات نصوص هيفي، تكتب عنهم، متحدية بكبريائها، يلاحقونها ـ أم تلاحقهم بحكاياتهاـ أبداً، حتى في بلاد المنفى، وقد تتزينوا بقشور حضارة عقلانية، لا يفقهون منها إلا رائحة الجسد، المدنس بالشهوات الداعرة، ويتعاملون معه بـ”استرقاق شرقي” مستمر، بغض النظر عن الزمان والمكان.
 هل هؤلاء الرجال المشوهون هم فقط أشخاص حكايات هيفي! لا، هناك ومضات، لأولئك من حولتهم “الشعارات الحزبية” العبثية، بتنظيماتها المقاتلة إلى “مشاريع شهادة”، في حسابات سياسية، خارج الزمن والمنطق… يعودون في التوابيت “شهداء”، تريد أن تحزن لهم، لكنهم يتركوا نساءهم وأطفالهم لغدر الزمان، دون أن تتحقق أحلامهم بـ”الحرية الموعودة”، من قبل تنظيمات وأحزاب تستغل عنفوانهم واندفاعهم. حتى أولئك الرجال ، الذين “يفرون” من “التجنيد الإلزامي” لدى سلطة النظام الديكتاتوري”، ترغب أن تتعاطف معهم، لكنهم ينجون بحياتهم، ويتركون نسائهم فرائس لجلادي “النظام”، والرجل ـ الضحية، يغدوا جلاداً على من يقدر عليه.
ضمن هذه المناخات السوداوية تتحرك نصوص هيفي، مع أن بعضها يبدأ بلحظات أمل، حلوة، شاعرية، لكنها غالباً ما تنتهي بالخيبة… تبدو مثل حلم يقظة، نمارسه بمواجهة سلبية للحياة، لكن عندما نستيقظ منه يواجهنا الواقع. مثل تلك الومضة، التي تتحدث عن فتاة،  تتأمل كنوز جسدها مع ثوب جديد حصلت عليه، هو حق جسدها ـ روحها في أن تتنفس. لكن حلم اليقظة هذا ما يلبث أن يقطعه أزيز الرصاص، ويمضي بها إلى مجهول الحرب الوحشية. ولن يختلف الرجل “الشرقي” معها في عقليته، سواء في “شرقه” أو في “منفاه الغربي”، فالخيبة ستلاحقها أبداً. لكن تراكم أحلام اليقظة سيدفع بالنهاية إلى الانفجار… وكسر الزمن المغلق. هل هذا ما توحي به النصوص؟
ربما النص الأقسى في المجموعة كلها، الذي يلخص الرؤى المذكورة أعلاه، هو الذي يتحدث عن عائشة، التي تمضي إلى الطبيب من أجل طفلها المريض، وينبغي عليها المرور على حاجز عسكري للنظام، بينما يقبع زوجها الهارب من التجنيد متخفياً في المنزل. يعتقلها الحاجز ـ وسنكتشف لاحقاً في نهاية الحكاية أن اعتقالها حدث بسبب تشابه أسماء ـ. لذلك، فعائشة ليست امرأة محددة، بل هي كل نساء “شرقنا” الموبوء بإهانة المرأة، الجسد ـ الروح. وفي السجن تتعرض لاغتصاب يومي من جلادها، في أقسى إذلال لها. ثم يتم الإفراج عنها ببساطة، لأن اعتقالها تم بالخطأ. لو توقفت الحكاية هنا، لكانت بسيطة. لكن الذروة تحصل بتطليق زوجها لها، قبل وصولها إلى البيت… رجل السلطة في المعتقل هو جلاد، لكن “الرجل ـ الضحية” في شرقنا يخفي في داخله، جلاداً آخر، يتفجر في لحظات قاسية تتطلب أن يأخذ موقفاً من ضحية الديكتاتور، وبخاصة عندما تكون زوجته.
تغوص هيفي في شاعرية عميقة حلوة، تمنح النص بعداً جمالياً ـ إنسانياً، وهو ما يميز عملها. لكن ما أحياناً أن تسقط في لحظات مهمة في مباشرة غير مبررة، عندما تجعل شخصياتها تتحدث عن أفكارها، كمؤلفة، بطريقة أقرب إلى مقال … ربما سياسي أو فكري. وذلك بدل أن تترك الحدث  بحد ذاته يحرض القارئ على حرية تداعي الأفكار. من حسن الحظ أن هذه السقطات معدودة، لا تعبر عن طريقة تفكيرها، ككاتبة، وإنما عن خلل صغير في العناية بنص يحتاج إلى المراجعة والعناية أكثر.
 والملاحظة الثانية هي أن هيفي لا تكتب شعراً، وهو ما يعتمد على التكثيف والإيجاز والعمق والإيحاء ـ وإن نجحت بذلك في سيطرة حلوة على كلماتها وجملها، المتدفقة بالمشاعر الإنسانية ـ. لكنها في النهاية تكتب نصاً قصصياً، وكثير من الومضات يمكن أن تتطور إلى حدث أكثر فاعلية. وبعض القصص تحمل مهارة تطوير الحدث، من الدهشة الأولى إلى استمرارية الإبهار، كما في حكاية عائشة.  لذلك، أنظر إلى مجموع نصوصها معاً، في هذه المجموعة، بصورة متكاملة، أشبه بنص واحد، أكثر مما هي نصوص متفرقة. ولا يلغي هذا ذائقة الشاعرية فيها.
أما الملاحظة الأخيرة ترتكز على صورة الرجل في المجموعة، فليس الجميع في الواقع هم ضحية وجلادون في الوقت نفسه، فهناك رجال كسروا حاجز “الشرقية”، وتحرروا من ذاتيتهم المغرقة في العنف. وبالمقابل هناك نساء، يستمرؤون كونهم ضحية مازوشية. كما ينبغي في الرؤية العامة النظر إلى محنة مغادرة بلاد الطفولة والحنين إلى المنفى البارد في إطار الصدمات الروحية والنفسية والاجتماعية, التي تصيب الإنسان المُهجر. لذلك، فإن حلم الحكاية له ما يقابله في الواقع الإنساني، بعيداً عن حلم اليقظة، الذي ينتهي بخيبة الأمل في المواجهة معه… المرأة لا تكون امرأة حقيقية إلى بعينيّ رجل عاشق، وبالمقابل فإن الرجل لا يكون رجلاً حقيقياً، إلا بعينيّ امرأة عاشقة… فهل هذا هو ما تبقى في روحنا من “سحر الشرق”!
  1 / 2 / 2021
 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…