كيفهات أسعد*
في ذروة انهماكه بالأماكن والشخصيات وترحاله، لايغفل الشاعر محمد عفيف الحسيني عن البذخ في الصور الشعرية والسردية التعبيرية. حين يزاوج بين كلمات مناطقية باللغة الكردية في تدوير نصوصه كعلاقة “كري شرمولا مع جده الأول بافي كال، إلى أزمة غوتنبورغ”، بلغة حرفية وباذخة في تكوين جملة شعرية سردية يجذب القاريء بالعربية إلى فضاءات اللغة المهذبة في مناطق كردستان من خلال سفرياته وأسفاره، ليسرق من الجغرافيا جمالها ويؤطرها في أساطير وملاحم، ويخطف من ملاحمها أجمل بناتها بثوب الحضارة في سرده وكناياته المشغولة عليها بعناية لذيذة.
لازال محمد عفيف الحسيني المقيم في تفاصيل كتابه السردي “بهارات هندو ـ أوربية” عائشاً من الألف الثالث قبل الميلاد حتى يومنا هذا، مروراً برائحة المورسكيات وهن ينزحن الى كازابلانكا في شمال غرب القارة الأفريقية، أبان سقوط حكمهم في جنوب غرب القارة الأوربية الفتية. يمرغ بشخصياته صفحات كتابه، حين يكتب عن شخصية، ثم يكررها، ثم يعيد تكرارها حتى يُنهك القاريء في حفظها أو كرهها. إنه محمد عفيف الحسيني الكردي الذي يكتب بلغة لاتشبه لغته التي شربها مع حليب أمه، في معانيها ورسم حروفها ومخارج كلماتها، ولا أعتقد أن هناك شيئاً يجمع بين لغته الكردية ولغته العربية غير محتويات كتابه من المعاني المكّسرة بالكردية أو العربية، وبهذه التعاليم الباذخة يصف مدينته عامودا؛ المدينة القديمة التي لم تكبر كما كل المدن المجاورة، وكما سليم بركات الممتليء بالغربة والممتليء بالتصاوير. كما نراه في كل مواضيع سروده ينقل القارئ مثلاً من آمد “ديار بكر” إلى السويد، مروراً بكل محطاته، وأخيراً يوجّه الحسيني القارىء إلى حيث هو يريد توجيهه، وهو سعيد قبل أن يخرج من تحت خيمة كتابه، وبصوته الحالم المجبول في صفاته على شغف المكان، وشغف الجغرافيا في تفاصيل تفاصيلها، حيث يجسد كل تفصيلة من جغرافيته بشغف، في لغته الدخيلة الشبيهة بصوت الماء حين يلامس الوجدان، ويجري عذباً رقراقاً في صفحاته، ومن هنا نلاحظ أن الحسيني يمتلك نَفَساً طويلاً في سرد ذاك الماء، ليصل بالقاريء إلى حالة من الهذيان، بعد أن جعل نفسه سندباداً يسافر في كتابه، إلى جغرافيا الحسيني المجبولة من النساء والأطفال، من العقلاء والمجانين، من العامة والنخبة، من الصادقين والمنافقين، من الطيبين والساذجين الناقمين، من التراب والطين، ومن كل تفصيلة صغيرة من الحياة. ويحفل كتابه بالرموز والايحاءات المفعم بالوطن والغربة، أعطى للكتاب أبعاداً لايحمل سرداً، لايحمل معنى الرواية، ولا يحمل معنى الشعر، إنه صنف أدبي آخر، يجمعهم ويرادفهم كما التلاميذ في الباحة سوياً في بهاراته، لكن، بالمقابل يتعب القاريء وهو يقرأ كتابه الكبير الذي تجاوز كل ما نشر للمؤلف من دواوين وروايات، وبعدد صفحاته الذي تجاوز الخمسمئة صفحة من القطع الكبير، والصادر حديثاً عن دار “هنّ” في بلاد الفراعنه والنيل، بغلاف قمة في الروعة مزين بلوحة للفنان آزاد نانكلي على الغلاف الأولي، وبورتريت للفنان العالمي عمر حمدي “مالفا” في الغلاف الثاني من
الكتاب. من أجواء الكتاب:
مم وزين
(المزقة البيضاء بزهور صغيرة حمراء)
1
الحرارة التي كانت تفور من الشهر الخامس، حرارة الصيف العجوز، في جزيرة بوتان، جزيرة أشهر قبرين عاشقين في تاريخ الشجن الكردي: مم و زين؛ اثنان دونهما الكبير، العاشق أحمدي خاني.
2
جزيرة ضريح أشهر شاعر متصوف كردي، كبير، أكبر من الجزيرة ومن مياه نهرها، ومن حرارة ذلك اليوم، وأكبر من جدي، ومن أوركيش، وعامودا ونفرتيتي. لكن، لم أزر ضريحه مع ذلك، في حرارة الشهر الخامس، الحرارة التي جعلت مياه النهر مثل مستنقع شاعري يغطس فيه الشجن، ويسبح فيه الظاهر والباطن من قصائد الملا أحمد الجزيري.
3
مم وزين، الساهيان المنسيان على برزخ الخيال الكردي، بأخلاط من التاريخ واللون العماء. دونهما أحمدي خاني طويلاً، ثم نحن ـ سلالة التخمين ـ نسينا أشهر عاشقين في الممكنات الضوء، الممكنات الموت، دون لقاء أبدي، يجمعهما: أنثى “زين” سليلة أمراء مكدودين، وذكر “مم” سليل حامل رايات خاسرة. أخفقا في السديم الطري الهش مثل ريحان أمي في النافذة قبل خمسة قرون. نفس الشجيرة الصغيرة الخضراء بمقاس شبر واحد ونصف، تعبرها، فتعبرك رائحة الدهاقنة الضائعين، تعبرك رائحة مم وزين الكئيبة.
ـ ألهما رائحة كئيبة؟.
في الصيف الغبي، أشار السائق:
ـ هاهما مم وزين، يرقدان دون علوم. مشيراً إلى مكان شبه مهجور. فتنعطف بنا السيارة إلى جامع عفدال.
4
مسجد مبارك، مسجد تتنازعه ظلال أشجار مشمولة بيقين التوت والتين المغبرّ، لكنه يتلألأ في جوانحه بالحلاوة. طوق من كتابة الندم الطوراني في جزيرة الكردي: جامع عفدال. حجر محفور في القوس المبارك للدخول من الشارع العريض الإسفلت، إلى الجامع.
5
ثلاثة من المصلين في مابعد ظهيرة جزيرة الأمراء المكدودين (كما يقول شاعر بورتريت لأمير مهزوم)، ثلاثة أكراد يتامى الله (وكما يقول شاعر أولمبياد مهاباد).
ثلاثة أكراد يجلسون على الحافة الجنوبية من أرواحهم التائهة.
ثلاثة أكراد يملؤون المكان بالصمت والدهشة، تسيل من أصابعهم لوعة النبي نوح ـ هل كان يشبه الملا الجزيري في سحنته؟ ـ لوعة النبي وهي ترسو على جودي.
6
ـ لأملأ المكان بقلقي، هذه الظهيرة.
قلتُ، أخاطب نفسي. وأنا أصعد الدرجات الحجر، الدرجات الرخام المعذب، تحت القوس إلى حيث يرقد الشجنان الكرديان الثقافيان الفائضان على النسيان.
7
قبة كليلة من حجر أشعث، طاهر معجون نادم بللور حكيم ذابل مرقد خامل لالون له حكاية عزلة شأن مذبوح حقيقي شفاعة ـ حجر خصيصته خصيصة حبر أحمدي خاني.
هي قبة، إذاً..
بحجره المكسور، طاقة صغيرة لتعبره رائحة ريحان أمي من نافذتها في عامودا قبل خمسة قرون، إلى الضريح في جزيرة الأمراء المكدودين على ظهور بغال عمياء.
8
كانت زين أمام المرآة نحيلة مثل شتلة زرقاء، نحيلة مثل الحنين، نحيلة مثل البقدونس في عرصة عامودا، البقدونس المبلل بماء على شوالات الخيش الصباحية.
كان مم وراءها نحيلاً، مثل ابن آوى على تخوم كردستان.
أثمت من طائر؟.
أحد عشر غراباً، أخفق بريش جناحه البارق، وسقط ميتاً في ماء جزيرة مم وزين. طفى فوقها.
9
ـ مم، أحبكَ.
ـ زين، أحبكِ؟
أحد عشر طائرا رسولاً هدهداً من النبي سليمان، إلى القبة الضريح، كانت تنظر إليّ في تلك الظهيرة الإسفلت، في عبوري القلق، إلى باب مم وزين، وأنا أجفف لحيتي من ماء بركة مسجد عفدال.
ثلاثة كرد/ كانوا ملولين، عجولين في رد تحية ابنهم، التحية المطحونة مع الخوف مع الإسفلت.
10
ـ زين أحبك.
ـ مم أحبك.
كان مم ينزف المنفى. كانت زين تنزف مم.
عويل إبن آوى، ينسكب على الدرجات، وأنا أصعدها وئيداً، طبقات درج جامع عفدال، طبقات رخام معلوم، هي نفسها أحجار درج بيت أبي وأمي، وأنا أستنشق الريحان القصير منذ خمسة قرون؛ سنوات أحمدي خاني، يدوّن الريحان. لاشيء آخر.
11
درجات، ربما خمس طبقات، هي في النزول الهباء: المصباح مكسور، ليس من ضوء، عتمة خفيفة، أكياس نايلون شريدة ـ هي مثلي ـ، رذاذ من قرون كردية قديمة، رذاذ أصفر، جدران موحشة، أرض لاشأن لها بدأب العاشقين الراقدين ـ دأب القلق، حجر فخار قرميد طين جاف أغصان عجفاء مغروزة على سطح القبرين أغصان خضراء أغصان التبرك من عشاق كثر أعواد خشب قضبان حديد تلتف عليها مزق أقمشة، مزق من محفوظات الندم والخيال لعشاق سليلي العويل من جودي إلى عامودا ومن غوتنبورغ إلى الندم. من أورمية الشكاكية، إلى مهاباد إلى الشبر والنصف من ريحان بدرية.
كانا: مم وزين نائمين ظهيرة ذلك اليوم. فلم أملأ المكان بقلقي.
فخرجتُ. أمج التبغ، تحت ظلال ظلام نوم العاشقين الكسيرين الهملين مم وزين.
12
تقول الأسطورة الحكاية الواقع التدوين الكبير للكبير أحمدي خاني: أحبت زين مم، أحب مم زين، وشدها إلى (أقلام الله)، ـ التعبير من سليمو ـ. شدها إلى برادة العطش، إلى برادة الريحان ينمو على الدرج، ليس على الدرج تماماً، بل على السجادة الملولة الكبيرة للمصلين الثلاثة في ظهيرة الجزيرة العاشقة، شفاعة النقش الكردي الريحان على أطراف سجادة مم وزين. قبل المحاورات المنطفئة بيني وبين أمي.
أدون بعدهما ـ بعد زمن العاشقين ـ ، أحبت زين مم، وجاهرت بجرأة نادرة في مدونات الشجن العاطفي، في ثقافات الأمم المجاورة بحبها، هي سليلة الأمراء الأشداء اللوعة الحريفة تالياً، وهو الـ “مم” سليل القابض على الرايات، رايات الكرد الأمراء في ثورات تنحر ما إن تشتعل.
أية عاشقة متفجرة كانت زين؟.
أي عاشق متفجر كان مم؟.
هما الاثنان، يشبهان عراء الكرد على قلبي العاشق الآن في غوتنبورغ السويد؛ غوتنبورغ دياربكر، حيث يرقد جدي الأول: “بافي كال ” قبل مئات السنين، يرقد بعيداً عني وعن القطب الكبير الملا الجزيري:
دِيسَا زِ نُو بى حَالَه دِلْ سْاقِى وَرِينْ جَامَا زُجَاجْ
الأسطورة الشجن الحجر القلق الريحان الخشونة الضريح الظلال؛ كلها إشارات وجْدي تلك الظهيرة، في التدوين الذي لم أكمله بعد.
13
رمي بـ مم في قبو سجن، بعد أن اكتشف الأمير القوي حب أخته له، هزلت زين، وشحبت. ثم مات الاثنان – محتضنين بعضهما البعض، في وجد من التصوف الإسلامي ممزوجاً مع الروح الكبيرة للمدون أحمدي خاني.
14
نزلتُ الدرجات ثانية، ملأتُ حدقتي عيني بالضوء الشحيح الذي يغمر القبو الضريح الكئيب السرمدي. وبأصابع مرتعشة، أخذت مزقة قماش، للتبرك، منعني السائق:
ـ هو المقدس، المكان وما يحيط به.
لكنني بحركة الماهر الصديق، أخذتُ القماش؛ قماش أبيض بطبعة زهر صغير أحمر. يشبه زهر ريحان أمي عندما يتفجر في تواجدنا تحت محنتها ألا نكون بعيدين عن عينيها. فغبنا حتى عن أجدادها. أنا وأخي الذي يحب الأحجار في هانوفر.
15
إشارات اختبارات النباتات السوداء.
16
أين مرقد القطب الكبير الملا الجزيري؟.
في عبورنا لدجلة الجزيرة، جزيرة الأمراء المنفيين (آل بدرخان)، كانت مصفحات خضراء ترقد بجانب مسجده وضريحه، مثل ضفادع من الحديد؟!.
· كيفهات أسعد، شاعر كردي سوري، مقيم في السويد.