قراءة في رواية: جمهورية الكلب

فرحان مطر

جديد النتاج الأدبي والفكري الغزير للكاتب الكردي السوري إبراهيم اليوسف روايته “جمهورية الكلب” الصادرة حديثاً عن دار “خطوط وظلال للنشر والتوزيع الأردنية”.
إنها عالم من المتعة السردية في عوالم مجهولة، هذا ما تحققه للقارئ رواية “جمهورية الكلب” للكاتب السوري الكردي إبراهيم اليوسف المقيم في ألمانيا، وهي آخر أعماله الأدبية والفكرية العديدة والمتنوعة.
كقارئ أتحدث عمّا قرأت، بما يتيح لي التحرر من سلطة النقد الأكاديمي التي لست من أهل الاختصاص فيها، أقول: 
ما أن بدأت القراءة، ودخلت في خضم أسطرها الأولى حتى شعرت أنني وقعت في الفخ المحكم التصميم الذي نسجه الكاتب مسبقاً للقارئ، بحيث لا يستطيع الفكاك منه قبل أن ينتهي من آخر صفحة فيها.
أول ما يميّز الرواية هذه المقدرة السردية العالية، والاسترسال في الروي، والانتقال بين الأزمنة، والعوالم المختلفة التي تتمتع بها على مدار فصولها. 
أما تلك الذاكرة المتقدة دائماً، والأمانة الشديدة، والوفاء للأهل والتاريخ والمعارف، الذين لم يغيبوا لحظةً عنها، فهي بحد ذاتها تستحق الإشادة والإعجاب.
أدهشتني قدرة الكاتب على التقاط التفاصيل الصغيرة جداً في المكان والزمان، حيثما سارت حروفه واتجهت. 
قلت في نفسي بدايةً: 
إنه يدخل عالماً مفتوحاً على مصراعيه مليئاً بالتناقضات والمفاجآت والأسرار، فهل سيستطيع الإمساك بكل الخيوط دفعة واحدة دون أن يتوه؟!. كانت المتابعة هي الكفيلة بالإجابة بنعم، مع أن الموضوع الرئيس في الرواية كان عن الكلب وعوالمه، وعلاقة الإنسان به، وكيف تختلف هذه العلاقة باختلاف نظرات وثقافات الشعوب، وقد أعطى في ذلك سبقاً من الإبداع في عالم الرواية العربية، وربما العالمية، لست متأكداً من ذلك، غير أنني قرأت شيئاً آخر، موازياً لهذا الموضوع الظاهر في الرواية. 
قرأت في جمهورية الكلب، رواية الناس العاديين البسطاء الفقراء (تحديداً)، حياتهم، وتفكيرهم وموروثاتهم الشعبية، ونظراتهم المسبقة تجاه الأشياء عموماً، تلك النظرات التي تحكمها العادات والتقاليد والإرث الديني المتوارث، وتاريخ التخلف الاجتماعي الذي عاشوه مرغمين في مجتمعاتهم، بغض النظر عن أعراقهم وإثنياتهم، بما في ذلك النظرة إلى الكلب والعلاقة معه. 
من جهة أخرى فقد تكون هذه الرواية أول من حاول التصدي لمسألة الاندماج بين اللاجئين والمهاجرين والمجتمعات الجديدة التي وفدوا إليها قسرياً، أو حتى بمحض اختيارهم، هذا الاندماج الذي تحدثت عنه لم يكن سياسياً، بقدر ما هو إنساني عميق تشعر بحضوره القوي في كل كلمة على مسار الرواية. 
تغصّ الرواية على مدار صفحاتها بالمكاشفات، والمصارحات، والبوح الإنساني الشفيف، إلى أبعد مدى على لسان بطلها آلان، فهو شديد الجرأة، والصدق وهو يليق بشخص الكاتب نفسه حقيقةً كإنسان له تاريخ عريق من المصداقية.
صحيح أن مسرح أحداث الرواية، وحدود “جمهورية الكلب” كانت موزّعة بين ألمانيا، حيث يقيم الكاتب لاجئاً، وسوريا، حيث كان مواطنا، إلا أنني أرى أنها تنطبق (وأكاد أقول حرفياً) على أوضاعنا في فرنسا، وهي كذلك في كل بلد أوروبي يحتضن سوريين في رحلة هروبهم نحو الحياة.
كنت أرى نفسي أحياناً من خلال شخصية البطل “آلان” في الكثير الكثير من المواقف، وكنت أعتقد أن “آلان” يبوح بلسانه بشيء يشبه إلى حد بعيد تلك التفاصيل والأحاديث التي أعيشها، وأحدّث نفسي بها عندما أكون وحيداً.
 ما يرد في الرواية من مشاعر تجاه الأحداث، يكاد كل قارئ يرى فيها ذاته، وتجاربه، ومعاناته في فرنسا، أو أي بلد أوروبي آخر، سواء لجهة العلاقة التي تشبه الصراع اليومي مع اللغة، أو محاولات الاندماج التي قد تتعثر لأسباب متعددة ومتنوعة هنا وهناك.
ولكن لا فالصدق في التعبير عن المكنونات الدفينة هو الذي يظهر كل ما هو إنساني فيها، وهو هنا مشترك بيننا جميعاً: الألم يوحدنا. 
عن أي شيء يجب أن أتحدث هنا؟!. عن الحبكة؟!. الإثارة؟!. التشويق؟!. الدهشة؟!. المفاجآت غير المتوقعة؟!. حبس الأنفاس والترقب؟!. عن الحقيقي والمتخيل في الرواية؟!. 
هل كانت “بيانكا” بطلة الرواية الألمانية، امرأة من لحم ودم وجمال وأنوثة؟!. أم من نسج خيال روائي مبدع رسم كل التفاصيل، واختلق الأحداث بطريقة لا تدع مجالاً للتشكيك بمدى واقعيتها؟!. 
رواية “جمهورية الكلب” عمل راودني شعور خلال قراءته، تمثّل بأنني لم أكن أريد لها أن تنتهي، مع أنني حبست أنفاسي كثيراً في تفاصيلها التي تزداد توتراً وإثارة كلما توغّل القارئ في دهاليزها المدهشة.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…