ذئب المنفى وعصافير الثلج

عن دار Kultur Soncag للنشر والتوزيع في (أنقرة/ تركيا)، صدرت حديثاً للشاعر السوري كمال جمال بك مجموعته الشعريّة السابعة ” ذئب المنفى وعصافير الثلج”، وجاءت في مئة وصفحتين، متضمّنة خمسين قصيدة، يبدو فيها أثر الكارثة السورية واضحاً على الصعيدين الخاص والعام، لا سيما على من تهجَّروا وتناثروا في المنافي. 
في نسيج المجموعة تحضرالبيوت ، لا كذكريات مدمَّرة، ولا مجرَّد حنين إلى استعادة دفئها، بل كجزء أساسي فيها، بما تختزنه من أثرالإنسان والكائنات والطبيعة، وما تفيض به على النفس  من مشاعر وصور ورؤى.
 فتحت عنوان “القماط” يختفي بيت جدّ الشاعر لأمّه حيث ولد في مدينة البوكمال عام 1964 وبيت حفيديّ الشاعر حيث ولدا في السُّويد بالتزامن مع صدور مجموعتيه “جسر الضلوع وذئب المنفى”. وبين هذين البيتين تسيل حكاية يرويها الجدُّعن جدّه في الإهداء:” إلى العصفورين السُّويديَّين السُّورِيَّين حفيديَّ أَمير وليون ثمرة نيكول وأَنور: لمَّا استولَت البلديَّة على أَرض جدّي لأُمّي، لاحقها قانونيّاً، فعرضت علَيه إِعادة أَجزاء منها. غير أَنَّ المُطَوّف عبد الله الخليل – الذي أَهداني قبل ولادتي حزامه الحرِيرِيَّ المخمليَّ ليكون قماطي –  قال لهم: ” يا كلها يا الذّيب ياكلها “.
شعريّا تبدأ المجموعة بقصيدة حملت عنوان لعبة الأطفال الشعبية “بيت بيوت” وفيها:
بيت مسرْق:
نهرِي حافي القدمينْ
تجرحه أَحجار القَاعِ
بيت السَارق:
فصَلت له روحي/ قلبي خفّينْ
كي لا تنمو أَشجار الأَوجاعِ     
ويختتم الشاعرالمجموعة بقصيدة “بيتنا” المتفرّدة بدلالتين زمانيَّة ومكانية تشيران إلى دمشق 2010.  وبين “بيتنا” وبين “بيت بيوت” تتصدع أساسات الذات في المنفى، وتتشظَّى جدرانها بفارق إنسانيّ يمايز “بيت الغريب” عن “بيت الحارة”:
“صَبَاحُكِ يَاشَامُ ظِلُّ الشُّمُوْسِ ..
وَثَلْجُ الغَرِيْبِ عَلَيْهِ ثِيَابُ!
يُقلّبُهُ الشَّوْكُ فِيْ كُلّ شَوْقٍ
حَنِيْنَ الرّيَاحِ إِلَىْ أَهْلِهَا..
وَالصَّدَىْ فِيْ المَنَافِيْ السَّرَابُ!
عَصَافِيْرُ يَاشَامُ كَانَتْ هُنَالِكَ تَشْدُوْ، فَصَارَ الغُرابُ..
صَدِيْقَ البُيُوتِ.. 
الحَدَائِقِ..
أَهْلِ الكِتَابِ.. 
وَأَعْشَاشُهُ فِيْ النُّفُوْسِ ..
لَهُ مُطـْـلـَـقُ الأُفْقِ غــَـابُ!”(10)
يستغرق الشاعر في تفاصيل المنفى بالتَّقاطع مع مرايا المكان السوري، فتبدو ملامح المعاناة مشتركة بين من نجا بجسده من شرّ القتل، وبين من بقي مستهدفا للقتل، أو في عداد الموتى، أو على موجوداً جداول دائرة النفوس:  
“فِيْ الشَّامِ..
مِثْلُ الشَّامِ..
مِثْلُ الأَهْلِ..
مِثْلُ الشَّجَرِ العُرْيَانِ فِيْ حَدِيْقَةِ السّبْكِيْ
ومِثْلُ أَيْلُوْلَ هُنَاكَ..
مِثْلُهُ الصَّدَى هُنَا يَبْكِيْ
فَكَيْفَ لَا بِمَائِهَا نَخْتَنِقُ؟!”(53)
وضمن تنوّع أساليبه الفنيّة في قصيدة التفعيلة، إلى جانب نصّين في قصيدة النثر، يلتقط الشاعر هذه البطاقة:
“نَغُصُّ بِمَاءِ الحَنِينْ
وَنُخْفِيْ عَنْ الأَهْلِ غَابَةَ أَسْئِلَةٍ مُرْعِبَهْ!
– كُلُّ شَيءٍ بِخَيْرٍ، وَأَنْتُمْ؟
* كَذَلِكَ نَحْنْ بِخَيْرٍ..
تَمُوْتُ هُنَا الأَجْوِبَهْ
وَالهَوَاتِفُ رَنَّتُهَا الكَاذِبَهْ”(78)
وفي موازة نزيف قصائد منفيّة لها أنياب الذئب، وعواء الألم، تتدفّق قصائد وجدانية بنبض الحب والحياة،  لكأنَّها جاءت بلسماً للجراح، ومنها ” اشتقنا للضحكة” و”عطر الكلمات”و”الفرح المنثور” و” حبة جوز” وفيها:  
 
“تَكْفِيْ الأَشْجَارَ إِذَا عَطِشَتْ كَأْسٌ مِنْ مَاءْ
بِيَدٍ سَمْحَاءْ
تَكْفِيْ المَوْجُوْعَ عَلَىْ جُوْعٍ تُفَّاحَةُ كَرَمٍ رَيَّانَهْ
لَاْ يُبْقِيْ مِنْهَاغَيْرَ العُوْدِ بِصُنْدُوْقِ أَمَانَهْ
تَكْفِيْهِ قِشْرَةُ مَوْزٍ
يَتَزَحْلَقُ فِيْهَا كَالأَطْفَالِ عَلَىْ دَرَجِ التَّبَّانَهْ”(97)
على الغلاف الأخير للمجموعة الذي صمَّمه الشاعر حسن إبراهيم حسن نقرأ من قصيدة”ثياب المنفى”:
“يَا اللهُ
تَعِبْتُ، تَعِبْتُ، تَعِبْتُ
فَأيْنَ المِفْتَاحُ؟
أَشْجَارِيْ غَيْرُ الأَشْجَارِ!
وَطُيُوْرِيْ غَيْرُ الأَطْيَارِ!
يَا اللهُ
أَعِرْنِيْ كَفَناً
يَسْتُرُنِيْ فِيْ وَطَنٍ حُرّ مَا كَانَ لَنَا وَطَناً
ثَوْبُ العُرْيِ هُنَا فِيْ المَنْفَىْ فَضَّاحُ”
صدرت للشاعر خمس مجموعات في دمشق بين عامي 1992 و2000 هي “فصول لأحلام الفرات” “سنابل الرماد” “بعد منصف القلب” “فاتحة التكوين” و”مرثية الفرات العتيق”، فيما صدرت مجموعته السادسة “جسر الضلوع وهذه قصيدتي” عن دار “العائدون للنشر” في عمّان/الأردن 2020.


شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

سيماڤ خالد محمد

مررتُ ذات مرةٍ بسؤالٍ على إحدى صفحات التواصل الإجتماعي، بدا بسيطاً في صياغته لكنه كان عميقاً في معناه، سؤالاً لا يُطرح ليُجاب عنه سريعاً بل ليبقى معلّقاً في الداخل: لماذا نولد بوجوهٍ، ولماذا نولد بقلوب؟

لم أبحث عن إجابة جاهزة تركت السؤال يقودني بهدوء إلى الذاكرة، إلى الإحساس الأول…

خالد بهلوي

بحضور جمهور غفير من الأخوات والإخوة الكتّاب والشعراء والسياسيين والمثقفين المهتمين بالأدب والشعر، أقام الاتحاد العام للكتّاب والصحفيين الكُرد في سوريا واتحاد كردستان سوريا، بتاريخ 20 كانون الأول 2025، في مدينة إيسين الألمانية، ندوةً بمناسبة الذكرى الخمسين لرحيل الأديب الشاعر سيدايي ملا أحمد نامي.

أدار الجلسة الأخ علوان شفان، ثم ألقى كلمة الاتحاد الأخ/ …

فراس حج محمد| فلسطين

لست أدري كم سيلزمني لأعبر شطّها الممتدّ إيغالاً إلى الصحراءْ
من سيمسك بي لأرى طريقي؟
من سيسقيني قطرة ماء في حرّ ذاك الصيف؟
من سيوصلني إلى شجرة الحور والطلع والنخلة السامقةْ؟
من سيطعمني رطباً على سغب طويلْ؟
من سيقرأ في ذاك الخراب ملامحي؟
من سيمحو آخر حرف من حروفي الأربعةْ؟
أو سيمحو أوّل حرفها لتصير مثل الزوبعة؟
من سيفتح آخر…

حاوره: طه خلو

 

يدخل آلان كيكاني الرواية من منطقة التماس الحاد بين المعرفة والألم، حيث تتحوّل التجربة الإنسانية، كما عاينها طبيباً وكاتباً، إلى سؤال مفتوح على النفس والمجتمع. من هذا الحدّ الفاصل بين ما يُختبر في الممارسة الطبية وما يترسّب في الذاكرة، تتشكّل كتابته بوصفها مسار تأمل طويل في هشاشة الإنسان، وفي التصدّعات التي تتركها الصدمة،…