التمرّد، الإباحية والهلع في رواية «الخوف من الطيران» !

هيڤي قجو

إيربكا يونغ كاتبة ومدرّسة أمريكية يهودية من مواليد 1942. ذكرها الشّاعر، المغني والملحن الأمريكي بوب ديلون الحائز على جائزة نويل للآداب في أغنيته HIGIHLAND) ) ساندت إيريكا قضية المثليين ولم تر في ارتباطهم  مشكلة على العكس تماماً رأت في ذلك نعمة تعود عليهم وعلى المجتمع. من مؤلفاتها: كيف تنقذين زواجك، مظلات هبوط وقبلات، الشيطان طليقاً: إريكا يونغ تكتب عن هنري ميللر، خوف من الخمسين: مذكرات منتصف العمر ورواية: “الخوف من الطيران، ترجمة: أسامة منزلجي، بغداد: دار المدى،2017” التي أثارت جدلاً واسعاً لما تحمل بين طياتها تفاصيل دقيقة عن المرأة والجنس والتي هي قيد قراءتنا…
حين يقرأ القارئ العنوان للوهلة الأولى ينتابه الظنُّ أنّ ثمة طائرة وهي تتأهب للطيران ثمة الخوف الذي يشعر به المسافر حين يحلّق في الفضاء لأول مرة في حياته، لكن ليس هذا فحسب. فبالإضافة إلى الخوف الحقيقي المتكرّر من الطيران هناك أمر آخر بعيد كل البعد عن الأمر الأول، فحين يغوص القارئ في أغوار الرواية، يلاحظ خوف البطلة من البقاء لوحدها أو الانعتاق من شريكها الرجل، أكانت علاقتها جيدة به أم سيئة؟ فالعلاقة السيئة أفضل من عدم وجودها، عدم ثقة البطلة في نفسها وافتقارها للجرأة في الاعتماد على نفسها في حياتها يجعلها لا تنفكّ عن الارتباط دوماً برجل. وكأن العلاقة برجل يحميها من المجهول وقبل ذلك كله يحميها من نفسها، هذه الحالة التي تجعلها في ارتباك معظم الوقت، الأمر الذي يؤثر على نفسيتها لتبقى مداومة عند الأطباء النفسيين.
الرواية تتألف من 456 صفحة وتنقسم إلى 19 فصلاً بالإضافة إلى الإهداء والتعريف بالكاتبة والكلمة الأخيرة. الرواية بمجملها إباحية تتناول أدق تفاصيل جسد المرأة والرجل وحالات المجامعة، حتى أَنَّ الكاتبة تسمّي الأعضاء التناسلية بأسمائها أغلب الأحيان! تدور أحداث الرواية في الفضاء الأوربي في الدولة النمساوية. بدايةً فبطلة الرواية إيزادورا. ترافق زوجها المحلّل النفسي مع مجموعة من المحليين الآخرين على متن طائرة من مدينة نيويورك الأمريكية إلى النمسا حيث كُلّفت بتغطية صحفية لمؤتمر للمحلليين النفسيين، تغطية تركز على الجوانب السّاخرة حول ما يدور في كواليس المؤتمر. أما المناسبة التاريخية لحضور هذا الحشد من المحليين النفسيين، فقبل ثلاثة عقود فرَّ المحلل النفسي “فرويد” من غرفة استشاراته حين هدد النازيون عائلته. وخلال سنوات عديدة كان ذكر اسمه ممنوعاً في معظم ألمانيا، حيث كان المحللون إما يفرون أو يُعدمون في “غرف الغاز” المرعبة. والآن ستفتتح البلدية متحفاً في غرفة استشارات فرويد القديمة، إلى جانب مؤتمر وحفلات وطعام وشراب ورحلات. المحللون يُستقبلون بحفاوة من قبل الجميع إلا أن معاداة السامية واضحة على الوجوه الباردة والتي تتصنع الترحيب. والرواية بالمجمل هي سيرة حياة البطلة ( إيزادورا) اليهودية ومن عايشها، التي أجزم أنها سيرة الكاتبة المهووسة بالمجامعة الجسدية والتي تخدع القارئ وتجعله يفكّر أن المرء وُجِدَ لكي يمارس الجنس فحسب، ففي خضم أعمال المؤتمر وبينما هي مع زوجها (بينيت) يلفت نظرها محلل نفسي آخر( أدريان) يستهويها فتمارسُ معه الجنسَ لكنها تتفاجأ أنه لم يُشبع رغباتها كما تصورت ذلك في عقلها الباطن، الممارسة معه في البداية ممتعة فهو يقبّلها خلافاً لزوجها الذي لا يحبّذ التقبيل، لكن زوجها يجامعها أفضل منه. هنا تقع البطلة في متاهات المقارنة، حينما تكون مع (بينيت) تشتاق لـ (أدريان) وحين تكون مع أدريان تشتاق لبينيت وكأنها تريد الاثنين في شخصية واحدة. إلى أن يكتشف زوجها علاقتها مع أدريان فيتناقشان في الأمر، تتعهد (إيزادورا) لنفسها أن تترك (أدريان) لإنقاذ زواجها لكنْ ما من إرادة، فحين تراه لا تتحكّم بمشاعرها. يفاجئهما زوجها في غرفة الفندق حيث مارسا الجنس قبل قليل. المدهش هنا عوضاً أن يثور أو يغضب من فعلتهما يمارس الثلاثة معاً الجنس. ثم يغادر (بينيت) معها في صمت.
يحاول (أدريان) الضغط على (إيزادورا) على التحرُّر من هذا الزواج والذهاب معه في رحلة إلى أوربا، رحلة دون قواعد، رحلة فوضوية لا يسأل أحد منهما عن أي شيء، يدعان الأمور تحصل على سذجيتها، قواعد وضعها هو ويغيّرها بحسب مصلحته. يغريها (أدريان) بأن الرحلة مفيدة لها لتكتشف فيها نفسها. تتردد (إيزادورا) فكيف لها أن تترك (بينيت) وكيف لها أن تهدم هذا الزواج الذي كان بمثابة حصن منيع لها، حماها من كل ما أحاط بها من خوف وشرّ. بعد أخذٍ وردٍ تقرر الرحيل مع (أدريان) وترك زوجها، يطوفان أوربا بسيارته، بعد أيام تكتشف أن (أدريان) سيقابل زوجته وطفليه وأن الرحلة لم تكن عفوية بل كان مخطّطاً لها، جُنّ جنونها وصبت جام غضبها على (أدريان) الذي لم يكن يهمه إلا رؤيته لطفليه وزوجته. تركها (أدريان) هناك في باريس خائبة الأمل تجر حقيبة ثيابها على أرصفة باريس تبحث عن فندق لتنام ليلة ومن ثم تغادر إلى لندن لأنها اتصلت بنيويورك وخمّنت أن زوجها في لندن ومن المؤكد ستلتقي به. هي الآن وحيدة، فلا (بينيت) معها ولا (أدريان) كانت تخاف من الوحدة، تتذكر زواجها الأول وكيف كانت تعيش مع زوجها المريض نفسياً دون أن تفكّر في خطورة بقائها معه، كان الهدف هو البقاء مع أحدهما دون التفكير في العواقب سواء كان ذلك خطراً أم لا، فكونها ليست وحيدة هذا يرضيها، إلى أن طلب حموها ذلك حفاظاً على حياتها  فتركت زوجها مرغمةً ولم تمض إلا فترة قصيرة حتى تزوجت من طبيبها النفسي (بينيت) أي أنها لم تبق لوحدها أبداً، كيف ستنام وحيدة دون وجود شخص آخر بقربها بعد جهد جهيد تنام، وتصحو على آلم بطنها، فاجأتها دورتها الشهرية، وحيدة في باريس في فندق تعيس، دون فوط نسائية… هذا كان ينقصها!!!
تترك الفندق على عجل ثم تشتري الفوط ثم إلى محطة القطار ثم إلى لندن، ذهبت إلى الفندق الذي أخبرها زوجها أنه سيقيم فيه، بصعوبة تركوها تدخل غرفة زوجها وأخيراً ستستحم استرخت في حوض الحمام وهي تفكر برحلتها إلى النمسا وكيف تغيّر قدرها ولأول مرة في حياتها تقوم بشيء هي التي قررت فعله، هذا القرار الذي سيكون بداية لقرارات أخرى ستؤدي إلى تغيير حياتها، لكن ليس ضمن هذه القرارات الرجوع إلى ( بينيت) وبينما هي كذلك إذا بــ(بينيت) يدخل الغرفة!!! 
هذه الرواية تطرح إشكاليات كثيرة، وهي بحدّ ذاتها تجعل من الرواية ممتعة ومثيرة وتحثُّ القارئ على الغوص في عوالمها من حيث إنها تخلق الكثير من الاستفهامات لدى القارئ على سبيل المثال: هل الإباحية الجنسية ممر لتجاوز الخوف الذي تشعر بها البطلة أم هل الجنس هو تحقيق لكينونة الفرد أو أنه يحرر الفرد من الكبت المرافق للمرء مدى حياته؟ هل تريد الكاتبة إخبارنا عبر سلوكيات بطلتها (إيزادورا) أن الإنسان نصفه ذكر ونصفه الآخر أنثى وأن الصفتين موجودتان في الإنسان مهما تنكّر؟ يمكن للمرء أن ينساق إلى تأويل آخر وهو أن الغريزة الحيوانية تقف حائلاً أمام ارتقاء إيزادورا إلى حالة الحب بوصفها ترميزاً للحياة السامية. هي حفنة أسئلة على هامش هذه القراءة. وأخيرا؛ً الطريق مفتوح للقراءة أمام القارئ واترك الحكم النقدي له…

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…