صراع الطوابير

أفين أوسو
أمواج بشرية تستجدي يوماً آخر في كسرة خبز تكسي رعشة أناملهم الباردة، وتسدّ رمق أبدان نحيلة ترفع جهراً قضية خلعة من الموت، وتعقد بالسرّ نكاحاً مع الحياة.
من بقايا موائد الطغاة وتخمة الأحشاء نصطفّ كلّ صباح حسائكَ عائمة في منفى أوطانها.
تساءلت وأنا أتراجع للخلف لا للأمام، وأسترق النظر في التجاوزات لذوات الوجوه الممتلئة ومنتفخي الأبدان «لم نحارب نحن الفقراء كلّ صباح على كسرة خبز؟ ألنواجه الموت بكامل صحوتنا، أم لنمنحهم صكوكاً بأنهم جبابرة وأسياد؟».
كشهادة نثبت لله عن شكوانا، وأننا قتلى وضحايا، نطمع برطل لحم تكسو عظامنا، لتغدوا أثر النعال وندب السوط جلياً تحت الأكفان.
رائحة رغيف الخبز صفعت وجه التساؤلات، وجرفت سيولاً من لعابي كقطرة ماء يتسلّل لفم صائم يتمّم للصلاة، خدر مرارة فمي.
بكسل مبالغ مددت يدي لجيوبي؛ لأتحرّى عن سبب اهتزازات هاتفي المحمول المشدود بحزام لا يسمح لبطاريته بالانفلات أرضاً «ألْحِقني؛ سأموت من الوجع، المخاض اشتدّ عليّ».
رسالة من الرصاص وليست من الكلمات، تحسّست الورقة النقدية في جيبي، هل أفلحت في حراستها بين جموع تجهد في تأخّر موت أطفالها فتسرقها؟ وعلى عجل رمقت الرؤوس المشعّثة المصفوفة أمامي، مسَدت رأسي بكفّ يدي، كيف سأذهب مفرغ اليدين؟ ماذا سنأكل هذه الليلة؟ وأي هدهدة كاذبة تغفو عليها شغب أمعاء أطفالي الثلاث؟ تخلخل توازني، سحبت قدمي من حذائي الممزّق، لأحافظ على مكاني في الطابور، قيمتي لديهم لا تتجاوز الحذاء، يعاد في التسلسل الذي يناسبهم دون اعتبار، تسلّلت للأمام؛ لأستجدي عطف أحدهم ونتبادل الأدوار، عدت خائب الوفاض، يد تسحبني للبيت وأخرى تبقيني وتسمّرني بالأرض، زوجتي تصارع مخاضها، ربما يصيب ظنّ الطبيب ويكون الجنين صبياً يحمل اسمي بعد ثلاث خيبات.
كاد يغمى عليّ وسط الزحام وجعجعة الأفكار، انتشلني صراخ أحد الرجال يتقدّمني بثلاث خطوات، أكل الشيب رأسه، يتأوّه ويرتمي أرضاً، وراح يجهش بالبكاء، اقتربت منه حافي القدمين، رفع رأسه وعيناه تتّقدان من فرط القهر، صرخ يكتم نواحه، يبلع دموعه، يغرق باختلاجته:
– ابني.. ابني! وحيدي، اتصل ليخبرني باحتجازه على الحاجز، وسحبه للاحتياط، قبل أشهر بيدي هاتين واريت التراب على ولدي البكر، تاركاً وراءه أرملة وأربعة أطفال.
بلّل قميصي تحت غيمة وجهه، وهو يسهب في الكلام، استفقت من أمنيتي، كيف أرجو مولوداً ذكراً في وطن مستقبل رجاله مخصي ودروع بشرية؟
انتزع اللجام عن صهوة لساني لأرتب على ظهره المقوس صارخاً:
– نحن الفقراء يا عماه نحرس البلاد، كقطيع كلاب تؤجّر لحراسة كومة تبن للحمير والخراف…
17 تشرين الثاني، 2021م
ألمانيا –  بريمن

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

عبد الستار نورعلي

أصدر الأديب والباحث د. مؤيد عبد الستار المقيم في السويد قصة (تسفير) تحت مسمى ((قصة))، وقد نشرت أول مرة ضمن مجموعة قصصية تحمل هذا العنوان عن دار فيشون ميديا/السويد/ضمن منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد التابع لوزارة الثقافة العراقية عام 2014 بـحوالي 50 صفحة، وأعاد طبعها منفردة في كتاب خاص من منشورات دار…

فدوى كيلاني

ليس صحيحًا أن مدينتنا هي الأجمل على وجه الأرض، ولا أن شوارعها هي الأوسع وأهلها هم الألطف والأنبل. الحقيقة أن كل منا يشعر بوطنه وكأنه الأعظم والأجمل لأنه يحمل بداخله ذكريات لا يمكن محوها. كل واحد منا يرى وطنه من خلال عدسة مشاعره، كما يرى ابن السهول الخضراء قريته كأنها قطعة من الجنة، وكما…

إبراهيم سمو

فتحت عيوني على وجه شفوق، على عواطف دافئة مدرارة، ومدارك مستوعبة رحيبة مدارية.

كل شيء في هذي ال “جميلة”؛ طيبةُ قلبها، بهاء حديثها، حبها لمن حولها، ترفعها عن الدخول في مهاترات باهتة، وسائر قيامها وقعودها في العمل والقول والسلوك، كان جميلا لا يقود سوى الى مآثر إنسانية حميدة.

جميلتنا جميلة؛ اعني جموكي، غابت قبيل أسابيع بهدوء،…

عن دار النخبة العربية للطباعة والتوزيع والنشر في القاهرة بمصر صدرت حديثا “وردة لخصلة الحُب” المجموعة الشعرية الحادية عشرة للشاعر السوري كمال جمال بك، متوجة بلوحة غلاف من الفنان خليل عبد القادر المقيم في ألمانيا.

وعلى 111 توزعت 46 قصيدة متنوعة التشكيلات الفنية والجمالية، ومتعددة المعاني والدلالات، بخيط الحب الذي انسحب من عنوان المجموعة مرورا بعتبة…