صعوداً إلى جامعة « كويه Koye » في ملتقى حول « الهوية الجندرية »

إبراهيم محمود

 تسمح الملتقيات الثقافية بالخروج من عالم الذات إلى فضاء الآخر، والاغتناء بهذا الآخر: قليلاً أم كثيراً، وممارسة نوع من إثراء الثقافة الشخصية، أو توسيع حدودها أكثر. هكذا كان التنادي في جامعة ” كويه ” العريقة بموقع مدينتها، انطلاقاً من ” مركز ملا الكبير للبحوث ” والذائع الصيت بإسهاماته الثقافية والتنويرية، بالتعاون مع مؤسسة بيت الحكمة- بغداد، في عقْد الملتقى العلمي الثالث، وتحت شعار ” دور الإعلام في تشكيل الهوية الجندرية ” في ” 1-3/2021 ” وبمشاركة سبعة مراكز ثقافية من العراق، ومن ضمن إقليم كردستان العراق ” والأكثر من جهة الأخير ” وكان مركز”نا “: مركز بيشكجي للدراسات الإنسانية- جامعة دهوك، أحد هذه المراكز ” وكنا ثلاثة: د. كوثر جبارة- الأستاذ مصلح حمزة، وأنا ” سوى أنني كنت مشاركاً، بالمقابل، في بحث ، وهو ” في معايشة التوابل: التكوين الجندري في صنعة الإعلام اليوم “.
جامعة كويه التي قفزت بي إلى سنة ولادتها” 2003 ” حيث عمّد تأسيسها الراحل ” مام جلال “
وإذا كان لي أن أنوّه إلى طبيعة الموضوعات المشاركة: مباشرة، وعبْر الاونلاين، فيمكنني إيجاز ذلك في عبارة واحدة، وهي أنها كانت غنية بتنوعها، وتعرضها لأهم القضايا ذات الصفة الجندرية، وكان للمناقشة دورها اللافت في إضاءتها أكثر.
في الجلسة الأولى، ومقرّرها م. م محمد سيد كول البرزنجي، ثم الدكتورة ابتسام اسماعيل قادر وأنا، فـ:م. م. سارا قادر محمد
إن ما منح النفس طمأنينة، وقابلية انفتاح على مناخ الملتقى، ذلك الإستعداد الضيافي والحميمي، وهو الذي يشكل شهادة اعتبارية للمكان وأهليه، على صعيد التنظيم، والرغبة في الإصغاء المتبادل، وهو ما نحتاج إليه، حيث نكون، وليس باعتبارنا كتّاباً، أو باحثين فحسب .
إن الحديث عن ” الهوية الجندرية ” وموقعها من الإعراب الثقافي في عالم اليوم، ومن داخل الإعلام، يمثّل تحدياً فعلياً، لما يثيره الإعلام نفسه من أسئلة، وربما حساسيات، وبصدد موضوع الجندر: النوع الاجتماعي، وهو بطابعه التركيبي، وقد بات هذا التعبير متفرعاً، وأكثر من مفرد يجري التعامل معه، بصفة محددة، أو من حقل معرفي معين، فلا أكثر منه فروعاً، على خلفية من الانشغال به، وتجلّي أدواره، من الأنثروبولوجيا إلى السوسيولوجيا والسيميولوجيا…الخ .
وهذا يسمح لكل باحث، وتبعاً لنوعية اهتمامه، ومدى اجتهاده، أن يمضي قدماً في المسلك الذي يجد نفسه فيه أكثر قابلية.
محاضرون ومحاضرات، كما هو الجندر، ولدى كل منهم، ما يعزّز به موقعه، ويترجم ثقافته الخاصة بعائدها الإعلامي.
ربما بالطريقة هذه، تتشكل سلسلة إضافات مما هو ثقافي، ومما هو تعارفي، وللمكان خاصيته الجمالية هنا.
إننا لا نتكلم فقط، وإنما نشاهد، ونتقابل، ونتذوق المكان، وفي كل ذلك نكهة، هي ذاتها لغة من نوع آخر.
ولعلّي، فيما كتبتُه حتى الآن، ليس أكثر من اعترافي الحسي- النفسي بما عاينتُ ورأيت واستشفيت، لهذا، فإنني في كلمتي هذه، لن أتحدث، في مسح صحافي، أو إعلامي، عما سمعت، وعما جرى، وليس ما قلته حصراً، وقد كان لكل ذلك ما يستحق النظر والتوثيق كذلك، لأن المساحة التي أردتُها لهذا العنوان، هو بعضُ بعض ٍ من المشاهدة، بالتوازي لما انشغلنا به معاً، إنما سأتحدث عن وجوه لأهل المكان الذي يتناغم فيه السهليّ والجبلي، ويخرج اسم المكان نفسه عن كونه اسماً، كما يوحي بذلك، للوهلة الأولى ” كويه: تعني قرية “، ولكنها مدينة، رغم صغرها النسبي، تستحق ثناء تاريخ ثقافي واجتماعي، وعن بعض مما يجعل المكان أكثر تثبيتاً في الذاكرة، في صور تستبقي زمناً، كما لو أنه هو هو صعود أثر، لا نزولاً له.
ولكي أخرج المكان من لباسه المكاني، فأنا أعرّفه هكذا، بأنه المكان وما يجعله أكثر من كونه مكاناً. فلكَم من مكان واسّع ضيقه أهلوه، والعكس صحيح. إنه بريء من كل تهمة جانبية، سوى أنه يكون في مقام المرآة متعددة الأوجه، حيث يكون أهله متجلين داخلها.
دون ذلك، دون هذه الرحابة، كما لو أن المكان غدا أرواحياً، كما لو جبل ” هيبة سلطان ” نسبة إلى أخت عزيز تاريخي، ومختلَف عليه تاريخياً: صلاح الدين الأيوبي، وهو أشبه براحة كف عملاقة تشد منخفضه إليه، أو حيث يلتف الجبل حزاماً عريضاً، بصورة ما، لإبقاء المنخفض مغسولاً بضوء السماء وماء المكان، دون كل ذلك، ما كان يمكنني الكتابة .
نقاط مشعة، في طريق يفلت من كل زمام
ما أكثر طرقات إقليم كردستان. إنها جغرافية الإقليم، حيلة المكان في أهليه، وحيلة أهليه في المكان، بغية التمكن من المكان: ودياً، سهولاً، جبالاً: وما أكثرها وأوفرها، ومنعطفات. ولكل جبل طابعه المكاني، لعبته، حيلته، ليكون للطريق المقام عينه. ولكم يتطلب الطريق من يقظة، ومن حذر، وفي الشتاء خصوصاً. لكم بذل زميلنا الجامعي مصلح حمزة من جهة، ومن ضبط نفس، ليكون المتحكم في الطريق، وهو يمضي بنا بسيارة الجامعة المخصصة لذلك، وقد استحال الطويل نسبياً، ولعدة ساعات، وهو في طلوعه ونزوله، وهو في تعرجاته، وهو في منعطفاته، وهو في مباغتاته، خطاً ممتداً بين دهوك وكويه، نثرنا في متنه أحاديث شتى، من جهة الدكتورة كوثر ذات الرصيد الثقافي الفني والسينمائي جهة الخبرة، والاهتمام، وفي تقنيات التصوير، عدا تخصصها الأدبي النقدي، وفي التعامل مع الكومبيوتر، وطيب التعامل، ومن جهة الزميل، والعزيز مصلح الذي كان يأبى أن نتقدم ولو خطوات، دون أن نشغلها ببعض من مآثر أحاديث الطريق وطلاوتها، وأنا، بما تمكنت من ذلك.
وحين تدخل ” كويه ” تنزاح الطرق جانباً، وتنفتح المدينة برحابة الداخل.
لقد أنسانا الدكتور هشيار حسن ” مدير مركز ملا الكبير ” والأستاذ الجامعي، تعبَ الطريق واقعاً، وهو يستقبلنا بروح ضيافية، ونحن في ” دار الضيافة ” في قلب جامعة كويه، وحرمها، لنمضي معاً، صوب عشاء كان أكثر من كونه عشاء، وقد زاد عددنا قليلاً، حيث التقينا عند دخولنا دار الضيافة بالدكتورين ميكائيل وعبدالرزاق، ثم انضم إلينا الدكتور سالار، وهو في طلعته الجامعية، مأهولاً بحماس بحثي .
كانت ليلة وجدتْ طريقها المعبَّد بالملاحة إلى داخل الروح.
كانت ليلة، كما لو أنها أبت أن تكون ليلة كمعهودها المتوارث .
صباحاً، حيث الفطور الصباحي تمازج بإشراقة تمسحت بسلسلة جبل ” هيبة السلطان ” وانتشرت داخلاً مجدداً، وبصيغة أخرى، وتعابقت خللَ نثر الكلام، انتثرت الرغبة في كلام من نوع آخر، ليكون النهار خلاف النهار المعهود، كعادة لقاء كهذا ليس عادة.
وحين مضينا إلى الجامعة، كان لقاء البروفيسور الدكتور ولي محمود حمد. وهو يستقبلنا في مكتبه مفصحاً عن معرفة قائمة، طليقة الود، رغم أنه كان اللقاء الأول. وهو بتواضعه الأثير، والذي تفعَّل قيمة، حين رغب في صورة جامعية. وهي لحظة قائمة في الزمن بدورها .
عدة ساعات مضت، عدة دقائق مضت، على وقع هذه الانسيايية في قراءة الموضوعات، وتفاعلت الحوارات، والمصافحات القلبية غالباً، وليس ملامسة، خوفاً من سطوة كورونية .
وهكذا امتدت الحفاوة إلى جلسة الغذاء ، و…هكذا أدركنا الزمن المعلوم.
سوى أنه كان علينا، ونزولاً عند رغبة جماعية، أن نزور مديرية آثار كويه ” أو: قضاء كويه سنجق، كما يكتب اسمها هكذا في المعاملات الحكومية، رغم المعرفة التامة، أن كلمة ” قضاء ” تتكرر “، فالاسم هكذا يعني: قضاء كويه قضاء . وهي مفارقة جميلة لا تخلو من طرافة بالمقابل “. كان المكان بعلوه المكاني، والمطل على المدينة مهيباً حقاً. حيث كان ” مدفع ” الأسطى رجب ” أي ذلك الكردي الذي كان يصنع مدافع قبل أكثر من قرن، وفي راوندوز، كان المدفع هذا، يسرد حكايته، تاريخه المعدني والناري المقدر، عبر فم، ترك لسانه الداخلي جانباً، وكأن تسمَّره في المكان، وهو ممتد، ومرتفع عن الأرض قليلاً، وصوب المدينة، كأنه بذلك حكواتي زمن غابر، لكم تمنى أن يكون خلافه، وهو يشعل فينا مخيالاً ساخناً.
ولم نشأ مفارقته، إلا وله معنا أكثر من صورة، ولنا بجواره، أكثر من نفحة مصافحة بصرية واستدعاء ما كان.
وهكذا كانت ساحة المكان، المكان التليد، والوجوه التي أهلته مكاناً عامراً، ثم غادرته دون رجعة، ليبقى المكان المتخم بالأسرار.
وما أضفى على المكان سرد الروعة والخشوع وجمالية المشهد، لقاؤنا بواضع النشيد الكردي ” أي رقيب “: الشاعر دلدار: الوجه المحفور في جدار مؤهَّل لكرديته، وسيرة موجزة لتاريخه ” 1918-1948 ” وشذرة معلوماتية أخرى، ونص النشيد الكردي المحفور بخط لافت في لوحة حجرية ملساء تستحق المصافحة، كما لو أن أوردة الشاعر وشرايينه تبث حرارة كردستانه في أرجاء المكان من جهاته كافة .
وربما كانت زيارتنا للكنيسة الأقدم تاريخياً، ختام الزيارة، ونحن نتأمل صورة السيدة مريم العذراء، وهي بكامل رونقها الأمومي والقدسي بالمقابل .
وفي كل خطوة، كان هناك الممتلئان عافية روح، وخفة دم، في تعريفنا بالمكان، والتقاط الصور الأكثر صلاحية للنظر فيها، أي الدكتوران: زيرك، وسالار.. يا لصفاء قلبهما !
إيه يا أصدقاء المكان، ويا أهل المكان، ويا أحبة الحفاوة والثقافة
شكراً لكم جميعاً.
شكراً يا مركز ملا الكبير، دمت بأهلك كبيراً …
شكراً لك أيتها الـ” كويه ” ودمت وأنت بأهلك، ومن يدخلون إليك غرباء ، وهم يخرجون أحبة لاسمك وأبعد ..
ملاحظة: أعتذر للأصدقاء حيث لا تحضرنا أسماؤهم كاملة، لهذا اكتفيت بذكر الاسم الأول لكل منهم، إجمالاً، وهم يعرفون أنفسهم بالتأكيد.
مع السيد البروفيسور الدكتور ولي محمود حمد: ببذلته الرصاصية، وشعره الأشهب ” ثم من اليسار إلى اليمين ” مع حفظ الألقاب”: هشيار- إبراهيم-ميكائيل- عبدالرزاق-مصلح- كوثر- سالار 
مع الدكتور حيدر لشكري، وبطاقة شكر للمشاركة 
أمام واجهة رئاسة جامعة كويه: الأستاذ مصلح، الدكتورة كوثر وأنا
واجهة قلعة كويه المطلة على المدينة
مدفع أسطى رجب ” 1818 ” كما هو مكتوب على لوحة في الجوار، ومن في الصورة هم، ومع حفظ الألقاب طبعاً: ميكائيل- عبدالرزاق- روشان- زيرك- مصلح- كوثر ” وأنا أقتعد خشبة المدفع “
داخل غرفة تضم رفات يقال أنه صاحب كرامات، في القلعة، كما تقول الآثار.
مع تمثال الفنان الكردي طاهر توفيق شيخاني، وفي محيط القلعة الداخلي الكبير
حيث ترقد روح الشاعر دلدار، وفي الصورة د. كوثر. أ. مصلح، وأنا
في الصورة : السيدة مريم العذراء، تتقدم الكنيسة الأثرية في الداخل، وهي بطلتها البيضاء: وفي الصورة ” ومع حفظ الألقاب أيضاً “: كوثر- ميكائيل- عبدالرزاق- روشان- مصلح- إبراهيم- سالار 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…

قررت مبادرة كاتاك الشعرية في بنغلادش هذه السنة منح جائزة كاتاك الأدبية العالمية للشاعر الكردستاني حسين حبش وشعراء آخرين، وذلك “لمساهمته البارزة في الأدب العالمي إلى جانب عدد قليل من الشعراء المهمين للغاية في العالم”، كما ورد في حيثيات منحه الجائزة. وتم منح الشاعر هذه الجائزة في ملتقى المفكرين والكتاب العالميين من أجل السلام ٢٠٢٤…

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…