فراس حج محمد/ فلسطين
تعود إلى الواجهة مرّة أخرى قضيّة التطبيع الثقافي، هذه القضيّة التي لا ينتهي منها الحديث ولا التقوّل ولا الاتهام للكتّاب، واختلط فيها الحابل بالنابل، وأصبحت قضيّة غير مفهومة مطلقاً، ليس لها ضابط فكري أو ثقافي مفهومي محدد، بحيث يمكن القياس عليه أو اعتماده، فصار من السهل اتّهام الكتّاب بالتطبيع لمجرد ذكر اسم أحدهم في صحيفة “إسرائيلية” أو مجلّة أو إذاعة أو تلفزيون، وأصبح الموضوع ليس أكثر من مهزلة وعبث.
يعود التطبيع الثقافي هذه المرة بوجهٍ كالح خجول، ليس فيه مزعة لحم يداري فيها قبح وجهه، فيتمّ اتهام الكاتب التونسي كمال الرياحي بالتطبيع الثقافي لمجرد أن كاتبا إسرائيليا كتب عن رواية المشرط نقداً ونشره في صحيفة “يدعوت أحرونت”، وأعادت نشره المترجمة والشاعرة الفلسطينية ريم غنايم على صفحتها في الفيسبوك، ليقوم الرياحي بمشاركته على صفحته، وتبدأ الحملة ضده بأنه مطبع، فتقوم “الحملة التونسية لمقاطعة ومناهضة التطبيع مع الكيان الصهيوني” بتدشين حملة ضد الكاتب كمال الرياحي، وتبدأ المعركة، ليكون هناك معارضون يناصرون الرياحي، وآخرون ضده ليرجموه بحجارتهم.
لا يهمني شخصياً من كلا الفرقين غير أمر واحد فقط؛ وهو: أن الموقف كله يبيّن رخاوة المثقف العربي والكاتب العربي والمزاج العام العربي ورداءة التفكير وعقمه، وأن المواقف أصبحت كالصابون تذوب مع أول كلمة أو تنشئ فقاعاتها مع أول نافخ، وهذا ما حدث بالضبط مع البيان التعيس الذي أصدره اتحاد الكتاب الفلسطينيين واتهم فيه الرياحي بالتطبيع، لنقرأ كالعادة اللغة نفسها، والتعابير الممجوجة البلاستيكية المعلّبة نفسها، تعابير لا معنى لها ولا تظفر منها بفكرة تفيد القارئ العربي، كل ما هنالك أن الهوشة هي هي، ومنطق اللامنطق هو هو، وظهر الاتحاد في بيانه أنه لا يعلم شيئاً من أمر المسألة ولا كيف بدأت ولا هي ملابساتها، وأظنه لا يريد أن يفهم، فقط وجد موجة من التطبيل فأحبّ أن يطبّل مع المطبلين ضد إسرائيل ولا يعنيه من أمر القضية شيء آخر، فلم يتصل بالرياحي في أغلب الظن ليفهم منه، ولا بالكاتبة ريم غنايم ليتعرف على الملابسات إن كان هناك ملابسات، وإنما وجد أناسا يأزّون النار في حرم الرياحي فانضم إليهم ببلاهة ودون أدنى تفكير.
لم يحاول الاتحاد أن يناقش مناقشة هادئة وعلمية وفكرية وفلسفية يؤطر فيها مفهوم التطبيع ويضبطه، وبالتالي ضبط “الهوشة” والمعركة ضد الرياحي. أو ضد غيره من الكتّاب في المستقبل. فما الفرق بين ما فُعل مع الرياحي وبين ما يفعله كتابنا العرب والفلسطينيون من تعاون وصداقات مع الكتاب الإسرائيليين؟ بل إن الرياحي بريء مما اتهم به ووقع فيه كتاب عرب وفلسطينيون في هذا المجال “العاطفي الوجداني” من تكوين الصداقات والاعتزاز بها. بل كيف نفسر السكوت إلى درجة الرضا عن تلقي العلم في المعاهد والجامعات الصهيونية للأسرى وغير الأسرى الذين يحصلون على الدرجات العلمية من الدرجة العلمية الأولى وحتى الدكتوراه؟ لماذا لا يدخل هذا ضمن “مفهوم التطبيع الثقافي والعلمي” أم أن “الشعرة من جلد الخنزير حلال” كما يقول مثلنا الشعبي الميكافيلي؟ ماذا يقول الاتحاد عن الكتاب الأجانب غير الإسرائيليين الذين يبدون تعاطفا مع الإسرائيليين ويكوّنون صداقات معهم، وبينهم وبيننا عرباً وفلسطينيين تعاون “مشترك بناء”؟ أعتقد أن المسألة يجب أن تناقش من كل زواياها ومن محاورها كافة، وإنه لمن الغباء المطلق الباعث على السخرية البلهاء أن نتغاضى عن كل تلك الأسئلة لنرى التطبيع فقط في مقال كتب عن رواية كاتب، ونشر في صحيفة عبرية، إسرائيلية، صهيونية، أو ما شئتم من أوصاف أخرى تصنف على أنها “قذرة” سياسياً.
لقد أثبت الاتحاد، ومعه الكثير من الكتاب ومثيرو الشغب الإلكتروني، كما هو في كل مرة أنه لا يحسن التفكير ولا اتخاذ المواقف الثقافية الحاسمة التي يصان فيها حق الكاتب العربي وسمعته، بل أضاف من هشيمه هشيما على النار فأججها دون طائل، كما فعل مسبقا في قضية درويش وبركات، وها هو يقول بالحماقة ذاتها، ما جعل الاتحاد يبدو “تافهاً” ومجرد “ناعق” لا يدري ماذا يقول، “يقول ما قيل له كما يقول الببغا”!
إنّ ما يعنيني بالدرجة الأولى هو ضبط مفهوم التطبيع، وألا يظل يكتنفه الغموض والهلامية والتقولب، واللعب به حسب الأمزجة والأدمغة الفارغة، فيرى الاتحاد مثلا أن استضافة كتاب عرب في فلسطين من أجل الندوات والمؤتمرات والمهرجانات ليس تطبيعاً، بل هو من صلب العمل الثقافي المقاوم والداعم للقضية الفلسطينية، في حين يرى أن التطبيع عينه عند نشر مقال نقدي في صحيفة “صهيونية” عن رواية كاتب عربي دون أن يطلب أو يسعى.
والسؤال الآخر الموجه للاتحاد كيف يبرر الاتحاد نشر الكتاب الفلسطينيين لإنتاجهم الأدبي ومقالاتهم وترجماتهم في الصحف والمجلات العبرية؟ والأسماء كثيرة وهو يعرفها، وهم أصدقاء فيسبكيون لنا جميعا بدءا من الأمين العام حتى الأعضاء المناصرين، ويرى ما ينشرون على صفحاتهم من تعاون وثيق مع المؤسسة الثقافية الإسرائيلية الصهيونية بشتى اتجاهاتها ومنابرها، لكنه يتغاضى عنها، لأنه وببساطة لم يقم أحد بإشعال نار ليرقص الأحمقون حولها، فهو لم يرقص إذاً، فالاتحاد دائما ينتظر مشعلي الحرائق، ليقوم بدسّ يده مع المشعلين ويرقص مع الراقصين، أمّا أن يكون مبادراً صاحب موقف ثابت علمي لا يخضع للمتغيرات فهذا أمر لم نعهده في الاتحاد منذ أن عرفته أنا على الأقل وأصبحتُ فيه عضواً.
بل كيف يقيّم الاتحاد مواقف كل من الأدباء الراحلين في علاقتهم مع الإسرائليين بدءا بإميل حبيبي الذي قبل بجائزة الدولة، ومحمود درويش الذي ترجمت أعماله إلى العبرية، وكان له صداقات مع كتاب إسرائيليين ونشر لكثيرين منهم في مجلته “الكرمل” على امتداد رقعتها الجغرافية والزمنية من بيروت لنقوسيا وصولا إلى رام الله، منذ 1980 وحتى آخر عدد من أعدادها؟
أظن أن الوقت قد حان ليرى الاتحاد والمثقف الفلسطيني والعربي عموماً المسألة بشمول أكبر وبعقل أكثر وعياً وإنصافاً وألا تقوم المواقف على الاجتزاء والاستغباء والاستحمار وأن تتمّ المراجعة الشاملة لكل تلك المواقف لوضع النقاط على الحروف وتصبح المسألة ذات أبعاد محددة مفهوميا أوّلا ليعرف الكتاب أن الأرضية التي سيقفون عليها هي أرضية صلبة، وليست أرضية معرضة للانهيار في أي لحظة. آمل من اتحاد الكتاب الفلسطينيين أن يكون أكثر وعياً وإدراكاً في المرات القادمة لأن المسألة لن تقف عند كمال الرياحي بطبيعة الحال.