إبراهيم اليوسف
بعد حوالي إرث من سبعة كتب متوزعة في مجالات تنوس بين: الشعر والسرد، وأحدها مشترك مع شاعر آخر، يأتي العمل السردي المعنون ب” بهارات هندو-أوربية للشاعر الكردي المقيم في السويد محمد عفيف الحسيني، والذي صدر عن دارهن elles- القاهرة 2020 في 514 صفحة من القطع الكبير، وبطباعة جد أنيقة . يهدي الحسيني عمله الجديد إلى أبويه: الشيخ عفيف الحسيني والشيخة بدرية الحسيني. ثم يشيرفي استهلالة الكتاب إلى أن نصوصه كتبت على مدار عشر سنوات، على أرض: السويد وكردستان. ثمة إضاءة أولى يفتتح به الحسيني عمل السردي هذا وهو” أنا سليل شرفخان بدليسي. وسليل جيل شعري ضائع”، إلا أنه ة في الصفحة الأولى من الكتاب يعرف نفسه، على نحو أوضح، وأقرب إلى بطاقته الشخصية، بل وبعيداً عنها، أيضاً، قائلاً: محمد عفيف الحسيني. مواليد عامودا 1957، والنزيف منها عام 1987 إلى السويد.
مزيج من الهجرة والفقدان: مزيج الدين القديم والشعر الحديث: أشعر أحياناً بأنني الابن الوحيد للسيد الكبير” شرفخان بدليسي” وحيناً الأب الصغير للشعرالكردي. ويتابع قائلاً: أنتمي إلى جيل شعري ضائع: كتبنا بالعربية عن قيامة الكرد. وبقيت روحي دائماً، تلتفت لأن أستطيع الكتابة بلغتي. لكن، لم أفعل حتى الآن، لأنني أخاف أن تأخذني اللغة الكردية إلى تخوم لا أجيدها. بدأت الكتابة. منذ حوالي العقدين، ووجدت أن الكتابة بالنسبة لي، هي المنقذ من ضلالة التعريب. والحياة. القسوة لأهل عامودا. ثم يتباهى بمنجزه، ولسان حاله” لم أكتب لأحد اسمي في قدرالركاكة السريعة، كتبت لأعرف نفسي أولاً، ولأعرف معنى بسيطاً، لسؤال بسيط: في أي مكان سافرش لضيوفي، ضيوف القدر، ما أظنه الجديربالكتابة؟”
ولأن البجكتور الاستهلالي، في مقدمة العمارة التي أشادها الشاعرالحسيني جد مهمة، لتأخذ بيدي القارىء، إلى مداخلها، ودواخلها، و لتعطي مفاتيح –أكثر- لمقاربة عوالم هذا العمل السردي الذي ارتآه سيرة. سيرة مختلفة، عن السيرالتقليدية المألوفة،كما يريد، شكلاً ولغة وعوالم، فإنه لاغنى البتة عن متابعة أطراف هذه الإضاءة التمهيدية التي تمتد حوالي أربع صفحات، يضع خلالها مداميك شخصيته عبر لبنات اللغة التي يشاء أن يستخدمها على نحو خاص، كما كان يفعل في قصيدته منذ بداياته الشعرية، وليس أدل على هذا الكلام من أنه سمى الهجرة نزيفاً- في مفهوم انزياحي- وإن كانت هذه المفردة/ المصطلح، معروفة، في عالم الفكر، والبحوث، إلا إن توظيفها هنا جاء، ليمنح شهادة تعريفه بذاته بعداً آخر، كما ارتآه. ومما جاء في هذه الإضاءة من ألوان:
ولدت في بيئة خليطة من أعراق الكتابة والدين والذاكرة للغات. وجدت نفسي ملموماً بين شيئين: الكتب والفقر: الكتب هي التوابل اليومية للذاكرة، والفقر هو توابل الطفولة الشقية التي منعتنا من الإحساس الباذخ بمعنى هذه الكتب. أينما انتقلت من منازل الأهلين، كانت الكتب هي التي تفور من الجدران: الكتب التي كان الفانتازي الأرجنتيني” بورخيس” يتحدث عنها، وهو في عماه البصير، الولادة، ثم الحبو، ثم أن تجد نفسك، فجأة في حضرة الأقطاب: الملا جزيري. المتنبي” الفاشي العربي الكلاسيكي” ابن الفارض. المتون التي لاتنتهي لكتب تدون السيرة الأليمة للكتابة. في الوسط الذي عجت به الكتب، وعلى مبعدة القليل دياربكر. ثم يواصل الحديث عن مهاد العائلة في- آمد- والشيخ بافي كال، والجد الشيخ محمدي موزا- الذي لم يقبل بأموال الدنيا، شأن كبار المتصوفة ورجال الدين ممن رأوا أو لما يزل بعضهم يرى في المال- وسخ الأيدي- ولابد من التطهرمنها، والعيش على الكفاف، ومن دون أن ينسى ريق كتب الجد في طوشا عامودا، أو حريق عامودا في العام 1936، ولايفتأ يتحدث عن بيت العائلة، بعد أن توزع أبناء الشيخ الكبير، ليكون والده العلامة المعروف أميناً على ثروة العائلة، وهي: كنوز الأرض وما تبقى من الكتب وسيرة الأجداد، من دون أن ينسى التصريح بالحديث عن شغبه الذي بدأ مع أول طفولته” كنا نحفر أرض الحوش، لنخفي فيها مواردنا الطفولية الممنوعة: صور الممثلات والدحاحل، والشجن الطفولي المراهق. نحفر مقدار شبرين، فتخرج مقدار شبرين من مصكوكات جدي الحريق. الكتب. الأغلفة الجلدية المزينة. الأوراق. ليس من أوراق، بل الصحائف الحريق. أرسلت لي الأقدار الأرضية ، بيئة، ربما لم أكن أريد أن أكون فيها، كنت أريد أن أكون نجارا، وليس كاتبا: لكن الأقدار في العائلة، جعلت من مسار منشاري وقلمي الرصاص العريض، المركون على أذني اليسرى” ص 12، ثم يشير بجرأة إلى حالة الفقرالتي عاشها، في بداياته تلك، لاسيما إأنه أهمل- النجارة- وعمل في عالم الكتب، شأن كل من كان خياره على هذا النحو، ليدفع الضريبة الكبرى. إنها الضريبة التي اختارها من قبله جدوده، ومن ثم أبوه، العالم الشهير، في أربع جهات مكانه!
لاينسى الحسيني مهاده الأول: عامودا. مربع طفولته وصباه فتوته وشبابه، وحبه الأول، وأول أبجدية القراءة، بل أول لثغات الحبر، والحبو، ودائرة المجايلين، ومحطة المغامرات الأولى، وهو يخرج الاسم بعيدا عن ظلال شجرة الجدود، باتجاه فضاءات أخرى: المدينة القريبة” قامشلي” أو”حلب” حيث عنوان دراسته، ومن ثم- مملكة السويد” التي لاذ بها بعد أن ضنَّت سجلات قبول المدرسين باسمه- وهوالعارف بشؤون عجائن اللغة التي جذبته- وأبعد عن تدابير تلقين الأجيال بما لديه من أصداء أسرار لها، التقطها منذ أول دوي اسم جده، فأنفاس أبيه- معلمه الأول- ومن ثم مدارس عامودا التي تمردت على كتاتيبها الأولى، قبل أن تنحو بعيداً عما يليق بها من مصائر ومسارات” أريد أن أعرف الظاهر من الوجود، أريد أن أعرف كيف سأبدأ بحياة تلك الحجرة القديمة، التي انذهلت فيها، وشردت فيها، وأنا أسمع رخامة الأصوات الكردية، بدفوفها. دفوف الشجن والريحان والتصوف والتأويل والذبح والوله والجفاف المتراكم على جلود المغنين. العازفين الفقهاء الشدو. في حجرة الشيخ، لم أبحث عن أي شيء. ولم أفقد فيها أي شيؤ، لكنني فقدتها أبداً: يقينا هي مثل كتبي القديمة. كتب الحياة. ستظل بأثرها الكتوم تدون معي، ما أريد نقله من الحياة إلى الكتابة، ومن الكتابة إلى الحلم. ومن الحنين إلى المنفى”
وباعتبار المنفى جزءاً من سيرة الشاعرالحسيني، فهو يتناول تفاصيل هذه المحطة الجديدة التي أبعدته عن مسرح الجدود القريب، في براري عامودا، المتواشجة، مع مسرح آخر، غير بعيد في ذاكرة أرومة الشجرة، موزعة الفروع، وما أشبه منفى اللحظة. منفى الحفيد بمنفى الجد والأب، لنكون أمام سلسلة مناف في السيرة، أحدها أقسى من الآخر، بل إن أحدثها أكثر دحرجة لمصائر البنين في أغوار محوالملامح، وإن كان الشاعر يتشبث بكرديته، في حدود خطوط ظلالها، أثراً أثراً، بعيداً عن الغوص في معجم لغتها، شأن جيل، بل أجيال متتالية، ما يدعه ليرى في المنفى سليل المحو، لاسيما في دركه الجديد، وهو يستشعر مدى هول ما هوخارج قبضة يده، من زمن لم يفتح ممراته بعد:
أنا منفي عن تلك الحجرة:” الوقت، البعث، البطالة، النزيف من الحجرة إلى حضرة أصحاب العيون الشقر الجميلين الرائعين الخجولين” السويديين” الذين جعلوا حياتي أكثر متعة في الكتابة والحياة والحنين أيضاً إلى بواطن الحياة في عامودا القديمة”. ثمة نوستالجيا تدفع به دفعاً إلى الأمكنة الأولى، وما كتابته لعمل مشترك مع” أحمد الحسيني”، كما يقول، هو بالعربية وشريكه: ابن العم، بالكردية، إلا لأنهما يتقاسمان: الواقع، في لحظته. كل يكمل الآخر، في رؤى، أو جماليات، أو تقنيات، معرجاً على كيفية اعتصاره روح النص، ليقدم لنا ذاته: الناقد. ناقد الذات. ناقد التجربة الذي لم يقبل الاستسهال، وأتلف الكثير، وأبان القليل. أبان العصارة التي رآها مستوفية ما في مخيلته من شروط لنص شعري يمثل كل منهما الآخر، وكأني به يقول مامعناه: لكل شاعر قصيدتان، أو قصائد، واحدة منها، أو أكثر بقليل، نتاج اشتغال ذاته في تجليها الإبداعي، وثمة ما ينبغي إتلافه، ليلحق بمحرقة كتب الجد في عاموداه!
عود على بدء:
بعد انتهائي من قراءة هذا السفر الكتابي، مترامي الأطراف- لغة ولوحات- وجدت أنه لايمكن لأي مقال أن يحيط به، من جهة شساعة محيطاته، وما يتواى وراء ملامحها، لأن الكاتب وفق في تسمية الشريط اللغوي لكتابه ب” بهارات” وإن كانت صفتها- موطنها” هند أوربية”، ليعيد النص إلى المكان، منطلقاً من التفاصيل التي تشكل أعمدة الهرم النصوصي، باعتبار الكتاب جمع بين فنون كثيرة، في إطار سيروي، وإن كنا لنجد الزخارف الزراكش والأكسسوارات والفنتازيات التي تظهرملامح الناص بينها، في حالات كثيرة، بحيث يكون العمود الفِقري، أو الخيط الجامع لخرزات متون الكتاب، بعيداً عن التصاعدية التي أومضت تحت هيمنة الأضواء الافتتاحية- كما أسميناها- لتتناثر شذراتها، وخيوطها، وإشعاعاتها، وعتماتها، وظلالها، عبرجغرافيا الكتاب المتناثرة. إنها الكتابة الحرة، التي يمضي الناص في الجهات كلها، قبل أن يفطن إلى تفاصيله السيروية، ولأقل: المذكراتية، وحتى المقالية، بما يكاد يتاخم رواية هو بطلها الرئيس!
من هنا، فإنني ارتأيت، أن أتناول الكتاب، خلال هذه الوقفة. من خلال “مقدمته” من خلال الصفحات الأربع الاستهلالية، من خلال مقاربة عتباته، وإن كنت سأعترف، بأن الاستغراق أمام العتبات، أوفيها، ليتطلبان أصلاً، اللجوء إلى عدة أخرى، قد تتلاغى اشتغالاتها مع هذه: الإضاءة على الإضاءة التي توخيتها، باعتبار الكتاب، ليحتاج إلى قراءات متعددة، متوسعة، تتناول- تجنيسه- لغته- شعريته- سرديته- عوالمه- حضور الذات، وظلال الآباء والجدود، والأمكنة، وحتى الرؤى. بل حتى المواقف السياسية، والتجليات الجمالية، وهوما يستوجب المزيد من الأناة المتوخاة، والمتنافية، مع مهمة العرض التعريفي الذي أردته، في هذا المقام، بعيداً عن أي حكم قيمة، لنص سردي بملامح جغرافية كلها جدير بالتعمق، والموقف النقدي التقويمي الذي هو ليس في الحسبان، هنا.