قراءة في رواية «ماذا وراء هذه الجدران» لـ راتب شعبو

بسام مرعي  

((أخذك السجن وختم على نفسك خرجت منه، فهل يخرج هو منك ؟)) 
د. راتب شعبو
السجن؟ وماأدرانا ما السجن وما أعظم جهلنا به، إلا حينما يختم علينا ختمه المنقوش والمسكوك على جدران الروح والعقل والقلب، ويدق كالمسمار الغاضب في جدران الذاكرة،   وبعد الخروج منه يبقى السؤال أن خرجنا منه هل بالإمكان أن يخرج هو منّا ؟
مابين جدران الروح والقلب والعقل وجدران سجون الاسد، فظائعٌ من الصعوبة محوها وإزالة أثارها، تلك السجون تحمل ورائها ممارسات وملفات ذل وهوان، بحاجة إلى أطنان من الكتب والكتابة، لنبش حقبة سوداء مازالت مستمرة …
 راتب شعبو الطبيب السوري الذي قضى  16سنة و3 أيام  من عمره في سجون الأسد، متنقلاً بينها مقارناً فاضحاً واصفاً بكل مايكتوي فؤاده من ألم ومرارة، راسماً من خلال روايته المعنونة ب /ماذا وراء هذه الجدران / ربيع النظام  السوري وربيع جلاديه وحنكتهم في الصناعة، صناعة الألم في السجون السورية، هذه السجون التي تحاول فيها آلة الأستبداد، تقزيم وتشويه الإنسان السوري وحيونته كما قال ممدوح عدوان ،  يبدأها بأدوات النظام اللفظية التي تكون كمدحلة على القلب إلى كل أشكال التعذيب اللا أنسانية التي يبتكرها هذا النظام ويتفنن في إبداعها ٠
جذبني الكاتب بوضوحِ جمله الموجهة بشكل مباشر، وكأنه يقول أن أدب السجن رسالةٌ صريحةٌ ملفوفةٌ بالعذاب ومكثفة بالمعاني، ولاتحتاج لعلوم البيان والتبيبن ليفهم القارىء فحوى الرسالة، أنه توثيق صادق لحقبة سوداء مخيفة لنظام الاستبداد.  
(فالخوف ينمو في دمنا كالفطر، نخشى النظر في عيون بعضنا البعض)
مقارباتٌ كثيرةٌ يبدعها الكاتب، ومصطلحات  جديدة في اللغة  تفرضها طبيعة السجون السورية، فالحفر عميقاً في القبر، يشبه دخول الزنزانة، ومن ثم يبدأ الحفر الأعمق ألا وهو الحفر في النفس الإنسانية، إنه هبوط على سلالم الخوف والظلام، هبوط من علوٍ شاهقٍ إلى العالم السفلي حيث الأرض الصلدة الصلبة، حيث الحضيض وقاع الحياة وحيث المعاناة الإنسانية الأكثر سوداوية،  أنه عالمٌ ملتهبٌ بالعذاب .
سنوات طويلة مابين سجن كركون الشيخ حسن وعدرا وسجن تدمر الاكثر تدميراً 
(( فائض هائل من الزمن، فائض يخنقك ولاتوجد مصارف له فيتراكم على مسالك روحك…))
سجناء تدمر الأكثر عذاباً، لأنهم يعيشون مربع البؤس، البرد والجوع والخوف والإهانة 
  تدمر السجن، تدمر الليالي الباردة وحفلات الدواليب و الذل  إنه استدمار وتدمير بكل ماتحمله الكلمة في طياتها من معنى٠
 أن  تصبح حالة مازوشية مقابل حالة سادية مفروضة  وملازمة لها، فلا سادية بدون مازوشية٠
أن تسحق ذاتك أمام الطغيان، أن تكون ضحية أمام وحشٍ هائجٍ لاتعرف حتى سبب هذا الحقد البشري وهذا الوحش الكامن فيه حيث يفقد الأنسان كل آدميته . 
 هنا ينتقل أيضاً الكاتب إلى مفاهيم أخرى إلا وهو  الاستحباس وهو شيء مختلف عن الاستدمار، هو استسلام للسجن وهو تقبل السجن  والتطور داخل هذه القوقعة  ومقاومة الفعل التدميري عبر نسيانه، تفاصيلٌ صغيرةٌ وعديدةٌ يسردها الكاتب  من خلال ذاكرة مسكوكة على طول فترة السجن لكي تعيشها مع الكاتب ولاشك أن الذي تلسعه الكرابيج، ليس كمن يقرأها أو يسمعها، فانت تذرف دمعة عصية، وهو يفاقم الحالة المتدرجة من  الصراخ إلى البكاء ليتحول إلى بكاء طفولي، و يتحول إلى جثة هامدة فاقدة للوعي بكل شيء، إنها  رواية منسوجة بإتقان الإنسان الفاقد لكل مايربطه بالحياة، ولكنها في الوقت ذاته ولادة من نوع أخر، من رحم أقبية الظلام ضمن جدران صماء باردة ، أو ظلام الروح بعد الخروج من السجن . 
 هي الكتابةُ صعودٌ من نوع آخر نحو فضاءات أكثر حرية، وعزاء نفسي مقابل ذلك الهبوط المدوي والصادم . 
والرواية من جانب آخر ، توثيق إنساني هام لحجم الألم، وتفاصيل العذابات النفسية والجسدية لطبيب قضى أجمل سنوات شبابه متنقلاً بين السجون، وربما اقساها السنوات الثلاثة الأخيرة في سجن تدمر، حيث الألم ينطق الحجر والذل يقتل إرادة الحياة ، وسيكولوجية الإنسان المقهور المعذب المقهور تحيل السجين لكاتب بشكل أو بأخر، يكفي أن يغمض عينيه ويسرد تلك التفاصيل الصغيرة في انتهاك حرمة وقدسية الحرية والحياة، في مكان ضيق جداً ضد الإرادة وضد الكرامة٠
هذا الطبيب لم يقرر أن يصبح كاتباً، بل رنين الوجع في ذاكرته، نخر البرد في مفاصله، رعشة أصابعه القابضة على أسوار زنزانات منفردة وجماعية، الدمعة وهو يترجى مايسد  به جوعه، إنها مواده وأدواته التي حاك لنا بها هذه المادة الأدبية في قالب روائي مميز أمتعنا بقدر ما أوجعنا 
3/3/2021
اربيل

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

دريس سالم

 

«إلى تلك المرأة،

التي تُلقّبُني بربيع القلب..

إلى الذين رحلوا عني

كيف تمكّنْتُ أنا أيضاً على الهروب

لا أريدُ سوى أن أرحلَ من نفسي…».

يفتتح الشاعر الكوردي، ميران أحمد، كتابه «طابق عُلويّ»، بإهداء مليء بالحميمية، ملطّخ بالفَقد، يفتتحه من قلب الفَقد، لا من عتبة الحبّ، يخاطب فيه امرأة منحته الحبّ والحياة، لقّبته «ربيع القلب». لكن ما يُروى ليس نشوة…

علي شمدين

المقدمة:

لقد تعرفت على الكاتب حليم يوسف أول مرّة في أواخر التسعينات من القرن المنصرم، وذلك خلال مشاركته في الندوات الثقافية الشهرية التي كنا نقيمها في الإعلام المركزي للحزب الديمقراطي التقدمي الكردي في سوريا، داخل قبو أرضي بحي الآشورية بمدينة القامشلي باسم ندوة (المثقف التقدمي)، والتي كانت تحضره نخبة من مثقفي الجزيرة وكتابها ومن مختلف…

تنكزار ماريني

 

فرانز كافكا، أحد أكثر الكتّاب تأثيرًا في القرن العشرين، وُلِد في 3 يوليو 1883 في براغ وتوفي في 3 يونيو 1924. يُعرف بقصصه السريالية وغالبًا ما تكون كئيبة، التي تسلط الضوء على موضوعات مركزية مثل الاغتراب والهوية وعبثية الوجود. ومن المميز في أعمال كافكا، النظرة المعقدة والمتعددة الأوجه للعلاقات بين الرجال والنساء.

ظروف كافكا الشخصية…

إبراهيم اليوسف

مجموعة “طائر في الجهة الأخرى” للشاعرة فاتن حمودي، الصادرة عن “رياض الريس للكتب والنشر، بيروت”، في طبعتها الأولى، أبريل 2025، في 150 صفحة، ليست مجرّد نصوص شعرية، بل خريطة اضطراب لغويّ تُشكّل الذات من شظايا الغياب. التجربة لدى الشاعرة لا تُقدَّم ضمن صور متماسكة، بل تُقطّع في بنية كولاجية، يُعاد ترتيبها عبر مجازٍ يشبه…