الغزوة الخائبة 2

د آلان كيكاني

الجزء الثاني:
وعلى هذا الأساس اتفقنا أنا وزكريا، وأحكمنا بناء فخاخنا للقادمين، وانتظرناهم بفارغ الصبر حتى يقعوا فيها. كان المجند شبلي يعرج، ولهذا تأخروا في الوصول قليلاً. ولما باتوا على بعد أمتار قليلة منّا، بدأوا بالهرج والمرج وهم ينظرون إلينا ويضحكون في محاولة منهم لإضفاء جوّ من البهجة على حضورهم، كما اعتادوا أن يفعلوا في كل مرة يزوروننا فيها جماعياً في المستوصف. ولكنني تظاهرت بالجدّ والحنق، ولم أتفاعل معهم، واقتدى بي زكريا، وعبس وجهه. فتسرب شيء من القلق إلى نفوسهم، وخفتت عقائرهم. 
وقبل أن يلقوا التحية، أمرتهم بلهجة لا تخلو من القسوة أن يصطفّوا بصمت في رتل أحادي، فنفذوا الأمر مستغربين ممتقعي الوجوه، إذ كانت المرة الأولى التي اتحدث فيها معهم بهذه الطريقة الفظة رغم مرور ستة أشهر على احتكاكي اليومي بهم. دنوت منهم بوجه مكفهر وسألتهم بصوت عال:
“ماذا كنتم تفعلون في الحفرة مع تلك البهيمة أيها المجندون؟”. 
وكأني، بسؤالي هذا، لقمت سلاحاً وسددت فوهته إلى رؤوسهم، فانتصبت الهامات دون حراك في خط مستقيم، وانقلبت الوجوه، وانقبضت النفوس، وعقدت الألسن، وشحبت الجلود، وتشابكت الأيادي خلف الظهور، وبعد برهة ساد فيها السكون تابعت بنبرة أعلى:
“اسمعوني جيداً. ليس أمامكم سوى طريقين لا ثالث لهما: فإما الاعتراف والنجاة، وإما الإنكار وما يعقبه من عار، وفضيحة، وجزّ للشعور، وزجّ في السجون، وربما إحالة المسألة إلى القضاء العسكري. وأنتم تعرفون أكثر مني ماذا يعني القضاء العسكري”.
طأطأ السبعة رؤوسهم حتى استقرت عيونهم على الأرض، وارتعدت أوصالهم، وتجمعت على جباههم وأعناقهم قطرات غزيرة من العرق ما لبثت أن اجتمعت وراحت تقطر من أنوفهم وذقونهم، وتسقط على نعالهم، دون أن يبادر أحد منهم بالرد على سؤالي. وهنا انبرى زكريا، ومارس هو الآخر سلطته، باعتباره صف ضابط، برتبة رقيب، وقال لهم بلهجة حادة: 
“الأولى بكم أن تجيبوا على سؤال سيادة الملازم الطبيب، أيها المجندون، وإلا لا تلوموا إلا أنفسكم، وأنتم تعرفون جيداً أن سيادته لا يحب أن يؤذي أحداً. ولكن للضرورة أحكام، وما أقدمتم عليه لا يجوز السكوت عنه أبداً. فإذا بقيتم على صمتكم، فإنه بدوره مضطر إلى ممارسة صلاحياته، وإنزال أقصى العقوبات بكم”.
 مرة أخرى ران الصمت.
“اسمعوني جيداً أيها المجندون”. صحتُ. “ما يقوله الرقيب زكريا صحيح. ما فعلتموه اليوم لا ينبغي السكوت عنه أبداً، وهو جرم يعاقب عليه القانون العسكري، وإن اعترافكم الآن هو التصرف الوحيد الذي قد يشفع لكم ويحيل دون تحويل القضية إلى الجهات المعنية”. 
لاحظت المجند بشير يحاول إخفاء الكيس الأبيض الكبير عني، زمجرت أتوعده بغضب: 
“لماذا تحمل في يدك هذا الكيس أيها المجند بشير؟ لأي غرض استخدمته؟ هيا أجبني، وإلا اتبعني إلى القيادة”. 
ثم التفتُّ إلى جلال وصرخت بانفعال:
“وأنت أيها المسؤول عن المطبخ. قل لي، كم من الخس والملفوف والبصل والبقدونس والسبانخ وصلت إليكم أمس، وأين هي الآن؟”.
عند سؤالي هذا لاحظت هيئات المجندين وسيماءاتهم قد انشرحت قليلاً وتلاشى عنها الغم. وراحت الأيدي تتحرك، وتمسح العرق عن الوجوه، وكأنها كانت في حالة من الشلل، وفجأةً زال عنها الخَدَر واستعادت قدرتها على الحركة. وما كان ذلك إلا لأنهم توهموا أن القضية تحولت من اتهام باغتصاب الحمارة، وهي الشائنة التي يخشون من التوسّم بها، إلى قضية اختلاس بضع خسات. وتمتم جلال يرد على سؤالي بصوت خافت ومتقطع: 
“هي موجودة في المطبخ، سيدي الملازم الطبيب. أؤكد لك أن كل ما استلمناه من الموزع أمس لايزال في مكانه ولم يلمسه أحد”.
وكانت هذه أول مرة ينعتني فيها بـــ (سيدي الملازم الطبيب)، إذ درج، كما كل المجندين في المطار، على مناداتي بــ (الدكتور) دون أية إضافة، ودون أي اعتبار لرتبتي العسكرية. صحت به وقلت:
“لا تكذب يا جلال، إن كذبكم وعنادكم يدفعني حقاً إلى الجنون. لقد رأيتكم بأم عيني من سطح المستوصف كيف تقدمون رؤوس الخس والملفوف، وربطات السبانخ والبقدونس، وحزم البصل، للحيوان لغايات دنيئة في أنفسكم”.
فرد جلال، وقد أدرك أن النجاة بات مستحيلاً، وقال: 
“قدمنا له ما فسد وتراكم عليه العفن، من الدفعة الماضية من الخس والبقدونس والملفوف والبصل، سيدي الملازم، ولكنه امتنع عن تناولها وهرب، لأن رائحتها كانت كريهة إلى درجة أنه لم يتحملها. أما الدفعة التي استلمناها أمس فلا زالت في مكانها. وإذا كنت تشك في الأمر، فها هو المطبخ أمامنا، وما عليك إلا أن ترافقنا إليه لنجري جرداً للخضار أمام عينيك، ونقارن الكمية المتوفرة الآن، مع الكمية التي استلمناها البارحة من الموزع بموجب فاتورة موقعة وممهورة من الجهات المعنية لترى إذا ما كنا صادقين أم أننا نكذب عليك”.
“هلمّوا إذن إلى الجرد”.
قلت هذا بعصبية، ملوحاً بيدي بعنف. وسرنا جماعة باتجاه المطبخ. 
والحق أن الرجال السبعة لم يكونوا يتوقعون هذا الإصرار، وهذا العناد مني. بل كانوا يحسبون أن ادعاءاتهم ستنطلي عليّ بسهولة، وأنا الذي عرفوني خلال الأشهر الماضية أغض الطرف عن كثير من هناتهم، وأسعى إلى ستر عيوبهم ومثالبهم قدر ما أستطيع. أو أنهم كانوا يحسبون أنني سأترفع عن طلب إجراء الجرد لرؤوس الخس والملفوف، وحزم البصل والبقدونس، وربطات السبانخ، لما يعرفونه عن التربة الريفية التي ترعرعتُ فيها، والتي تفرض على المرء التنزه عن صغائر الأمور. ولكنهم سرعان ما خاب ظنهم واكتشفوا، أنهم بطرحهم لمسألة الجرد، قد ورطوا أنفسهم وأدخلوها في متاهة لا يعرفون كيف يخرجون منها. ولهذا عندما اتجهنا نحو المطبخ، لاحظت عليهم أمارات التردد والتذمر، وكأنهم يساقون إلى معركة لم يحسبوا لها الحساب أو يعدّوا لها العدة. وما كدنا نخطو عدة خطوات حتى انبرى جلال وقال:
“نسيت أن أقول لك سيدي الملازم الطبيب، أننا في الليلة الماضية أكلنا، نحن وجماعة المستودع وجماعة الأرصاد الجوية، كمية من الخس….”.
وقبل أن يكمل كلامه قاطعه شبلي وقال:
“وأمس مساءً، يا سيدي الملازم الطبيب. حضر أحد السائقين من قيادة السرب يطلب بعض الخس والبقدونس والبصل، فأعطيناه كمية كبيرة منها. قال إن السادة الضباط المناوبين في سهرة مع الكأس، ويطلبون من الخدم إحضار طبق من السلطة لهم”.
فرد جلال وقال:
“أي والله، لا أدري كيف غاب هذا عن بالي. يبدو أن سيادة الملازم الطبيب أربكنا قليلاً، حتى نسينا أن نذكر له هذا الخبر”.
وتنحنح زهير، ثم تقدم وقال لجلال:
“لا تنس أن سيادة النقيب أحمد، هو الآخر، زارنا أمس ودخل المطبخ عندما كنتَ في مشوار، ولم يخرج منه إلا وكانت كفتي الخُرج على متن دراجته مليئتين”.
وهكذا جرى التحضير شيئاً فشيئاً لكشف حقيقة خلو المطبخ من الخضار ذات الأوراق الخضراء، والتي يشترك البشر مع البهائم في تناولها نيئة. ورويداً رويداً مهد الرجال السبعة الوسيلة للتغطية على كذبتهم بأكاذيب أخرى، وحاولوا ستر عوراتهم بنسيج من خيوط العنكبوت. كل هذا وأنا صامت لا أنبس بحرف، ووجهي مقطب وعابس، ويداي ترتجفان، وكأنني في ثورة غضب حقيقي، أو في انفعال شديد لا لبس فيه ولا تمثيل. وقبل أن نصل إلى باب المطبخ، لاحظت أن الهمّ جثم على صدورهم، وتجهمت وجوههم، وانقبضت نفوسهم، وعادت قطرات العرق تقطر من أنوفهم، وتباطأت حركاتهم حتى بدا كل واحد منهم يحتاج إلى من يدفعه حتى يستمر في السير. في هذه اللحظة أمعن زكريا النظر في وجوههم المكفهرة، وتفحص هيئاتهم المضحكة، ولاحظ ستراتهم المنضوحة بالعرق، فلم يتمالك نفسه، وفجأة أطلق قهقهة مدوية. ولم أستطع بدوري الصمود في التظاهر بالجد أكثر من هذا، وانفجرت ضاحكاً، وزال العبوس المصطنع عن وجهي. وانفرط رتل العساكر، وانفكت أسارير وجوههم، وتقدموا نحوي، وضحكوا، وضحكوا. على أن فرحة النجاة من الفضيحة هي التي كانت وراء بهجتهم العارمة، وليست هزلية الموقف، كما يخطر في البال. وبعد أن هدأت موجة الضحك، اقترب المجند جلال مني، وقال وهو يجعل من يديه كمن يمسك ببطيخة كبيرة: 
“هكذا كان حجم خصيتيه، يا دكتور”.
ثم ضرب كفاً بكف واستطرد:
“كنا نترصده منذ أسبوع ونحسبه أنثى… يا لخيبتنا… ويا لإحباطنا!”.
“خسارة ما بعدها خسارة”. قال زكرياً متشفياً منهم، ثم تابع: 
“أقسم أنكم تستحقون الشفقة والرثاء… يا لكم من مساكين، دفعتم المهر كيساً من البصل، دون أن تحظوا بالعروس الجميلة، ذات الوجه الأبيض، والتقاطيع الناعمة، والعيون الكحلاء، والأذنين الصغيرتين الرقيقتين رقة ورق السجائر، والشفتين الناتئتين المثيرتين، والخصر النحيل، والقامة الممشوقة، والأرداف المكتنزة، والقوائم الأربع الملساء المصقولة وكأنها من المرمر! والله لو كنتم مثل عشاق سالف الزمان، ولو كان فيكم شيءٌ من الإحساس، لكنتم انتحرتم بدلاً من ضحككم السخيف هذا”.
“والله كنا سنعيد المهر معنا إلى المطبخ لولا أن الحقير راث عليه، وعفسه بحوافره، قبل أن يفلت منا ويولي الأدبار”. رد جلال.
وعلق زكريا مرة أخرة قائلاً:
“يبدو أنكم اختلفتم حول من سيكون البادئ، وتضاربتم، واستغل الحيوان المسكين خلافكم هذا، ونجا بنفسه من شروركم وغاياتكم الشيطانية الدنيئة. ليته فجر رؤوسكم بحوافره القاسية، لكنا تخلصنا منكم، ومن قذاراتكم أيها الأرذال”. 
ثم تابع قائلاً بعد فاصل من الضحك:
“لقد رأيناكم، أنا وسيادة الملازم الطبيب، بالمنظار من سطح المستوصف. ورأينا كل حركة قمتم بها. وشاهدنا كيف يمد جلالٌ فمه إلى ثدييّ الحيوان ليداعبهما بشفتيه، وكيف اصطدم وجهه بخصيتيه الكبيرتين”.
وتعالى صوت الضحك. وانقضّ جلالٌ على زكريا. واحتمى زكريا بي. وجرت مطاردة عنيفة حولي حتى التحم الصديقان ببعضهما. ونشبت معركة ودية بينهما، سقط في خضمها الأثنان على الأرض وتعفرا بالتراب من رأسيهما إلى جزمتيهما، ولم ينفكّا عن بعضهما حتى تناولت قارورة ماء كانت بيد زهير، ورحت أسكب الماء عليهما حتى تمرغا بالوحل واضطرا إلى النهوض والهرب، وفتات الطين، وقطرات الماء، تتطاير منهما، وكأنهما تمساحان خرجا من مستنقع مليء بالأوساخ. ولم تكن فكرة رش الماء هي فكرتي بقدر ما استقيتها من ذاكرتي البعيدة، أيام كان رجال قريتنا ينثرون الماء على كل كلبين متعاركين بضراوة، ليفكوهما عن بعضهما قبل أن يتمكن أحدهما من الآخر ويقضي عليه. وكانت النسوة، هن الأخريات، يرششن الماء على ديوكهن المتقاتلة بشراسة، قبل أن تسيل الدماء من أعناقها، وعروفها، ويتساقط الريش من نحورها وأجنحتها وأفخاذها حتى تغدو عارية. وما أكثر المرات التي قَتَل فيها ديكٌ خصمه، ونشب، على أثر ذلك، خلاف بين صاحبتيهما، ثم ما لبث أن امتد هذا الخلاف إلى الرجال، ثم انتهج نهجاً عائلياً أو قبلياً، ولم يُكتب له الحل إلا بعد سفك الدماء وزهق الأرواح. 
والحق أن المزاح بالأيدي ضرب من الهمجية، لا يقدم عليه إلّا الرعاع من الناس، وهو قد يفضي إلى نتائج كارثية، وفي أحسن الأحوال، قد يؤدي إلى القطيعة بين الأصدقاء، ولهذا لم يسبق لي ان استسغت هذه العادة حتى في أيام طفولتي. بيد أن زكريا وجلال انفصلا عن بعضهما بسلام، وذهب كل منهما في اتجاه وهما يلهثان بشدة ويخلعان سترتيهما العسكريتين المبللتين، ويلقيانهما على كتفيهما. لكن زكريا المنتشي من سقطة أعدائه اللدودين في لعبة الطرنيب لم يكتف بهذا، وإنما راح في هذه المرة يتحرش ببشير ويغيظه، قائلاً:
“أما بشير، فقد أطبق شفتيه على شفتي الحمار، وشرع يمص ويمص ويتأوه من فرط اللذة”.
وتوفز بشير للهجوم. وكان ضخم البدن طويل القامة، لكنه بطيء الحركة، وضعيف الهمّة، وسريع اللهاث، نتيجة قلة نشاطه، وإفراطه في تدخين السكائر والنرجيلة. وعند اللحظة التي باشر فيها هجومه، وهرول بضع خطوات باتجاه زكريا، كان الأخير قد ابتعد إلى مسافة بعيدة اضطر معها بشير إلى العدول عن المطاردة، وهو يفح من شدة التعب والغضب مثل حنش عملاق. أما زكريا فقد وقف على بعد رمية حجر منا وراح يتشفى من بقية العناصر، ويوبخهم على فعلتهم، ويناديهم بألقابهم، ويرد عليه الجمع، ويخاطبونه بألقابه.  
ولم يكن التنابز بالألقاب هنا فعلاً طارئاً فرضه الموقف الهزلي الذي كنا فيه، وإنما كان ثقافة يتداولها العساكر في كل مكان، وفي كل زمان، إلى درجة يستحيل معها على المرء أن يجد عسكرياً واحداً في المطار، ليس له ثلاثة أسماء على الأقل، أياً كانت رتبته: 
اسمه الحقيقي الذي اختاره له والداه، والذي يُخاطب به في حضوره، ويدوَن في هويته الشخصية، وفي سجلات الدولة الرسمية. 
واسمه المستعار الذي يكنى به للرفع من شأنه وإعلاء منزلته وتعظيمه، وعادة ما كان هذا الاسم يبدأ بــ (أبو) أو بــ (المعلم)، أو بــ (النسر)، أو بــ (النمر)، ويشيع استخدامه لدى المنافقين والمتملقين من ذوي الرتب الدنيا عندما يخاطبون الضباط المتنفذين في المطار للتزلف إليهم والتقرب منهم، جرياً وراء منافع شخصية لهم، أو بقصد اتقاء شرورهم. فكنت تسمع بكثرة، مثلا، عبارة سيدي العميد أبو العُلى… أو سيادة العقيد المعلم أبو الفداء… أو يسألك أحدهم قائلاً: هل لمحت النسر عادل اليوم؟ … أو أين النمر أبو النصر؟ 
أما اسمه الثالث، فهو لقبه السري الذي يُطلق عليه من خلف ظهره. وغالباً ما يكون هذا الاسم مشيناً، ومهيناً، وجارحاً، لكنه الأشيع في الاستخدام، بل والأكثر صدقاً ونبوعاً من قلوب مستخدميه، لأنه يعكس الصورة الحقيقية لصاحبه، ويصفه كما ينبغي أن يكون الوصف. فهل هناك عبارة يمكن أن توصف الرائد الطيار حسين العلي، وتصور هيئته، أكثر من عبارة البعير السائب، مثلاً؟ وإذا بدا هذا اللقب مضحكاً شيئاً ما، فإنه كان أقل إهانة إذا ما قورن بألقاب ضباط آخرين، ذلك لأن العرب، على العموم، لا يعتبرون البعير حيوانا مكروهاً أو نجساً مثل الكلب أو الخنزير. وفي هذا الصدد تناهى إلى مسامعي أكثر من مرة أن المجندين يشيرون إليّ في غيابي بـ (أبو الحبتين)، لأنني كنت، وبسبب شح الدواء واضطراري إلى تقنين الكمية الزهيدة التي تأتينا منه، أعطي كل مريض حبتين فقط، حتى إذا كان مرضه يتطلب العلاج لمدة أسبوع كامل. والأسوأ من هذا هو أن طائفة منهم لقبوني بالدكتور (كوسا) حين علموا من أمر ولعي بهذا النوع من الخضار، ودأبي اليومي على تناوله إما مسلوقاً مع الطماطم، أو مقلياً مع البيض، أو محمصاً مع قليل من لحم الضأن في مناسبات نادرة. حتى أن زكريا كان يعيب عليّ ذلك ويسألني دائماً: ماذا ستفعل لو أن الكوسا نفدت من الأسواق، سيادة الملازم الطبيب؟ فأرد عليه وأقول: باختصار شديد، سأموت جوعاً، يا زكريا. 
والحق أن صناعة الألقاب عند العساكر، كانت تأخذ أبعاداً إبداعيةً وفكاهية بامتياز. ناهيك عما كانت تتسم به من سرعة في الإنتاج، وسهولة في التوزيع. أعني ما إن كانت تطأ قدما وافد جديد أرض المطار، حتى كان بال المجندين حوله ينشغل بالبحث له عن لقب يناسبه، مثلما ينشغل بال ذوي مولود جديد باختيار اسم ملائم لوليدهم. وما أكثر الألقاب التي ذرَتْها رياح السنين عن ذاكرتي ولم أعد قادراً على استعادتها، رغم محاولاتي المتكررة لاستحضارها حال جلوسي مع نفسي واجتراري لذكرياتي. غير أن لقب الرائد بهجت درغام لا يزال عالقاً في ذهني حتى هذه اللحظة رغم مرور عقدين على نهاية خدمتي العسكرية في المطار. لا لأن اللقب كان غريباً وشاذاً، بل لأنه كان، إلى جانب ذلك، قذراً ويثير الضحك والاشمئزاز. وكان الرائد بهجت درغام أصلع، كبير الرأس، ومديد القامة إلى درجة يتعذر على المرء رؤية رجل يماثله طولاً، مهما امتد به العمر، ومهما طافت به قدمه أرجاء المعمورة، إلا في سياق مسابقات اختيار أطول رجل في العالم على شاشات التلفزيون، وخاصة تلك المسابقات التي تقيمها موسوعة جينيس للأرقام القياسية. لم يتجاسر أحد على سؤاله عن طوله، طوال فترة إقامتي في المطار، خشية أن يكون في ذلك سخرية، فبقي علوّ هامته مجهولاً، يتكهن به الفضوليون. وقد قيل أنّه يبلغ مائتين وستة وعشرين سنتمتراً وفق الرقم المدون على ملفه الشخصي عند قيادة المطار. وأفترض أنا، من ناحيتي، أنه كان أطول من ذلك بكثير، لأنه كان يضطر إلى طيّ هامته العالية، حتى يغدو مثل الراكع في الصلاة، حين يعبر من باب ارتفاعه متران. والغريب أنه، ورغم طوله الفائق هذا، كان لا يمشي إلا منتصباً أقصى ما يكون الانتصاب، ورافعاً رأسه الكبير الأقرع إلى الأعلى، وشاداً صدره إلى الأمام، وكأنه قصيرٌ يريد إضفاء شيء من الطول على قامته، أو كأنّ به اعوجاج يرغب في إصلاحه وتقويمه. وعلى هذا كان المجندون يلقبونه بـ (زبَّ الأرض). وإذا ولج في نفق الملجأ الطويل الممتد في باطن الأرض مئات الأمتار ليؤدي عملاً تقنياً هناك، إذ كان مهندساً في مجال الإشارة، تغامز العساكر حوله وقالوا “الأرض تضاجع نفسها”. وعندما سمع المقدم يوسف سلمى، الذي كان يشار إليه بالبنان حين يجري الحديث عن الثقافة والمعرفة، بهذا اللقب، ضحك وقال: “الأرض مؤنث في اللغة العربية فمن أين أتاها هؤلاء الأبالسة بزبّ؟”، ثم أردف مازحاً: “منذ فجر التاريخ والعربي ذكي بامتياز، ولكنه دائماً يستغل ذكاءه فيما لا يجدي، ويصرفه في غير موضعه. ففي مجال الشعر مثلاً، الذي هو ديوان العرب، نجد أن الهجاء المطعم بالشتائم والألقاب، والمدح المشوب بالتملق والنفاق هما أعظم ما جادت به قرائح شعراء العرب.”
وفي سياق الهرج الصاخب بين زكريا وعناصر المطبخ قلت موبخاً الرجال العائدين من غزوتهم الخائبة قبل أن أودّعهم:
“أيّ أوغاد متوحشين أنتم! لا أدري ماذا أقول فيكم. لأنني بالفعل أجد نفسي عاجزاً عن إيجاد عبارة أوصفكم بها، أو جملة أستطيع من خلالها التعبير عن حالتكم الشيطانية القذرة هذه….” 
انتعش زكريا عند سماعه كلامي هذا، وقاطعني قائلاً:
“إليك بهم سيادة الملازم الطبيب، ولا تأخذك بهم رأفة أبداً. هؤلاء أصلاً لا يستحقون الرحمة. هيا نجزَّ شعورهم، ونرميهم في السجن، مثل الكلاب. هذا أقل ما يستحقونه. هل آتيك بآلة الحلاقة؟ إنها عند جماعة الأرصاد. سآتيك بها حالا.”
قال زكريا هذا، ثم ولى هارباً، عندما رمقته العيون شزراً، وتهيأت النفوس للانقضاض عليه. تابعت قائلاً:
“حين يتم الحديث عن هدية عاشق لعشيقته، يتبادر إلى ذهن المرء العطور، والخواتم، والأساور، والأقراط، والدباديب، والأحذية، وحقائب الكتف، والقمصان، والتنانير، والفساتين، وأحمر الشفاه، وأكحال العيون. أو قلْ باقات الورود، وعلب البسكويت والحلويات والشوكولا. أما أن تكون هذه الهدية كيساً من البصل، فهذه سابقة غريبة لم أسمع بها من قبل أبداً، ولا بد أنها تحدث أول مرة في التاريخ”.
وتعالى صوت الضحك مرة أخرى. وسرعان ما حصل شرخ في صفهم المتماسك حتى الآن، وراح كل واحد منهم يلقي باللائمة على الآخر، ويدّعي أن الفكرة هي فكرته، ويقسم أنه هو نفسه بريء كل البراءة مما حصل. وهكذا تحولت الحرب بينهم وبين زكريا إلى حرب داخلية، استغلها الرقيب خير استغلال وحشر نفسه مرة أخرى، وقال متهكماً بهم:
“لقد أهدوا عشيقتهم أربع حدوات لسنابكها الطرية، ورسناً لجيدها الجميل، ولجاماً لرأسها الناعم، وسرجاً وخرجاً وبردعة لظهرها الأملس، ودعوها إلى وليمة من التبن والشعير، ووعدوها ببناء اسطبل فاخر لها. ألا يكفي هذا سيادة الملازم الطبيب؟”
وحين ارتفع صراخهم، يلقون التهم على بعضهم مرة، ويردون على ثرثرة زكريا، الذي لم أره قط في مثل هذا الانشراح وهذا الفرح من قبل، مرة أخرى، قاطعتهم أسأل:
“بالمناسبة، ماذا كنتم تفعلون مع الحيوان في الحفرة وقد وجدتموه ذكراً لا تستطيعون قضاء وطركم منه؟”
أجاب جلال من خلف ضحكة خبيثة وهو ينظر إلى شبلي من زاويتي عينيه:
“أصرّ شبلي أن يلوط به، لكنه رفسه وهرب خارج الحفرة.”
فاحتقن وجه شبلي واحمر، حتى صار مثل الشمندر وقال مخاطباً الجميع:
“اسمعوا… اسمعوا يا ناس… اسمعوا من يتحدث! … اسمعوا العاهر الذي يحاضر في الشرف، والفاجر الذي يوعظ بالحشمة.”
ثم التفت إلى جلال وتابع:
“لم تسلم منك كلبة، ولا قطة، أيها الداعر. وحتى الفئران لو وقعت بين يديك لما نجت من مجونك، هل تريدني ان أكشف أسرارك للدكتور أيها السافل الرذيل؟ هل تريدني أن أحدثه عن تلك الورطة التي أورطت نفسك فيها وقمنا بتخليصك منها بشق الأنفس…”
وهنا افترق جلال عنا، وأطلق العنان لساقيه فاراً باتجاه المهجع حيث ينتظره الديك، وهو يهتف ويقهقه محاولاً التغطية على صوت شبلي، إلا أن الأخير استمر في فضحه:
“وهل تريدني أن أخبر الدكتور عن تلك الليلة التي تشنج فيها مهبل الكلبة على قضيبك، ولم تستطع الانفكاك منها حتى قتلناها بالحجارة والعصيّ والدهس، أيها الفاجر الخليع. وأنك ظللت حتى قبيل الفجر تتبادل النباح معها من شدة الألم….”
قاطعت شبلي وأنا من دهشتي أكاد لا أصدقه:
“هل ما تقوله جدٌّ أم أنك تفتري عليه، يا شبلي؟”
رد شبلي فوراً:
“أقسم لك يا دكتور، وهؤلاء الشباب شهود على ما أقول، كلهم يعرفون قصص طيشه وتهوره وأفعاله الدنيئة ومغامراته الماجنة، سلْهم فرداً فرداً إن شئت، إنهم يعرفون كل شيء عنه، كل شيء… لكنهم في المقابل يسكتون عنه، لأن علاقته طيبة مع النقيب أحمد، ومع ضابط التوجيه السياسي المقدم غازي حنتوش.”
“يا للشيطان، قل لي يا شبلي، كيف حصل كل هذا؟ ولماذا أنا آخر من يدري، مع أننا أفراد أسرة واحدة هنا في هذه البقعة الجغرافية النائية، ومع أنني دائماً أقول لكم أنظروا إليّ كما لو كنت أخاكم الكبير، وليس كضابط بين المجندين؟ وعلى العموم، فإني لا زلت أجد صعوبة في تصديقك، هل لك أن توضح لي الأمر أكثر؟”. قلت، وقد بلغ مني الذهول مبلغاً.
“سأبوح لك بكل أسراره يا دكتور، لأن هذا الصعلوك لا يستحق أن نحفظ له عهداً: لقد ظل يطعم كلبة شاردة من اللحوم المخصصة للعساكر على مدار شهر كامل حتى ألفَتْه المسكينة وصاحبته. كانت صغيرة وودودة وهادئة، لا تنبح أبداً. فإذا جاعت، أصدرت صريراً من حنجرتها، ودارت حوله كما لو كانت ابنته، أو دخلت عليه في المهجع تتسول. وإذا شبعت غابت عن الأنظار حتى ظننا انها لا تعود. وذات ليلة، وعلى غفلة منا، استدرجها الملعون إلى المطبخ، وضاجعها، لكنه لم يستطع الانفكاك منها، وإنما بقي معلقاً بها ينتظرها حتى تهدأ، ويرتخي مهبلها، وتنفصل عنه، لكن هذا لم يحصل. ولما استمر الوضع على هذه الحال لوقت طويل، راح صاحبنا يشعر بالألم، ويخاف على عضوه. واضطر أخيراً إلى حمل الكلبة في أحضانه، وقضيبه في فرجها، والسير بها مئات الأمتار حتى يتمكن من الوصول إلينا ويطلب النجدة… لعلك، مثل جميع أبناء المدن، لا تعرف كيف يضاجع الكلبُ الكلبةَ، يا دكتور. أليس كذلك؟ إذن، دعني أشرح لك، لأن العملية الجنسية تتم عند هذا النوع من الحيوانات بصورة غريبة لا تجدها عند بقية الكائنات، فعندما تصل الكلبة إلى نشوتها، ينقبض فرجها على قضيب الكلب، ولهذا يرى الكلب نفسه في ورطة عويصة لا يعرف كيف يتخلص منها…” 
لا أدري لماذا يلزم هذا الغبي، شبلي، نفسه على الاعتقاد بأنني قضيت طفولتي في دور الحضانة ورياض الأطفال ومدن الملاهي، وعشت صباي أرتاد المدارس النموذجية والنوادي الترفيهية، وأمضيت شبابي غارقاً في حياة مخملية، رغم أنني بينت له أكثر من مرة، أنني ابن الريف، وأنحدر من قرية صغيرة نائية؟! ولو أنه عرف كم جرواً قتلت في طفولتي، وكم كلباً وكلبة هشمت أضلاعها، وكسرت قوائمها، وفقأت عيونها، وقطعت أذنابها، وصلمت آذانها، وأنا أحاول فصلها عن بعضها، غداة إقامتها لحفلاتها الإباحية في الهواء الطلق على مرآى ومسمع مني، لاختصر قصته، ولكفَّ عن سرد تفاصيل أعرفها أكثر منه. لكن رغم هذا تركته يكمل شرحه، لأحثه على المزيد من الاعتراف. وبعد أن استفاض في شرحه، أضاف قائلاً:…………… 
تتبع
من رواية (مذكرات الملازم الطبيب)

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ألمانيا- إيسن – في حدث أدبي يثري المكتبة الكردية، صدرت حديثاً رواية “Piştî Çi? (بعد.. ماذا؟)” للكاتب الكردي عباس عباس، أحد أصحاب الأقلام في مجال الأدب الكردي منذ السبعينيات. الرواية صدرت في قامشلي وهي مكتوبة باللغة الكردية الأم، تقع في 200 صفحة من القطع المتوسط، وبطباعة أنيقة وغلاف جميل وسميك، وقدّم لها الناقد برزو محمود بمقدمة…

إبراهيم محمود

أول القول ومضة

بدءاً من هذا اليوم، من هذه اللحظة، بتاريخ ” 23 تشرين الثاني 2024 ” سيكون هناك تاريخ آخر بحدثه، والحدث هو ما يضفي على زمانه ومكانه طابعاً، اعتباراً، ولوناً من التحويل في المبنى والمعنى القيَميين والجماليين، العلميين والمعرفيين، حدث هو عبارة عن حركة تغيير في اتجاه التفكير، في رؤية المعيش اليوم والمنظور…

حاورها: إدريس سالم

ماذا يعني أن نكتب؟ ما هي الكتابة الصادقة في زمن الحرب؟ ومتى تشعر بأن الكاتب يكذب ويسرق الإنسان والوطن؟ وهل كلّنا نمتلك الجرأة والشجاعة لأن نكتب عن الحرب، ونغوص في أعماقها وسوداويتها وكافكاويتها، أن نكتب عن الألم ونواجه الرصاص، أن نكتب عن الاستبداد والقمع ومَن يقتل الأبرياء العُزّل، ويؤلّف سيناريوهات لم تكن موجودة…

إبراهيم أمين مؤمن

قصدتُ الأطلال

بثورة من كبريائي وتذللي

***

من شفير الأطلال وأعماقها

وقيعان بحارها وفوق سمائها

وجنتها ونارها

وخيرها وشرها

أتجرع كؤوس الماضي

في نسيج من خيال مستحضر

أسكر بصراخ ودموع

أهو شراب

من حميم جهنم

أم

من أنهار الجنة

***

في سكرات الأطلال

أحيا في هالة ثورية

أجسدها

أصورها

أحادثها

بين أحضاني

أمزجها في كياني

ثم أذوب في كيانها

يشعّ قلبي

كثقب أسود

التهم كل الذكريات

فإذا حان الرحيل

ينتبه

من سكرات الوهم

ف

يحرر كل الذكريات

عندها

أرحل

منفجرا

مندثرا

ف

ألملم أشلائي

لألج الأطلال بالثورة

وألج الأطلال للثورة

***

عجبا لعشقي

أفراشة

يشم…