د. آلان كيكاني
الجزء الرابع:
تسرب قلق مشوب بالخوف إلى أعماقي، حتى أن النشوة التي كانت تطرب روحي مع كل رشفة أرتشفها من كأسي، والبهجة التي كانت تغمرني مع كل نغمة أسمعها من آلة التسجيل، كانتا عاجزتين عن منعي من الشعور بانقباض مرير في نفسي عند سماعي تهديدات العقيد سليم كرم وإنذاراته، لتصوري أن الرجل إنما يقصد بكلامه عناصر المطبخ، الذين كنت أحدثه عنهم قبل قليل، وأنه لا شك سيعاقبهم، وسأكون أنا الذي تسببت لهم بهذه العقوبة… يا إلهي، أية ورطة أقحمت نفسي فيها! … هل يليق بطبيب مثلي أن يكون نمّامَاً، يفسد بين الناس، بدلاً من الإصلاح بينهم، وأن يكون ثرثاراً لا يستطيع حتى الاحتفاظ بسرٍ من أسرار زملائه في العمل؟
… ألا ما أنحسه من يوم، وما ألعنها من ساعة! … أنا على يقين أنَّ لقباً جديداً من العيار الثقيل ينتظرني قريباً. لعله الـ(الفسفوس)، أو الدكتور (فسفوس). هكذا يلقب المجندون كل من يمارس النميمة وينقل أخبار الناس للناس بغية إذكاء نار الفتنة وإلقاء العداوة بينهم… لا حول ولا قوة إلا بالله… أي عار جلبته على نفسي! … ترى لماذا حشرت أنفي فيما لا يعنيني؟ … لينكح عناصر المطبخ الحميرَ والبغالَ والكلابَ والقططَ والفئرانَ ليلاً ونهاراً، ما لي ولهم؟ … صحيح أنهم أشقياء، ومتعبون أحياناً، ويسببون لي الصداع بين الحين والحين، إلا أنهم طيبون على العموم، يثقون بي، ويستشيرونني في كل شاردة وواردة في حياتهم، كما لو كنت أباهم. وما من أحد منهم أراد، مرة، أن يخطط لعمل، أو زواج، أو سفر، بعد انتهاء خدمته في الجيش إلا وقصدني طالباً النصيحة. فهل يعقل أن أسبب لهم مثل هذا الأذى؟ … وماذا عن الطرنيب؟ كيف سأقابلهم على موائده؟ وكيف سأنظر إلى عيونهم، وأتحدث معهم؟ … اللعنة على الخمرة الملعونة، لو لم تلعب برأسي لما بدر مني هذا الخطأ، ولأمسكت لساني عن التفوه بعيوب الناس وسقطاتهم… كنت أظن أن العقيد سيضحك ويمرح إذا ما رويت له قصتي الغريبة، وحسب، وإذا به يشهر سيف العقوبة… هكذا رحت أجلد ذاتي، وألوم نفسي، وكأنني ارتكبت جرماً كبيراً في لحظة غضب ثم ندمت عليه. وقبل أن أفكر بوسيلة أتمكن من خلالها إصلاح ما أفسدت، وأنقذ ذاتي من المأزق الذي أوقعت نفسي فيه، نهض العقيد، وراح يذرع المكتب ذهاباً وإياباً، ويعبث بأصابع يديه، ويفرقعها بعصبية، ويقول:
“هذا هو سبب جلبهم للتبن والشعير إلى المطار، أقسم أن هذا هو السبب… وهذا هو سبب حرماننا الدائم هنا في قيادة السرب من البصل والخس والبقدونس منذ شهور… هذه ليست المرة الأولى التي يعلنون فيها خلو مطبخ القيادة من هذه الخضار، يا دكتور. بل قل هي المرة المائة. وحتى في مناوبتي الماضية قبل نحو أسبوعين عندما طلبت منهم إعداد قليل من السلطة، قالوا لي لا يوجد في المطبخ سوى حبتين فاسدتين من البندورة ومثلهما من الخيار.”
سألته مستغرباً:
“عمن تتحدث سيادة العقيد؟”
“عن الخدم هنا. عن أولئك البهائم الستة: هذا المخنث الذي رأيته أمامك قبل قليل، وخمسة عناصر آخرين لا أدري اين هم الآن؟ هل ينكحون الحمير في الخارج، أم أنهم يلوطون برفاقهم في الخيام.”
“وما بهم الخدم؟”
“بين الحين والآخر يخبرنا حراس الباب الرئيسي، أن عنصراً من عناصر خدمة قيادة السرب قد أدخل معه، وهو قادم من الناصرية، كيساً فيه تبنٌ أو شعيرٌ…”
“أمر غريب بالفعل. وفيمَ يتم استخدام التبن والشعير هنا في المطار، سيدي العقيد؟
قاطعته بهذا السؤال وأنا في غاية الانشراح لاكتشافي أن الذين كان يهددهم العقيد بالعقوبة القاسية قبل قليل، هم ليسوا عناصر المطبخ الرئيسي الذين وشيت بهم عنده عن غير قصد في بداية السهرة. وإنما هم خدم قيادة السرب الستة، الذين يمكثون في القيادة على مدار الساعة، وليس لهم من عمل سوى إعداد الشاي والقهوة والطعام للطيارين، وتنظيف مكاتبهم وكنسها كل يوم بعد انتهاء فترة الدوام.
“تسألني فيم يتم الاستخدام؟ أليس كذلك؟”
“نعم سيادة العقيد.”
“لا تنس، يا دكتور، أن هناك أتانتين دائمتي التواجد حول مبنى القيادة. وهاتان، وإن غابتا يوماً أو يومين، إلا انهما سرعان ما تعودان ثانية. المسألة باتت واضحة ولا تحتاج إلى المزيد من التفسير.”
ثم انفرجت شفتاه عن ضحكة مجنونة ارتجت لها جدران الغرفة، وظهرت خلالها نواجذه المخلخلة التي ارتدت عنها لثاها حتى باتت مفرطة الطول وسوداء الجذور نتيجة إفراطه في التدخين، وقلة اهتمامه بصحة فمه وأسنانه، وقال:
“يا لنا من سذج أغبياء! لقد كنا نعتقد أن التبن والشعير يستخدمان لعلف بعض الخراف الضالة، التي تنفصل عن قطعانها وتأوي إلى مهاجع الأفراد بين الحين والحين. وإذ بها تُقدم للحمير عربون ليال حمراء… والله لأكوينّهم بالنار شرَّ كويّ، هؤلاء السفلة الملاعين.”
ثم تربع على كرسيه، وعاد إلى شرابه ودخانه وشروده، وبعد أن تجرع آخر قطرة من كأسه الثالث، انتفض كمن وجد حلاً لمعضلة كانت تشغل باله منذ زمن، وقام، وارتدى سترته، ثم فتح باب خزانة حديدية كانت خلفه، وأخرج منها شيئاً لم أتبينه، ووضعه في جيب سترته، ثم تناول ذراعي يحثني على النهوض وقال:
“هيا معي!”
“إلى أين؟”. وأنا أحاول تحرير ذراعي من يده.
“ستعرف فيما بعد.”
“بل أريد المعرفة الآن.”
“قلت لك ستعرف فيما بعد. هيا لا تكثر الكلام. أتحسبني ثملاً؟”
“لا لستَ ثملاً، ولكن …”
“ولكن ماذا؟”
“أريد معرفة الجهة التي ستأخذني إليها.”
“لا تكن ملحاحاً، يا دكتور.”
“بل وألح بشدة. سيدي العقيد. وأريد، أيضاً، معرفة ما الذي حملته معك للتو؟”
“هذا ليس شأنك… هيا انهض… قلت لك ستعرف فيما بعد يعني ستعرف فيما بعد. لأنني لو اخبرتك الآن، فستفقد الخطة عنصر المفاجأة فيها، وربما ستفشل.”
“عن أية خطّةٍ تتحدث؟”
“لا حول ولا قوة إلا بالله… قم يا رجل… تأكد من أنني بكامل قواي العقلية… هل رأيت الخمرة أفقدتني ملكاتي العقلية يوماً، حتى تخاف؟”
والحق أنني خشيت أن تكون الخمرة قد فعلت فعلها برأسه، ودفعته إلى التفكير بارتكاب جريمة بحق الخدم بسلاح قد يكون ألتقطه من الخزانة. ولا أخفيكم أن القلق بدأ يتسرب إلى نفسي من أن أكون أنا المقصود من تحركاته، وليس عناصر الخدمة. صحيحٌ أن الرجل مسالم ولا يحب الأذى، وإن بدى فمه مهذاراً وشتّاماً في بعض الأوقات، ولكنه غير سوي نفسياً، ويواظب على تناول عقاقير مضادة للاكتئاب، سرّاً، فضلاً عن أنها المرة الأولى التي أراه فيها خارجاً عن طوره. لهذا تثاقلت عن النهوض، أملاً في أن يهدأ قليلاً، ويثوب إلى رشده، ويتراجع عن قراره. ولكنه عاد وقال بشيء من الجدّ:
“أمرٌ عسكريٌ يا حضرة الملازم.”
وهنا لم يبق لي بدٌ من النهوض، والسير معه إلى حيث يريد، وإلا كان عليّ الاستعداد، لاحقاً، لمواجهة عواقب رفض أمرٍ عسكريٍ من ضابط رفيع الرتبة، والتي يمكن أن تودي بي إلى محاكم عسكرية، وإلى اتهامي بالتمرد والعصيان على رئيسي في الجيش. وهذه التهم إن ثبتت عليّ، فسأكون في مواجهة ما يترتب عليها من عقوبات قد تكون وخيمة.
سار العقيد على عجل نحو الباب الرئيسي للقيادة، وتبعته بحذر، أراقب كل حركة من حركاته، وأتهيّأ للتعامل مع أي سلوك شاذ قد يبدر منه. وفي الخارج، حيث حلّت تباشير الظلام، وانحسر الشفق خلف جبال القلمون، وبدا القمر من جهة الشرق يقترب من اكتماله، وانكسرت شوكة الحر وبات الجو طلقاً ومنعشاً، نادى بصوته الجهوري عناصر الخدمة الذين كانوا مشتتين في الخيام المتناثرة حول قيادة السرب، يقضون فترة المساء مع رفاقهم المجندين، وأمرهم أن يحضروا فوراً. فانقبض قلبي خوفاً عليهم، واقتربت منه لأكون على أتم استعداد للانقضاض عليه، ونزع السلاح من يده فيما لو حاول القيام بالحماقة التي توقعتها منه. فقد كنت أضخم منه جثة، وأكثر قوة وشباباً. وأسرع حركةً، ناهيك عن أن الرجل كان في حالة قريبة من السكر، ومثل هؤلاء الناس عادة ما تخور قواهم بسرعة، وتسهل السيطرة عليهم.
إلا أن العقيد ذهب إلى غير ما توقعت. فما إن أدى له العساكر الستة التحية العسكرية خابطين جزمهم المهترئة على الأرض ورافعين أياديهم إلى محاذاة رؤوسهم الحليقة، وتسمّروا أمامه صامتين ومنتظمين في رتل أحادي ينتظرون أوامره، حتى اكتفى الرجل بالطلب منهم إحضار الأتانتين الشاردتين اللتين غالباً ما ترعيان في مناطق قريبة من قيادة السرب، أو تجوبان العراء خلف خزانات الوقود، أو تتسللان بين خيم المجندين مفتشتين عن كسرة خبز أو قشرة بطيخ. فارتسم الفضول في عيونهم، وبدت الدهشة على وجوههم، وانتشروا في كل الأنحاء يبحثون عنهما. وراح العقيد يشبك يديه خلف ظهره ويجوب الفسحة أمام قيادة السرب في عصبية واضحة. وإذا كان لا بد من الإقرار، إحقاقاً للحق، فإن الرجل كان في تمام وعيه وكامل توازنه، ودون أن تشوب حركاته أية شائبة تدل على أنه شرب ثلاثة كؤوس من العرق الصرف، ذلك لأنه، ووفق اعترافاته، دأب على الشرب منذ ريعان شبابه، فاكتسب جسمه مناعة ضد الكحول، إلى درجة أنه يستطيع قيادة السيارة في أكثر الشوارع اكتظاظاً بعد شرب كمية هائلة من العرق دون ان يرتكب خطأً. وأبعد من هذا، فقد اعترف لي مرة أنه كثيراً ما يطير في طلعاته الجوية التدريبية وهو تحت تأثير الكحول، وأنه في المرات التي يصيب فيها هدفه الوهمي في بادية الشام بدقة يكون قد شرب كأسين من العرق قبل أن يطير… وبعد نحو ربع ساعة أحضر عناصر الخدمة البهيمتين والذهول يعلو وجوههم… كانتا هزيلتين، وضامرتي الخصر من أثر الجوع، حتى أن أضلاعهما والأوراب الفاصلة بينها، بدت واضحة المعالم، وكأنها وهادٌ ونجادٌ متتالية تمتد من الكتفين إلى منتصف الجذع. أما ظهر كل واحدة منهما المعفر بالتراب، والمكتظ بالندوب والقروح، فبدا حاداً مثل حد سيف، وينتهي في الخلف ببروزين حادين وصلبين، كأنهما خازوقان. ومع هذا، ناشدني العقيد بلطف أن أعتلي ظهر إحداهما، بينما امتطى هو الأخرى، وقادها باتجاه العراء وهو يومئ لي بيده، طالباً مني أن أتبعه، فتبعته دون جدال. وبعد مسير بضع خطوات ألتفتَ إلى الوراء وصاح بالخدم يقول لهم بلهجة آمرة:
“انتبهوا أيها العساكر. إننا، أنا والدكتور، في نزهة حول المطار على هاتين الدابتين، فإذا سأل أحدهم عنا، فإننا سنكون هنا بعد نصف ساعة تقريباً. مفهوم؟”
فردّ الخدم بصوت واحد:
“مفهوم سيدي.”
“حسنٌ، الآن انصرفوا إلى أعمالكم.”
وانصرف الخدم… وراح العقيد يلكز خاصرتي مطيته الضامرتين بعنف بعكبي جزمته العسكرية، ويحثها على السير السريع، وأنا أحتذي به بصمت، متوجساً من نوايا الرجل الغامضة. ترى إلى أين يأخذني هذا السكران مع هاتين الدابتين تحت جنح الظلام، وفي هذه الأرض الموحشة الجرداء التي لا بشر فيها ولا شجر؟ … ما هي غايته؟ … ماذا يدور في رأسه؟ … ماذا يريد أن يفعل؟ … كيف يمكنني التخلص من هذه الورطة التي أنا فيها الآن؟ … هل أهرب؟ … لا لا، هذا غير معقول، لا أريد أن أبدو جباناً رعديداً… ثم ماذا إذا هربت، واكتشفت فيما بعد أن المسألة كانت مجرد نزهة على ظهور الحمير كما ادّعى العقيد أمام الخدم، ولا غاية منها سوى المتعة والترفيه عن النفس، ألا يمكن أن يحدث هذا تحت تأثير نشوة الخمر؟ كم سأخجل حينها؟ … يا إلهي، أية متاهة أدخلت نفسي فيها عندما رويت لهذا المجنون قصة عناصر المطبخ اليوم؟ … كانت جدتي تقول دائماً إن العاقل لا يبوح بأسراره لأثنين: المجنون والقاصر… يبدو أنني لست عاقلاً، فلو كنت كذلك، لما أفشيت لهذا المعتوه بأسرار ثلة من المراهقين أردوا ان ينكحوا حمارة… ليت يومي هذا ينتهي بخير… المشكلة أنه لا يمنحني الفرصة لأستفسر منه عما يجول في خاطره وينوي القيام به، وكلما سألته قال لي ستعرف فيما بعد. لا أدري متى سيحلّ هذا الـ بعد؟ … هل ينوي، مثلا، قتل البهيمتين في مكان بعيد ليجنب قيادة السرب روائح جيفتيهما؟ … لا لا، ليس الأمر كذلك، لأنه إذا كانت هذه نيته، لأوكل مهمة تصفية البهيمتين إلى أحد العساكر، ولانتهى الأمر دون أن يكلف نفسه عناء هذا المشوار، ودون أن يحمّل ذمته وزر قتل الحيوانين. صحيح أنه يبدو عصبياً في كثير من الأحيان، ويبرق ويرعد لأتفه الأسباب، لكنه إنسانٌ في الوقت ذاته، ولا يخلو قلبه من الرحمة. لقد رأيته قبل شهر كيف يذرف الدموع عندما سمع نواح مجند جاءه خبر وفاة أمه، وكان مناوباً حينها كقائد للسرب. وظل يمسح على رأس المجند، ويواسيه، ويطيب خاطره كما لو كان أباه حتى وقت متأخر من الليل، حيث أمّن له وسيلة نقل، تنقله إلى دمشق، ليسافر منها إلى مدينة الحسكة، حيث يعيش أهله، وحيث سيوارى جسد أمه الثرى غداً… أم أنه يفكر باغتصاب إحدى الأتانتين، بعد أن أثقل في الشرب، وهو يحتاج إلى شخص آخر يسهّل له المهمة، كما يفعل المجندون عندما ينكحون الحمير. حيث يقوم أحدهم بالتحكم برأس البهيمة، وربما بتوثيق قوائمها، ليمنعها من الرفس، ريثما يقوم الآخر بمضاجعتها؟ هذا ما قاله لي شبلي هذا اليوم بعدما خرجنا من المطبخ وراح يصف لي كيف تتم عمليات اغتصاب الحمير في الحفر المتوزعة في محيط المطار… آه من هذا اليوم، لم أشهد في حياتي مثله أبداً، إنه يوم تاريخي بامتياز، مليءٌ بالغرائب والطرائف، ليت شعري أأبكي عندما أتذكره في المستقبل أم أضحك؟ وعلى العموم سأكتب عنه في مذكراتي عندما أعود إلى المستوصف اليوم قبل أن أنام، أو غداً صباحاً… وربما كان موضوع قصة كتبتها ذات يوم… لكن الأهم هو أن ينتهي بخير أولا… لعن الله زكريا ومنظاره، من أين جلبه هذا السعدان؟ وما هي فائدته؟ لولاه، لما اكتشفنا مشاريع جلال الجهنمية ورفاقه هذا اليوم، ولما اعترضنا سبيلهم، ولما حصل هذا الذي يحصل لي الآن. سأريك يا زكريا. ليأخذني الشيطان إن لم أكسر منظارك اللعين، وأرميه في المزبلة. بالفعل النظر إلى البعيد في مجتمعنا مجلبة للصداع، ومدعاة للهمّ.
وتابعنا سيرنا، وكلما ابتعدنا عن قيادة السرب، والمنشآت المحيطة بها، ومهاجع العساكر القريبة منها وخيمهم، زاد توجسي وأخذ قلبي يخفق بقوة. وعندما بلغ بي القلق مبلغاً، قطعت حاجز الصمت، وبادرت إلى السؤال قائلاً:
“والآن يا سيدي العقيد، هل لي أن أسألك، إلى أين نحن ذاهبون؟ وماذا سنفعل؟ ومتى سنعود؟”
لم ينبس العقيد بكلمة واحدة، وإنما تابع سيره لا يلوي على شيء. وكأنه لم يسمع أسئلتي، أو كأنه يترفع عن الإجابة عنها إذلالاً لي. ما أثار حفيظتي ودفعني إلى القول:
“إذا كنت تنوي القيام بفعل ما، سري، فهذا هو المكان الأنسب لهذا الفعل، لأن أحداً لا يستطيع رؤيتك هنا، ومن جهتي سأنأى عنك قليلاً، ريثما تنتهي من حاجتك! وإذا كنت بحاجة إلى مساعدتي، ساعدتك.”
أظن أنه أدرك قصدي، لأنه ضحك ضحكة غريبة وطويلة، حتى كاد يسقط عن ظهر مطيته، وبعد أن التقط أنفاسه، قال:
“لا أدري لماذا تكثر من الأسئلة هذا اليوم، يا دكتور. مذ أن بدأت سهرتنا وأنت تسأل، وتسأل، ولا تمل من السؤال؟ ما عهدتك ملحاحاً كما أنت اليوم. انتظر قليلاً وستعرف كل شيء.”
“وما الضير إن شرحت لي تفاصيل خطتك الآن؟”
“عندها ستفقد لذة المفاجأة.”
المفاجأة؟ … إن في الأمر لمفاجأةً، إذن… وكان لهذه الكلمة صدىً مهولاً في نفسي، ولم تزدني إلا قلقاً وتوتراً، وبت معها أكثر حذراً وتوجساً… من المهم لي الآن أن تكون أتانتي لصق أتانته، فإذا بدر منه ما يخيفني أو يشير إلى قرب اعتدائه عليَّ، دفعته بركلة من جزمتي… وليذهب بعدها إلى الجحيم، وليحدث ما يحدث… لبنان قريبة من هنا، سأهرب إليها إذا ما استفحل الأمر، وسأتدبر شؤوني هناك ريثما تُتاح لي فرصة الفرار إلى أوروبا… سوف لن أرتضي الذلّ وأتقبل الخنوع مهما كلفني الأمر… فليقم بأية حركة مشبوهة وليرَ، قسماً بالله سأفرمه فرماً… وجدتني أكزّ على أسناني بعصبية دون إرادتي، حتى سمع هو الصرير الصادر عنها، وسألني:
“ما لأسنانك، يا دكتور؟”
“لا شيء” رددت.
وتابعنا السير بصمت. وزاد القلق في نفسي. حري بي أن أكون على أهبة الاستعداد لمواجهة أي طارئ… سمعتُ مرة أحد جلساء والدي يقول: “اعرضوا عن الشّر وجانبوه قدر ما تستطيعون، فإذا ظل يطاردكم كونوا أشرّ منه.”. وسمعته يقول في مناسبة أخرى: “كن ديك يومٍ ولا تكن دجاجة سنةٍ.”. سأقتدي بحكمة جليس والدي اليوم، وسأكون ديكاً شرساً، يصد الشر ببسالة وإقدام، وليكن ما يكون بعد ذلك… هذا ما وسوس به الشيطان لي. وسرعان ما قدتُ مطيتي إلى جهته، حتى تلامست جزمتي مع جزمته، وسمعت لهاثه الذي اعتدت على سماعه كلما أثقل في الشرب، وشممت رائحة اليانسون المنبعثة من فمه. أعرف الجيب الذي دفن فيه ما أفترضُه أن يكون مسدساً. سأنقضّ عليه بلمح البصر، إذا ما اقتضى الأمر، وسأجرده من سترته العسكرية، وسأصادر منه سلاحه… احتفظت لنفسي بحق القيام بتنفيذ هذه الخطة في اللحظة المناسبة. وتابعت معه سيري، أراقبه عن كثب من زاويتي عينيَّ، وألتفتُ إلى جهته عند كل حركة يقوم بها.
هواجس كثيرة شغلت بالي في الدقائق العشرين التي رافقت فيها العقيد سليم كرم في رحلته الغريبة التي جرني إليها عنوة، ودون رغبة مني، والتي ستظل محفورة في ذاكرتي ما بقيتُ حياً. حتى أنني في جزء كبير منها حسبت نفسي في حلم، وأنني لا بد سأستفيق، حالاً، وأعود إلى الحقيقة. لكن استنفار مداركي، وتيقظ حواسي، كانا لا يقبلان مجالاً للشك في أنني في واقع ملموس وبعيد كل البعد عن الأحلام والتخيلات. وهكذا تابعنا رحلتنا إلى المجهول حتى بلغ بنا المطاف مشارف السياج المعدني المحيط بالمطار، وعندها بدا الإرهاق جلياً على البهيمتين العجفاوين، وراحت قواهما تخور، وتلهثان بشدة، وتتباطآن في المسير، رغم لكزاتنا القاسية على خاصرتيهما النحيلتين. ولا أدري ما الذي دفعني إلى الاعتقاد أن مطيتي هي ابنة مطية العقيد، فقد كانت الأخيرة على شيء من الهرم، تسبل أذنيها عندما تكدُّ، وتنزع إلى العناد والحرون، ولا تني عن شم مطيتي، والالتفات إليها بحنان بين الحين والآخر لتتأكد من حضورها إلى جانبها وعدم تخلفها عنها، بخلاف مطيتي التي كانت فتية، وتكردح خلف مطية العقيد، كما يكردح الولد خلف أمه.
ومهما يكن من أمر فإن الأتانين ظلتا تجهدان نفسيها حتى استسلمتا، وامتنعتا عن السير، وهما تلهثان بشدة وتنضحان، بالعرق، رغم أن الجو كان لطيفاً، ولا مكان للحر فيه. وعندذاك فقط تحرك الحس الإنساني في نفس العقيد وأخذته الشفقة عليهما، فأوقف أتانه وأومأ لي بالوقوف. وبعد برهة، دخّن خلالها سيكارة بشراهة ونفث دخانها من فمه الشبيه بكهف صدئ، استدار بخفة على ظهر أتانه نصف دورة حتى صار يمتطيها بطريقة معكوسة: وجهه إلى الخلف وظهره إلى الامام، كما يفعل الصبيان المراهقون في الأرياف لجلب انظار الناس إليهم. ووسط دهشتي، مد يده إلى ذات الجيب الذي دفن فيه ما التقطه من خزانته، وأخرج منه شيئاً، وراح يمرره على دبر مطيته، وعجانها، وفرجها، وعجزها، وذيلها، وفخذيها نزولاً إلى ركبتيها، وكأنه فنان يرسم لوحة. ظننته يتحرش بها، ويهيجها تمهيداً لفعل الفاحشة بها، سيما وأن الأمر راق للبهيمة، وراحت تتغنج، وتحني رأسها إلى الأسفل، وتوتر أذنيها، وتوجه بوقيهما إلى الخلف، وتلوك بفمها دون أن يكون ثمت شيء بين أسنانها، حتى بتّ أسمع طقطقة اصطكاك أضراسها ببعضها. لكنه ترجل منها، بعد أن أكمل رسم لوحته، وتركها دون أن يقدم على فعل المزيد. ثم تقدم نحو مؤخرة مطيتي، وهو يصفر بفمه ألحان أغنية (لازرع لك بستان ورود) للمطرب السوري فؤاد غازي، وفعل بها ما فعله بأختها، ورسم لوحته على مؤخرتها، وأنا من شدة الذهول جامد على ظهرها لا أتحرك.
سألته في استغراب:
“ماذا تفعل. سيادة العقيد؟ هل…”
كنت سأسأله هل جُننتَ، لكن شجاعتي خانتي وخشيت من ردة فعله. فمهما يكن، يظل هو العقيد العامل، وأنا الملازم المجند، وشتان بين الرتبتين في العرف العسكري، وأي اصطدام بيني وبينه، سأكون أنا الخاسر فيه حكماً، حتى إذا كان هو المتسبب بهذا الاصطدام، فما بالكم إذا كنت أنا المتسبب؟ … ما من شك أننا كنا صديقين، ولا يمر شهر إلا ولنا سهرة، تمتد حتى الهزيع الأخير من الليل، ويتخللها قرع الكؤوس وسرد الفكاهات والطرائف. ولكن من ينخرط في صفوف الشرطة والجيش يدرك أنّه لا صداقة حقيقية بين رئيس ومرؤوس، إلا نادراً. وكثيراً ما يُنظر إلى هذا النوع من الصداقة على أنه ضرب من ضروب الفوضى، وأمارة من أمارات الفلتان وقلة الانضباط.
قطع العقيد صفيره، وأجاب بمنتهى الهدوء:
“مثلما يبني هؤلاء الأوباش فخاخهم لهذه البهائم المسكينة، فسأبني أنا أيضاً فخاخي لهم، وسأصيدهم واحداً واحداَ، وسترى غداً.”
ثم تابع بعد أن انتهى من رسم لوحته الثانية:
“ما علينا إلّا السكوت عن الخطة عندما نعود، يا دكتور، وإلا ذهبت أتعابنا ادراج الرياح. اتفقنا؟”
“اتفقنا سيادة العقيد.”
“الآن انزل لنعود سيراً على الأقدام.”
أطلقنا سراح مطيتينا المتعبتين في العراء، فانطلقتا مهرولتين إلى جهة مهاجع الأفراد وخيامهم المحيطة بقيادة السرب حتى اختفتا خلف الغبار المثار من بين حوافرها وغابتا عن أنظارنا. واستدرنا راجعين سيراً على الأقدام. كان البدر يتسلق ببطء وجه السماء النقي المرصع بالنجوم، ناثراً نوره الفضي اللطيف على الأرجاء، وعلى يميننا تراءت لنا معالم جبال القلمون الشاحبة كأنها مرسومة بقلم الرصاص على لوحة باهتة، أما على يسارنا فامتدت البادية حتى تماهت مع الأفق، بينما تلألأت أمامنا أنوار قيادة السرب خلف صف من أشجار السرو الباسقة. راق هذا الجو المفعم بالرومانسية للعقيد، وراح يغني ويغني، دون أن يكل أو يمل، متخذاً من وقع خطواته إيقاعاً له. مرة يشوه أغاني أم كلثوم، ويجعل سامعه يتمنى أن يسكت حتى لو كلفه هذا السكوت آلاف الليرات. ومرة يقلد فريد الأطرش، فلا يعرف المرء إذا ما كان يغني أم يبكي. ومرة يحاكي صوت فهد بلان، فيبدو صوته الجهوري مخيفاً، كأنه صوت غول، أو كما لو كان خارجاً من كهف مظلم، حتى أن قشعريرة بدأت تسري في بدني وصرت ألتفت حولي خوفاً من أن وحشاً سيلتهمني. ثم ما لبث صاحبنا أن بدأ يغني بالإنكليزية، وطفق يقلد النجمة الكندية سيلين ديون في أغنيتها ذائعة الصيت آنذاك (ماي هارت ول غو أون)، تلك التي غنتها في فيلم تايتانيك الشهير وأبكت الملايين حول العالم، فأحسست أنه يضاجع الأغنية شرّ مضاجعة، وخال لي أن الحجارة حولنا راحت تئن من وطأة الانزعاج.
ورغم أنَّ أداءه المتواضع كان يثيرني، ويعكّر ذائقتي، ويشوش مزاجي الحسن بفعل الخمرة، كان عليّ أن أشيد به، زوراً، وأحثه على المزيد، وإلا استاء مني، وأخذ على خاطره، وربما سألني، كما سأل في مرات سابقة: هل تسمع غناءً أم نباحاً؟ فإذا أجبته: بل هو غناءٌ، يا سيدي العقيد، وحاشاك من الثانية، قال لي: إذن، فلماذا لا تتفاعل معي أيها الملازم؟ وعندها عليّ أن أكذب، وأمتدح صوته وأداءه، وأصفق له، وأردد كلماته.
وفي بعض الطريق، وعندما نال منه التعب والإعياء، وبدأ يفحّ كالمسلول، ويجر قدميه على الأرض جراً، قال لي:
“ما رأيك بقسط من الراحة هنا.”
“فكرة ذكية سيدي العقيد لأني بدأت أنا أيضاً أشعر بالتعب.” قلت أسايره.
“ها هي صخرة. لنجلس عليها.”
وجلسنا على الصخرة. والحق انه كان يخاف العقارب والأفاعي والعناكب وكل ما يدب على الأرض من الحشرات والزواحف خوفاً مرَضياً، ولا يتجرأ على الجلوس أو التمدد على الأرض في العراء مهما اضطر إلى ذلك. وأنا على يقين أنه لو لم يجد الصخرة في طريقه، لما خطرت له فكرة الجلوس والراحة، ولظلَّ يجهد نفسه، ويلهث بشدة حتى وصولنا إلى قيادة السرب، ولربما اتكأ على كتفي في بعض الطريق، إذا غالبه التعب ووجد نفسه عاجزاً عن السير.
وبعد أن تربع صاحبي على الصخرة، والتقط أنفاسه أشعل سيكارة، وأجبرني على التدخين معه، وراح ينفخ الدخان بعنف من بين شفتيه، ويلتفت يميناً ويساراً ويمعن النظر حوله، كما لو أنه قد اكتشف للتو جمال الطبيعة المحيطة به. وبعد دقائق قليلة قضى خلالها العقيد على ثلاث سكائر تابعنا سيرنا، وفي طريقنا، وعلى بعد نحو مائة متر من المكان الذي كنا نجلس فيه، شاهدت من بعيد مطيتينا. كانتا رابضتين على الرمل بهدوء وكسل تحت نور البدر. ويبدو أن التعب الشديد أنهكهما كما أنهك العقيد بعد أن حملتانا لأكثر من عشرين دقيقة وهما على هذا الهزال وسوء الحال.
“سيدي العقيد.” هتفت.
“نعم يا صديقي.” أجاب.
“سأطلب منك طلباً.”
“طلبك مستجاب قبل أن تطلبه.”
“أغنيتك الأجنبية كانت جميلة بحق. ما رأيك أن تعيدها…”
وقبل أن أكمل حديثي زعق صاحبي بصوت يجلب الألم للأسنان، مثل صوت احتكاك المعدن بالزجاج. وعندذاك فزّت الحمارتان فجأة، وولتا الأدبار بأقصى سرعة، وكأن حيواناً مفترساً قد هاجمهما. وظلتا تجريان حتى غاب عن مسامعنا وقع حوافرها على الأرض. أما العقيد فقد جفل، وقفز خطوة إلى الوراء، واحتمى بي، وكانت نهاية أغنيته.
وعند وصولنا إلى قيادة السرب كانت عقارب ساعتي قد تخطت التاسعة والنصف، وهنا عدنا إلى سهرتنا، نقرع الكأس بالكأس، ونشرب، حتى قضينا على آخر قطرة من العرق في الزجاجة. وبعد منتصف الليل بقليل راح العقيد يتمطى ويتثاءب، ثم ما لبث أن انزوى إلى مرقده، بينما انصرفت أنا إلى مستوصفي، ورحت في نوم عميق.
وغداً، بُعيد الشروق، سيستيقظ باني الفخاخ من نومه. وسيطلب اجتماعا طارئاً للمجندين خلف قيادة السرب، في مكان مخفي عن الأنظار، بين صفّ من أشجار السّرو والحائط الخلفي للقيادة. وسيأمرهم فرداً فرداً بخلع بناطيلهم، والكشف عما تحتها، مهدداً إياهم بإلحاق أقصى العقوبات بهم إنْ هم تماطلوا في تنفيذ أوامره. وسيعزل كل من تلون عجانه أو لباسه الداخلي ببقعة سوداء اصطبغت بصبغة الأحذية التي تركها أمس على مؤخرتي الحمارتين. وعندما يجد عدد المتورطين قد فاق العشرين عنصراً، يكتفي بجزّ شعورهم، دون الزجّ بهم في السجن.
صحوت من نومي عند الضحى مكتئباً ومصدوعاً. وعندما نهضت من سريري، وسرت باتجاه المرحاض، انتابتني نوبة شديدة من الغثيان، ولولا أن معدتي كانت خاوية، لكنت تقيأت في الممر. وسرعان ما شعرت أن الأشياء تدور من حولي، وأنني على وشك السقوط، فوقفت أستند إلى الحائط وأغمض عينيّ. ومن حسن حظي أنْ أدرك زكريا الموقف بسرعة، وهرع نحوي، وقادني إلى سريري متأبطاً ذراعي، ثم أسقاني كأساً من الشاي، وأطعمني بضع حبات من الزيتون وشطيرة من الجبن، حتى استعدت توازني، وعندها شرع الممرض يقصّ عليّ الأخبار الواردة للتو من المطار، وكيف قام العقيد سليم كرم، في الصباح الباكر، بالكشف عن ناكحي الحمير من المجندين، وكيف أقدم على معاقبتهم، فزادني هذا غماً واكتئاباً، لإحساسي أنني أنا السببُ فيما جرى، وأن خبر الغزوة الخائبة لعناصر المطبخ، واصطياد العقيد للمجندين المغتصبين للحمارتين، أخذ يخرج عن السيطرة، وسرعان ما سيعلم به القاصي والداني، العسكريين منهم والمدنيين. وبالفعل عند عصر ذلك اليوم، هاتفت الضابط المناوب في قيادة السرب، وطلبت منه إذناً بالتوجه إلى الناصرية لقص شعري عند حلاقٍ اعتدت على ارتياد محله بين الحين والآخر. وفي صالونه الكبير المكتظ بالزبائن كان الحديث يدور عما جرى في المطار عصر الأمس وصبيحة هذا اليوم. وكانت القهقهات الساخرة تُسمع في الخارج على بعد مائة متر تقريباً… وليتهم سردوا الحكاية كما جرت في الأصل، وإنما تعمدوا إلى إضافة الكثير إليها، وحرَّفوها حتى تلائم أهواءهم، وتتفق مع ميولهم الكارهة للمؤسسة العسكرية، من قبيل أن الطيارين أنفسهم قاموا باغتصاب الحمير في المطار، وأن قائد السرب بنى لهم الفخاخ واصطادهم، وأنه بصدد إحالتهم إلى التحقيق تمهيداً لمعاقبتهم. وانبرى البعض مدعياً أن الطيارين كانوا يلوطون ببعضهم، وهم في حالة سكر شديد، عندما باغتهم العميد قائد السرب وضبطهم بالجرم المشهود. وبالغ البعض الآخر قائلاً، بل إن الطيارين أدخلوا عاهرة إلى المطار، وراحوا يتناوبون عليها، وأن أحد المخبرين تواصل مع العميد سراً ونقل إليه الخبر، فقصد الأخير المطار على وجه السرعة، وقبض على الجناة وسجنهم في المطار، وغداً سيحيلهم إلى محكمة عسكرية في دمشق. وعلى هذه الصورة راح القوم يتمادون في حديثهم، دون رقيب أو حسيب. وعندما اكتشفوا وجودي بينهم، أخذوا يختلقون الأعذار، ويقسمون أنهم، إنما كانوا يقصدون في حديثهم الضباط المتطوعين من أمثال الطيارين، وليس المجندين من امثالي. ورغم هذه التبريرات بدأ البعض منهم يتسلل خلسة إلى الباب، ويولي الأدبار، قبل أن يحلق شعره، وكأنه اكتشف صدفة أفعى سامة تتكور بجانبه. وعمد البعض الآخر إلى تقديم دوره في الحلاقة لـ (سيادة الملازم) استغفاراً عن ذنبه، وتعبيراً عن حبه واحترامه للجيش، فقبلت من أحدهم بعد إصراره، وجلست على كرسي الحلاقة.
وبعد انتهائي من حلاقة شعري، مررت بسوق الناصرية. وبينما كنت أتجول بحثاً عن محل يبيع الألبسة الداخلية للرجال، إذا بسبابة العقيد طلال بكور تنتصب أمام وجهي وكأنها تريد فقأ عيني. كانت المرة الأولى التي أجده فيها في اللباس المدني، بل المرة الأولى التي أجده فيها خارج المطار. كان يرتدي أسمالاً بالية، حتى أن قميصه الأزرق المطعم بخطوط صفراء بدا لي مفتوقاً عند إبطه الأيمن، عندما رفع يده، وأقسم اليمين، وشرع يكذب كعادته. أما بنطاله البني السميك، فكان مكحوتاً أسفل الفخذين وكأنه درج على التزحلق على ركبتيه مثل الأطفال. وقبل أن أرحب به، وأمد إليه يدي مصافحاً، انبرى قائلاً، وسبابته لا تزال ترقص أمام أنفي:
“ليلعنني الله ألف لعنة إن كنت أكذب. على ذكر الشذوذ الجنسي، يا حضرة الضابط… في موقعة جبل الشيخ، نجا بعض جنود العدو من نيران طلقاتي، وتجمعوا في مكان بعيد عن مناطق التماس، وانحبسوا خلف الجبل، في واد ضيق لا يستطيعون الخروج منه خوفاً على حياتهم. وفي فجر اليوم التالي، وبعد حصولي على الإذن من سيادة العميد إسكندر ديب، طوقتهم من جميع الجهات مع بضع رجال من عناصري… أين المفر وبنادقي تحيط بهم؟ أين المفر ومجرد وجودي في الجبهة كافٍ لأن تنفلت مصراتهم ويتغوطون على أنفسهم. كنت أراقبهم من خلال منظار مقرب. كانوا يرتعدون خوفاً وهلعاً، ويصيحون مذعورين، ويرددون صرخات استغاثة بالعبرية. وسرعان ما خلعوا ألبستهم الداخلية البيضاء، وعلقوها على مواسير بواريدهم، ورفعوها قدر ما يستطيعون، معلنين استسلامهم. كانوا أثنين وعشرين نفراً، وكنا سبعة أنفار. وضعت معاصمهم في الأصفاد، وسقتهم كالقطيع أمامي إلى قيادة الوحدة، كانوا يبكون مثل النساء. وعندما وقعت عين العميد إسكندر ديب عليهم، ضحك، وقال لي: الخبز الذي نصرفه على هؤلاء الأنجاس خسارة، يا أبا مازن، أما كان من الأجدى والأنفع أن تقوم بتصفيتهم بدل أسرهم؟ قلت سيلزموننا، سيدي العميد، سيلزموننا. ووضعناهم في مستودع قرب القيادة وصرنا، كلما نحتاج إلى خدمة، نفك قيود إثنين، أو ثلاثة، أو أربعة، منهم ونأمرهم بمسح أحذيتنا، أو غسل ثيابنا، أو كنس الزبالة حول القيادة. وكنا أيضاً، كلما لعبت الخمرة برؤوسنا جئنا بنفر منهم، وعذبناهم شر عذاب حتى نسمع بكاءهم، وتوسلاتهم إلينا بالحفاظ على حياتهم، وكثيراً ما كانوا يقبّلون احذيتنا بذلّ وخنوع. هم قوم جبناء، يا دكتور، أقسم لك أنهم جبناء، وليست لهم قيمٌ أبداً، حتى أن من أبسط الأمور لديهم، أن يضاجع الرجلُ الرجلَ دون أدنى إحساس بالخجل، أو أبسط رادع ديني أو أخلاقي. وذات ليلة تجسسنا عليهم، أنا وسيادة العميد إسكندر ديب، بعدما سمعنا عن شناعة أفعالهم في كل ليلة…”
وأشعل العقيد سيكارته الحمراء الطويلة على عجل، وكأنه يخاف أن أنصرف قبل أن يكمل سرد حكايته، وتابع، رافعاً سبابته:
“ليلعنني الله ألف لعنة إن كنت أكذب، سوف لن أنسى المشهد الذي رأيته في تلك الليلة ما دمت حياً يا دكتور. خلعوا ثيابهم على ضوء الفانوس الشاحب، وباتوا عراة كما ولدتهم أمهاتهم، ومن ثم صار كل فرد منهم يدلك قضيب شريكه، ويرطبه بلعابه، ويلحسه بلسانه، ويتأوه كما تفعل المرأة ساعة الجماع… يا للقرف… كنت حينها سأتقيأ لولا أن سيادة العميد أومأ إليّ بضبط النفس حتى لا ينكشف أمرنا. وعندما كانت قضبانهم اللعينة في تمام الانتصاب راح كل واحد منهم يضاجع شريكه. وسرعان ما كانوا يتبادلون الأدوار فيصبح الفاعل مفعولاً به، والمفعول به فاعلاً. وقبل أن ينتهوا من حفلتهم الخلاعية هذه اقتحمنا الباب عليهم أنا، وسيادة العميد، وأربعة من رجال الحرس، وفي أيدينا عُصيٌّ من الخيزران، وانهالينا عليهم بالضرب، والركل، والرفس، حتى عجنّاهم عجناً، وتركناهم يئنون من شدة الألم حتى الصباح.”
“يا إلهي.” قلت في نفسي. “حتى هذا المعتوه الذي يتكلم ويتكلم ولا يصغي إلى أحد، قد سمع بقصة جلال وأصحابه، وما أفرزته هذه القصة من مضاعفات، فما بالي بالآخرين؟ لا بد أن أهل الشام كلهم قد سمعوا بها الآن، وسيسهرون على ترديدها خلال الليل، وفي الأيام القادمة.”
انصرف العقيد بالخفة التي حضر بها، بينما كان شعوري بالمرارة يزيد ويزيد، وأنا أسلك درب المطار، وأعود أدراجي إلى المستوصف سيراً على الأقدام.
……….
تم باب (الغزوة الخائبة) من رواية (مذكرات الملازم الطبيب)