نهاية رجل حزين

د. آلان كيكاني

لا أدري كم من المسافة سرنا خلال ثلاث ساعات متواصلة كانت فيها سياراتنا رباعيات الدفع تعلو ثم تهبط تلال رملية في صحراء مترامية الأطراف تتوالى فيها الكثبان الرملية وتترى وكأنها أمواج محيط لا نهاية له. وكل ما أعرفه هو أن نظام الـ (جي بي إس) أهدانا بعد عماء إلى وجهتنا التي ننشد. وعلى الرغم من أننا كنا في فصل الربيع، إلا أن مظاهر الحياة على طول الطريق كانت فقيرة للغاية، واقتصرت على بعض السحالي والضبان التي فرَّت مذعورة من جحورها عند سماع هدير محركات السيارات، وعلى بعض الأعشاب التي جادت بها المسافات الفاصلة بين الكثبان بعد أن تكرمت السماء بما يكفي من الأمطار في الشتاء الماضي. على أننا عندما اقتربنا من الهدف شاهدنا بعض الغربان والنسور تحوم في الفضاء وعلى علو منخفض. 
كان المكان المنشود غريباً، تحسبه مسرحاً من صنع الطبيعة: ساحة دائرية بسعة ملعبٍ لكرةِ القدم تحيط بها تلال رملية من جميع الجهات، ويعبّر فيها الربيع عن نفسه ببضعة أزهار من شقائق النعمان وبعض الأعشاب المتناثرة هنا وهناك. وفي وسط الساحة تنتصب خيمة صغيرة تقوم على عمود واحد، وعلى مسافة خمسة أمتار من بابها يرقد رجل ميت، في حوالي الخامسة والخمسين من العمر، يرتدي ثوباً بنياً، ينتعل نعلين أسودين من الجلد، ثلاثة أصابع من قدمه اليمنى مبتورة جراحياً في أوقات سابقة، بشرته سمراء، ولحيته شيباء طويلة لم تُمسَّ منذ شهرين على أقل تقدير، وشعره الأشيب به صلع غير مكتمل، ولاتزال يده اليمنى تقبض على سيخ معدني كان يحرك به الجمر المتقد قبيل وفاته، وأمامه كومة من الرماد، وفي وسط هذه الكومة إبريق شاي لايزال مليئاً بالماء. 
لم يكن الانتفاخ قد أصاب الجثة بعد، لكن الصلابة قد دبت فيها حتى بدت وكأنها هيكل من خشب لا مفاصل فيه. وفي جيبه في ناحية الصدر عثرنا على عقاقير خافضة لسكر الدم، وأخرى مضادة للاكتئاب، وأخرى لعلاج ارتفاع الضغط الدموي ونقص تروية القلب. أما في جيوبه الأخرى فكان ثمة كمية من المال، وعود من السواك، ومسبحة من العاج، وكيس تبغ، وقداحة معدنية عتيقة الطراز. ولم نشاهد في جسمه أثراً لكدمةٍ، أو رضٍ، أو جرحٍ، أو ما يمكن أن يكون أثراً لعضة أفعى أو لدغة عقرب. وقد قدّرتُ زمن الوفاة بأقل من يومين. وكل هذه البيانات كتبتها في تقرير طبي بناء على طلب من الشرطة، الذين راحوا يبحثون بدورهم عن أي دليل جنائي يمكن أن يكون السبب في موت الرجل. 
في داخل الخيمة شاهدنا حصيراً ممدوداً وعليه فراش وحيد، ولحاف ووسادتين، وسجادة صلاة عليها مصحف. كما شاهدنا في أحد أركان الخيمة حقيبتين، فيهما أثواب بالية ومتسخة، وأخرى جديدة لم تستخدم بعد، وأغذية معلبة، وكمية من الخبز الجاف، وقنينة من زيت الزيتون، وكيساً من القهوة، وآخر من الرز، وعلبة من الشاي، وكمية من التمر، وعدة قطع من الصابون، وجراباً فيه تبغ، وفي أحد جيوب إحدى الحقيبتين عثرنا على هويةٍ شخصيةٍ، وشهادة لقيادة السيارات، ورخصة لامتلاك سيارة لاند كروزر بيضاء. وفي ركن آخر شاهدنا مجموعة من العلب البلاستيكية الكبيرة، بعضها فارغ وبعضها لا يزال مليئاً بالماء، وإلى جانبها مجموعة من أواني المطبخ، وموقد موصول بجرة غاز. وعلى العموم فإنَّ بساطة الخيمة وما في داخلها كانت تعيد المرء قرناً إلى الوراء على أقل تقدير.
وثق رجال الشرطة كل مشاهداتهم كتابة وتصويراً. ثم خرجنا من الخيمة نستقصي محيطها، وصعدنا التلال الرملية المجاورة ووجدنا خلف أحدها سيارة لاند كروزر بيضاء جديدة، رباعية الدفع، مركونة هناك دون أن يكون فيها أحد. قصدناها وفتحنا أبوابها فكانت خالية إلا من كومبيوتر محمول وهاتف آيفون، كانا موضوعين على الكرسي المجاور لكرسي السائق، ولم يكن هناك أي أثر يذكر حول السيارة، مما حدا بأحد رجال الشرطة أن يفترض أن أحداً لم يلمس السيارة منذ عشرين يوما على تقريباً، فقد محت الرمال آثار أقدام السائق الذي أركنها هناك بشكل كلي، ناهيك عن تراكم الغبار على الزجاج الأمامي والمقود والكراسي والكومبيوتر المحمول والآيفون. وقد بدا من رخصة التمليك التي عثرنا عليها في الخيمة قبل قليل أن الرجل الميت هو مالك السيارة. ولكن السؤال المحير الذي علق في أذهان رجال الشرطة هو لماذا ركن الرجل سيارته خلف الكثبان الرملية ولم يركنها جانب خيمته التي يعيش فيها رغم سعة المكان؟
وكان قائد شرطة المحافظة قد اتصل بي قبيل ظهر ذلك اليوم، بصفتي طبيب الجراحة المناوب في المستشفى العام، وطلب مني مرافقة فريق من الشرطة كانوا في طريقهم إلى منطقة صحراوية بعيدة للتحقيق في وجود جثة رجل في أعماق الصحراء عثر عليها بعض هواة صيد الطيور والضبان والذين قاموا بتحديد إحداثيات الجثة وإرسالها إلى الشرطة مع بعض الصور. وكان لدى رجال شرطة المحافظة الذين رافقتهم أسماء بعض الرجال الذين اختفوا في أوقات سابقة دون أن يتمكنوا من العثور على أي أثر لهم، رغم إلحاح ذويهم وشكاويهم المستمرة وتذمرهم من بطء الحكومة في عملية البحث عنهم. وكانت الأسماء محفوظة في أرشيف في إحدى السيارات. 
ولما عدنا إلى سياراتنا مصطحبين معنا جثة الرجل الميت، اطلع أحد رجال الشرطة على الأرشيف ووجد أن اسم الميت يتطابق مع اسم رجل اختفى منذ ثلاثة أشهر تقريباً. وقد اتصل هذا الشرطي بمسؤولي المحافظة المعنيين بالموضوع وأشعرهم بكل ما لديه من معلومات قبل أن ندير سياراتنا ونعود إلى المدينة.
مع آذان العشاء عدنا إلى إدارة شرطة المحافظة بعد رحلة شاقة ومضنية استمرت أكثر من عشر ساعات. وكانت مهمتي قد انتهت بعدما عزوت للمعنيين سبب الوفاة إلى سكتة قلبية أو دماغية معتمداً في تفسيري هذا على الموت المفاجئ للرجل بينما كان يحرك الجمر المتقد بحديدة كانت في يده. وقد صُلي على الرجل في اليوم التالي ووري الثرى بعد أن قام الطب الشرعي بتشريح جثته والتأكد من أن الوفاة قد حدثت بصورة عفوية دون أن يكون فيها أية جناية. 
إلا أن الموضوع لم ينته عند هذا الحد، فقد قام أحد الصحفيين الفضوليين بإعداد تقارير يومية عن حياة الميت ونشرها في جريدة محلية دأبتُ على شراء نسخة منها كل يوم لمتابعة القضية التي صارت تعنيني بشكل أو بآخر. 
وهكذا عرفت أن الرجل كان زوجاً لثلاث نساء، لكل واحدة منهن بيت فسيح مستقل يحف به الخدم والحشم، وتقف على بابه سيارة فارهة لها سائقها الخاص. وأنه كان أباً لستة عشرة ولداً، أكبرهم مهندس في الثلاثين من عمره وأصغرهم في الرابعة. وأنه كان موغلاً في الغنى، ويرأس مجلس إدارة شركة تجارية كبيرة وعابرة للقارات، ولها فروع في أكثر من عشرين دولة. وأنه كان، وبحكم طبيعة عمله، كثير التجوال والتطواف، وما من دولة لها اسم على خارطة العالم إلا وزارها تاجراً أو سائحاً أو مستطلعاً. وأن موقعه هذا قد فرض عليه نمطاً معيناً من الحياة سِمَّتُه السباق الحثيث مع الزمن وعدم توفر الكافي من الوقت للقيام بالواجبات الاجتماعية والنشاطات الشخصية، وهكذا انصرف الرجل، رغماً عنه، عن عائلاته وأولاده وأقربائه وأصدقائه، وقطع صلة رحمه بوالديه العجوزين فلم يتواصل معهما إلا لماماً، وأهمل صحته إلى حد أنه كان ينسى الاهتمام بأسنانه فلا ينظفها إلا مرة في الأسبوع، ويغفل عن قياس ضغط شرايينه ويسهو عن معايرة السكر في دمه بعد أن ألمت به أمراض خطيرة ومهددة لحياته. 
وفي استطلاع للصحفي قال عنه بعض أقرب الناس إليه أنه كان لا يجد متسعاً من الوقت ليرفه فيه عن نفسه، وحتى المسجد الذي كان يبعد عن مكتبه مسافة مئة متر كان لا يقصده إلا بسيارته توفيراً للوقت والجهد.
وهكذا داهمه مرض السكر وهو في الثامنة والثلاثين من العمر، لكن الرجل بقي على إهماله وتقاعسه وانشغاله بما يعتبره أهم وأجدى، فلم يزر طبيبه إلا عند اشتداد المرض به وإعاقته له عن أداء واجباته اليومية، أو عندما كان يلح عليه البول ويدفعه إلى التردد على المرحاض عشرات المرات في الليلة الواحدة. ولم يزل التاجر الثريُّ في تهاونه مع المرض واستخفافه به حتى صار التموّت الصامت الممزوج بالقيح يغزو أصابع قدميه ويسير باتجاه الكعب، فاضطر بعد حذر الأطباء وإنذارهم له بالأسوأ إلى الموافقة على بتر ثلاثة منها، وظل في المستشفى شهراً كاملاً حتى برأ جرحه وصار يمشي على عكاز وهو في الرابعة بعد الاربعين.
ولم ينته صاحبنا بعد من مرض السكر ومشاكله وعقابيله ومضاعفاته حتى اقتحمه مرض آخر لا يقل عنه خطورة وإزماناً، وأعني به ارتفاع الضغط الدموي، وصار كاهل الرجل ينوء تحت عبأين ثقيلين لم يعد يتحملهما، فأدرك بعد فوات الأوان ضرورة تغيير أسلوب حياته وفق تعليمات طبيبه الخاص المتضمنة القيام بالتمارين الرياضية بصورة يومية، والترفيه عن النفس قدر الإمكان، وإعطاء الجسم حقه الكافي في الراحة، والابتعاد عن تناول الوجبات السريعة التي تقدمها سلاسل المطاعم العالمية المعروفة. 
وكان احتشاء عضلة القلب له بالمرصاد بعد أن فعل الضغط والسكر فعلهما في جسمه، ومعه دخل الرجل في حلقة معيبة تجر فيها المصيبة أختها، وهكذا بدأ طائر الموت ينقر قلبه بين الحين والآخر برشقات من الخثرات، تأتي وتروح، تاركة وراءها رجلاً مثقلاً بالهم والغم، يلاحقه هاجس الموت في كل دقيقة وهو لم يزل في الخمسين من العمر.
وهل تأتي هذه المصائب بغير العنانة إذا ألمت بصحة رجل، حتى لو كان هذا الرجل شاباً؟ 
وهل هناك كارثة أجل وأعظم من العنانة إذا أصابت رجلاً له ثلاث زوجات أصغرهن في الثامنة والعشرين؟ 
ما حصل هو أن صاحبنا صار يتردد على جملة من الأطباء في اليوم الواحد وينهي يومه بزيارة عيادة طبيب الجراحة البولية متأملاً الحصول على إذن بقضاء ليلة حمراء مع إحدى نسائه. لكن حبة الفياغرا التي يتم اللجوء إليها عند محاولة حل مثل هذا المشكلة لا تصلح لمن يعاني من مرض الضغط. 
وماذا بعد؟ هل بقي غير الاكتئاب؟
أضاف الرجل إلى قائمة زياراته الدورية عيادة الطب النفسي، وزاد على جعبته المثقلة بالأدوية عقاقير مضادة للاكتئاب وأخرى محسنة للمزاج. وما كان يمر عليه اليوم إلا ويكون قد تجرع العشرات من مختلف أنواع الحبوب والحقن. وعندما أدرك أن كل ما يتناوله من علاج لا يمكن أن يعيده إلى سابق عهده، تسرب اليأس إلى أعماقه وتعشش فيه. فسلّم مفاتيح عمله إلى ابنه البكر بعد أن مُني بخسائر فادحة نتيجة تغيبه المتكرر عن حلبة السباق في مضمار التجارة. وقبيل تغيبه بعدة أيام كان سائراً برفقة عكازه في إحدى مزارعه فانزلقت قدمه على بقعة من النفط وسقط على الأرض، وفج جبينه وظل يشكو من صداع حاد حتى يوم اختفائه.
وقد ختم الصحفي آخر تقرير له بالقول:
“قرر السير نحو المجهول… ودون أن يخطر أحداً بقراره غاب فجأة مع سيارته… وعبثاً تم توزيع اسمه على المطارات ومنافذ الخروج البرية والبحرية… بل وفشلت كل محاولات العثور عليه قبل أن يكشف الصيادون عنه ميتاً إلى جوار خيمته في أقاصي الصحراء”. 
فيما بعد التقيت برجال الشرطة الذين اصطحبوني معهم في رحلة الاستكشاف عن الرجل الميت عندما أحضروا سجيناً مريضاً إلى المستشفى وقمت أنا بعلاجه. وكان لغز تركين الرجل لسيارته خلف الكثبان خارج الساحة التي بنى فيها خيمته لازال غامضاً عندهم ودون إجابة. 
أما الجواب الشافي لهذا اللغز فهو الذي سمعته لاحقاً من طبيب استشاري لأمراض النفس في برنامج تلفزيوني حين قال معلقاً على حكاية الرجل الميت:
” ربما وجد صاحبنا المأوى والملجأ في حضن ثقافة الآباء والأجداد بعد أن أذلته الحضارة الحديثة التي عايشها بكل زخارفها. وبما أن السيارة جزء من هذه الحضارة فقد تركها خلف الكثبان كي لا تقع عينه عليها وهو يعانق أسلافه من خلال حياته المتواضعة التي صنعها لنفسه وعاشها خلال الشهور الثلاثة التي سبقت وفاته “.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ابراهيم البليهي

لأهمية الحس الفكاهي فإنه لم يكن غريبا أن يشترك ثلاثة من أشهر العقول في أمريكا في دراسته. أما الثلاثة فهم الفيلسوف الشهير دانيال دينيت وماثيو هيرلي ورينالد آدمز وقد صدر العمل في كتاب يحمل عنوان (في جوف النكتة) وبعنوان فرعي يقول(الفكاهة تعكس هندسة العقل) وقد صدر الكتاب عن أشهر مؤسسة علمية في أمريكا والكتاب…

عبدالرزاق عبدالرحمن

مسنة نال منها الكبر…مسكينة علمتها الزمان العبر..

بشوق وألم حملت سماعة الهاتف ترد:بني أأنت بخير؟ فداك روحي ياعمري

-أمي …اشتقت إليك…اشتقت لبيتنا وبلدي …لخبز التنور والزيتون…

ألو أمي …أمي …

لم تستطع الرد….أحست بحرارة في عينيها…رفعت رأسها حتى لا ينزل دمعها،فقد وعدت ابنها في عيد ميلاده الأخير أن لا تبكي ،وتراءى أمام عينيها سحابة بيضاء أعادتها ست سنوات…

فراس حج محمد| فلسطين

في قراءتي لكتاب صبحي حديدي “مستقرّ محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ” ثمة ما يشدّ القارئ إلى لغة الكتاب النقدية المنحازة بالكلية إلى منجز ومستقرّ الراحل، الموصف في تلك اللغة بأنه “الشاعر النبيّ” و”الفنان الكبير” “بحسه الإنساني الاشتمالي”، و”الشاعر المعلم الماهر الكبير” “بعد أن استكمل الكثير من أسباب شعرية كونية رفيعة”. و”المنتمي…

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…