هيڤي قجو
بطاقة تعريف
قبل الدخول في عوالم رواية “باص أخضر يغادر حلب” والتعرف على دلالاتها ينبغي تقديم تعريف ولو بسيط عن مؤلفها. الرّوائي والباحث والمترجم جان دوست من مواليد مدينة كوباني 1965 له أعمال في شتى حقول الأدب حيث كانت أول أعماله قصائد مترجمة من الشعر الكردي القديم والمعاصر بعنوان شعر وشعراء 1991. ثم بدأت رحلته في الكتابة مع كتب ودراسات وترجمات وروايات عدة: ميرنامه 2011. دم على مئذنة 2014. ثلاث خطوات إلى المشنقة 2017. كوباني ـ الفاجعة والربع 2018. ممر آمن، فضلاً عن دراسات وأبحاث وترجمات أخرى.
العنوان الدَّال:
إنّ العنوان هو البصمة الأولى أو الأثر الأول الذي يتركه العمل في ذات القارئ فيقرّر على إثر قراءته إن كان سيترك العمل بين يديه ويعيش معه تسلسل أحداثه أم لا. ومن هنا تأتي أهمية العنوان الذي يكون بمثابة هوية للنص أو ربما اكثر من ذلك. لو تمعنّا قليلاً في عنوان الرواية (باص أخضر يغادر حلب) والذي اختاره الكاتب بذكاء لوجدنا بعد قراءة الرواية أن هناك التزاماً بين العنوان والنص. وهذا العنوان الذي يشير إلى الهزيمة نعم الهزيمة التي وجدت الجماعات الراديكالية نفسها فيها حين توسم به، الجماعات التي قبضت الثمن سلفاً ” من كان ليظن أن الجيش الحر الذي آمن بالشعب وحقه في تقرير مصيره أن يتبنى أفكاراً بعيدة كل البعد عن المنهج الذي رسمه لنفسه بداية الحراك الشعبي، أن يحيط بالشعب المسكين ويجعله يعاني الذل والهوان وكأن الأمر في الشرق مرهون بالسلطة، حين تكون الأمور بيد الغير يحارب الديكتاتورية التي يتسم بها وحين يستلم الآخر موقعه يغدو مثله ويجيز لنفسه التكلم باسم الشعب وأخذ القرارات نيابة عنه.
الثورة وإنتاج الجماعات المتطرفة
يشكل ما حدث في سوريا من أحداث وزلازل موضوع الرواية حيث تتعرض الرواية للجماعات التي ظهرت في غضون الأحداث. وهذه الجماعات التي انبثقت في سياق الثورة كانت لها مشاريعها السياسية والتي كانت تستهدف تغيير النظام دون إحداث أي تغيير في طبيعة السلطة ذاتها (استبدال النظام البعثي بالنظام الإسلاموي) بالإضافة الى سنوات طويلة من الاستبداد والظلم والفساد حيث احتكرت عائلة الأسد سوريا لذاتها دون كل السوريين/ات والتي جعلت من سوريا مزرعة لها تتاجر فيها على هواها، كان لابد من هذه الثورة ليشعر الإنسان السوري ببعض التوازن ويخفف من الشعور بقدرية الحكام وقوتهم التي بعثرت الشعوب وزرعت فيها الخوف والبطش والانتقام، الثورة التي تلت انتفاضة الكرد والتي كان من نتائجها سقوط تمثال الأب الديكتاتور الأعظم الذي استغل وجوده في الحكم ليحول سوريا قرابة أربعين عاماً إلى دولة مخابراتية، همها كمّ الأفواه وانتهاك حقوق الانسان وزجه في معتقلات لا ترحم، الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود ومعجزة.
هذه الثورة التي ستنحرف عن مسارها وتتخذ شكلاً آخر يخترق صفوفها السلمية المال السياسي، يكثر الحلفاء واللاعبون تمسي سوريا ساحة تصفية حسابات تتناوب عليها أمم الأرض كلها كضباع تمزق أشلاءها وتتركها لعويل الرياح تفعل فيها فعلها. الجماعات الراديكالية التي حققت ما كانت تصبو إليه حين انشقت باسم الجيش الحر من جيش النظام وانضم إليه كل شاب آمن بالثورة حينها انقسم الحر على نفسه وأمسى جماعات كثيرة كل منها يقول أنه الأحق بسوريا وباتت تدعو إلى أمر آخر فلم يكن هدفها تمتّع الشعب بأفق ديمقراطي بقدر ما كانت تبحث عن أهداف خاصة بها شرعت تدعو إلى الجهاد باسم الدين وكثرت الانقسامات وباتت الفصائل تتحارب فيما بينها والشعب المسكين يبتلي بهذه الحروب،( اطلع يا حجي ،الناس كلها راح تطلع، بدنا نخلي الحارة. تخلوه؟ـ ليش خليتوا فيها شي، لتخلوها!!” ص 99) الحافلات الخضراء التي أصبحت رمزاً لانتصار الحكومة وكان من نتائجها سقوط حلب.
العائلة الجامعة:
ثمة ما في رواية “باص أخضر يغادر حلب” ما يشدُّ القارئ وهو يتمثّلُ بالأسرة العربية ــ الكردية التي تشكل الفاعل الرئيسي في النص وهذا الامتزاج الذي يعكس فسيفساء جميلاً يلقي بألقه على حياة السوريين كافة فزواج عبود المهرب العربي من نازلي الفتاة الكردية سابقاً ثم تلاه زواج ابنة عبود العربي من فرهاد الكردي دلالة على الانسجام والتناغم الذي كان يميز العلاقة العربية ــ الكردية والمجتمع السوري الذي أسقط الطائفية أو القومية من حساباته ولكنهما أمستا الهواء الذي يتنفسه السوريون بعد الثورة، فقد دفع الكثيرون حياتهم ثمناً لانتماءاتهم وعقائدهم. ” كانوا يسألوا الأسير شو طائفتك وهنن عازمين على قتله سلفاً، وطائفتوا بتصير جريمة، يعاقب عليها بالنحر أو طلقة في الرأس، بدون ما يعرف حدا إذا بريء أو مجرم، قتل قتل قتل…”ص128 الخراب والدمار والقتل والخطف والسرقة بات الأمر الشاغل لكل الفصائل التي تبنت الثورة، الثورة التي أجهضتها الجماعات والميليشيات التي وجدت الأحقية في وجودها وصحة منهجها كل على مسرحه الذي ينحكم فيه اللاعبون الصغار والكبار سواء الدول الإقليمية أو الدول الكبرى كل يشاهد الخراب والدم ورائحة الشواء السوري ويغض النظر أو ربما في أقصى الحالات يبدي قلقه.
العجيب أو الفاتنازيا
تشكّل موضوعة العجيب والفانتازيا تقنية في البناء اعتمد عليها الروائي لتبرير بعض الأحداث الروائية. العجيب أو الفانتازيا يقوم على التحرك بين الطبيعي وفوق الطبيعي وإدخال الغرابة على الحدث وبذلك يجري استعمال ما فوق الطبيعي لتفسير أحداث مستعصية والفانتازيا أو العجيب هنا تخرج الحدث الروائي أو الظاهرة من مجالها المنطقي إلى مجالها اللامنطقي كما جرى مع عبود العجيلي وهو يتحرك من حلب إلى إدلب في هذه الرحلة فقد تخيل ما كان مستحيلاً حين توافد عليه أفراد عائلته بالتناوب وجلسوا إلى جانبه كل يشرح له ما حدث معه في رحلة الهروب من القدر. فقد لجأ الروائي إلى الفانتازبا لكي يفسر الأحداث التي لا يمكن تفسيرها في الواقع المادي وأعطاها بعداً غرائبياً. تكشف قراءة الرواية أنّ الروائي اعتمد على الفانتازيا كتقنية في البناء لينهي بها روايته والتي أعطت تراجيدية عميقة للمشهد فقد ألقى الضوء أكثر من خلال هذه الفانتازيا على الواقع السوري فعائلة عبود العجيلي والتي بعثرها ما حلّ بسوريا كحبات حُمّص تناثرت هنا وهناك، نموذج مصغر عن سوريا وما حل بها، الموت المحدق بكل سوري سواء في قلب المعمعة أو النزوح إلى مناطق أخرى قد تكون آمنة أكثر وقد تصبح خطرة بعد فترة أو الهجرة وما يرافقها من طقوس الضياع، الغرق وطرق التهريب. كل ما ذكر آنفاً يعيشه عبود العجيلي بطل الرواية وهو يغادر حلب على متن باص أخضر يشق طريقه عبر العتمة إلى ما لا نهاية، يحدق النظر خارجاً حيناً وفي داخل الحافلة أحياناً أخرى ولا شيء سوى العتمة، العتمة فقط. (كان الباص الأخضر يسير بلا سائق يسير بجنون، يسقط في هاوية سوداء، لا قرار لها، ما من أحد يقود هذا الباص. لم ير في مقعد السائق سوى كتلة صغيرة من السواد المرتعش، صارت تلك الكتلة السوداء تكبر بسرعة كبيرة، وفجأة انطلقت بضعة خفافيش وطارت باتجاهه صارت الخفافيش تضرب وجهه الذي فقد ملامحه بشكل عشوائي، ثم تكما طيرانها إلى مؤخرة الباص.) ص 141
وأخيراً رواية (باص أخضر يغادر حلب،ميلانو: منشوارت المتوسط، 2019) ممتعة بحق لقد أجاد جان دوست في سردها من خلال عائلة عبود العجيلي الكردية العربية التي تبعثرت ككل العائلات السورية من خلال القرارات التي اتخذتها لتحافظ على حيواتها بشكل أو بآخر والقدر الذي كان بالمرصاد للجميع، القدر الذي وسم الموت والتشريد وتشتت هذه الحيوات، إنها رواية انتصرت فيها الفانتازيا التي كانت الأقرب إلى روح الإنسان السوري الذي فقد كل شيء في هذه الحرب حتى روحه.