الخنوثة الجنسية في رواية خيط واهن لجان بابير

هيڤي قجو
تمهيد
قبل طرق أبواب رواية “خيط واهن” من الأهمية بمكان أن نتعرف على كاتبها، جان بابير شاعر وروائي ومخرج سينمائي كردي، من مدينة كوباني، صدر له شعراً: شطحات في الجحيم 1998، ديوان شعر بالكردية(   (Gewiriya Helbestê zaقرارات الخطيئة (كتاب مشترك) مع الشاعر صلاح الدين سليم 2003، طفل يلعب في حديقة الآخرين 2012، عقد قران في القصيدة (نص مشترك) مع الشاعرة الأمازيغية خديجة بلوش 2013، متن الغجر مشترك مع تارا إيبو، Peyalen Cane Helbest 2019. صدر له روايةً: الأوتاد 2000، ثلاثية كردستان 2005ـ 2007، هيمن تكنسين ظلالك 2019. إلى جانب عمله ككاتب عمل أيضاً بالإخراج السينمائي فقد أخرج: أفلام وثائقية: لالش، جكرخوين لم يرحل وجليل جليلي، فيلم صامت (خطوة) وأفلام روائية: نفرستان، الرمان المحظوظ والأغنية المنكسرة. فيلمان قصيران: الحلم، الزمن. ثلاثية كوميدية بعنوان: أمام الستارة.
عنوان الرواية
إن عنوان أي عمل روائي لا بد أن يكون إضاءة عليه فمن خلال العنوان ينجذبُ القارئ للعمل ويقرر المضي فيه قدماً لاكتشاف سبر أغواره، وهنا في رواية “خيط واهن” ــ أعتقدُ وربما أكون على خطأٍ ــ أنَّ العنوان أربكني بعض الشيْ وجعلني أسير في العتمة وأتعثر في الطريق بشتى الصخور والأحجار لأعثر على منشأ هذا الإرباك، فقد شعرت من خلال حدسي أن هناك قضيةً مثيرةً خلف هذ العنوان، خيط واهن خيط قابل للقطع في أي لحظة، لكن متى علينا أن نقرر قطعه والخلاص منه؟! يحتاج الأمر إلى بعض الجرأة ورمي كل ما سبق وراء الظهر. فهل كانت البطلة من الجرأة بمكان لتكون مثالاً يُقتدى به في واقع الحياة؟ سنرى ذلك من خلال تحليلٍ بسيطٍ للرواية. 
كيفية البدء بالرواية
ما لفتَ نظري “الإهداء” الذي بدأ به جان بابيير روايته حيث كتب:
“إلى كل من يعاني: خللاً هرماً في فيزياء الاستثناء، قافلة تلو القافلة، ألتقط ملامحهم، أغمسها في هذا الحبر، لا أرض لا دعامات، لا سماء، لا كواكب، لا غيمات، لا أسماء أو أصوات، كل هذا ما يجعل أوقاتهم كسيحة يقودها غبار قديم دون أن يصل عتبة الغد، لا وصف لدي أكثر من هذا اللاوصف الباهت لأكتب هذا الفضاء وهؤلاء!”
إنَّ الإهداءَ يخصُّ الذين/اللواتي يعانون/ين من مشاكل جنسية مبهمة الذين هم في الوسط لا ذكور ولا إناث وهم/ن مشرفون/ات على البؤس، الحزن والكرب النفسي الثابت، يمارس(و)ن نوعا من الكينونة لكنها غير كاملة حالة متناقضة هي (بين بين) يمارس(و)ن الخداع والكذب خوفاً من افتضاح أمرهم/ن، هؤلاء أسرهم/ن المجتمع والعادات والتقاليد والعقلية الجاهلة في سجن داخلي مكتظ بشتى أنواع القهر والضعف.
والرواية معظمها رسائل دونت فيها (بريشان ) بطلة الرواية وهي في سجن الزوجية القائم في مدينة ( كعق) ما حدث معها في حياتها منذ مراهقتها وحبها الأول وزواجها بشخص رفضته أصلاً بعد أن طلب منها علاقةً لكنه أثار فضيحة حولها واضطرت إلى الزواج به لتتخلص من سجن عائلتها والإحساس طول الوقت بعار لم تقترفه. رسائل داومت على كتابتها لكاتب اسمه (محمد خان) رجل خمسيني يعيش في أوربا. (بريشان) التي غادرت بيت أهلها إلى عش الزوجية وأي عش كان بانتظارها…! الذل، الخنوع والاستسلام لكل الأهوال التي أحاطت بها، فنجاح أي زواج في الشرق مرهون بالليلة الأولى، فعينا العروس في اليوم التالي تشيان بكل ما حصل في ليلة الدخلة، سيبهرنا لا محالة الألق  الذي ينعكس على كل ما في البيت أو سيصعقنا الانكسار حيث تغور العينان ذبولاً ساهمتين في لا شيء.
” احتقرت ذاتها بعد كل هذا الذّلِّ وأدركت أن الوظيفة المقصودة من هذا الاشتباك بين إصبعه وفرجها هي عبور جسر الدم، الدم هو الختم الشرعي على الفرج، هو حبر الحقيقة الذي تدون به سجلات الشرف، ليمتلك كل طرف الآخر في دورة الزواج واستمرارية الحياة.”  
العزلة التي تحصّنُ بها البطلةُ نفسها تساعدها شيئاً فشيئاً إلى الرجوع إلى عالم الكتب والقراءة، الأمر الذي يجعلها تخطُّ مخطوطاً عن حكايتها بكل ما فيها من ألم وعذابات وإباحية، حتى أحلام اليقظة التي تستعيد فيها حبيبها لتمارس فيها معه أجمل الطقوس.
تدوّن تفاصيل حياتها مع زوجها الرجل باسمه، الرجل الذي فبرك إشاعة عن حملها وإجهاضها من (زنار) حبيبها الذي يُقتل على أيدي “الجيش الحر” المنشق عن النظام، يُعدم رمياً بالرصاص لأنه رفض أن يقتلَ المتظاهرين الذين نادوا بالحرية، أُعدم لأنه بنظر ضباط جيش الحر خائن لم ينفذ الأوامر. لتخلو الساحة لـ(تاجين) وترضى (بريشان) به زوجاً على الرّغم من سره الذي فضّل ألا يخبر به أحداً حتى أهله، فهو شخص (عنين) أي ليس ذكراً وليس أنثى، هو هناك في الوسط هو مخنث جنسياً. ” ـ إن كنت هكذا لماذا تزوجتني أيها الحقير ودمرت حياتي؟
 ـ إن أردت الذّهاب فسأقول لهم: إنك لم تكوني عذراء!!”
سبع سنوات مع تاجين دون حمل، الأمر الذي يثير شكوك من حولها، لتدافع عن زوجها قائلة ان العيب مني، إلى أي درجة الأنثى الشرقية تخضع للمجتمع وللعادات والتقاليد، فهل إذا كان عدم الإنجاب من المرأة سيسلم الرجل بالأمر الواقع؟ على العكس سيأتي بأخرى دون أن يشعر بأي تأنيب للضمير…! هنا نحن أمام معضلة فالمرأة تُعنف وتُظلم سواء كانت هي السبب في عدم الإنجاب أو كان زوجها، في هذا المجتمع من العار أن تنزل من قيمة  زوجها حين تقول إن العيب منه أو أنه عنين. 
النهاية
يموت تاجين في حادث لتجد (بريشان) نفسها وحيدة ثانية ولتقرر فجأة أن تسافر إلى (محمد خان) بعد أن شعرت أن لا شيء يربطها بعد بمدينتها لا حبيب ولا زوج. أما أهلها فلم ترهم منذ 7 سنوات. الأفضل أن تغادر كما كل السوريين وتلجأ إلى البحر فربما يحالفها الحظ وتبدأ من جديد. رحلة لجوء( بريشان) ككل قصص السوريين رافقتها المخاطر، الموت بانتظار أن ينقض على الفرائس وكم من أبرياء هربوا من جحيم الواقع السوري وباتوا طعاماً لعالم البحر….!!!
تنجو (بريشان) وتلتقي بكاتبها، تغير اسمها من (بريشان) السم الدال على المعاناة والألم والتمزق وكل مايمت بالوجع بصلة إلى ( هيزا) يتزوجان ليقررا في ما بعد الرجوع إلى الوطن وليدونا اسميها على الرواية التي خطتها (هيزا) وساعدها في الصياغة (محمد خان).
الخنوثة الجنسية
اسم مدينة بريشان (كعق): وهو اسم يدلُّ على المدن الكردية الثلاث كوباني، عفرين وقامشلو، هذه المدن التي امتدت على الشريط الحدودي مع تركيا التي كانت تنتهز الفرصة لتروع الناس من خلال أصوات رصاصاتها وأسلحتها المدججة على طول الشريط. كانت كعق تشبه (بريشان) في حالها، تثير شهوات كل من يحيطها وتثير فيهم شعوراً لاغتصابها، ومن قال إن المدن لا يتم اغتصابها، ألم تُغتصب عفرين؟ ألم تُدنّس بقذارة الترك والموالين لهم؟ و(بريشان) ألم يستبحْها المجتمع الذكوري والعادات والتقاليد حين ألف (تاجين) إشاعة كاذبة عنها وصدقها الجميع دون أن يحركوا ساكناً؟ ألم يغتصب (تاجين) (بريشان) ليلة زفافها حين فض بكارتها بإصبعه؟ لقد عاقب تاجين (بريشان) على ذنب لم ترتكبه، فقط ليبرهن لمجتمعه وأهله ولو كذباً أنه رجل! ليلة قهر مرت على (بريشان) فهي إن عادت إلى بيتها ستثبت عليها الإشاعة وإن بقيت عند تاجين ستدفن سنوات عمرها هباء منثوراً.
والمثير في هذه الرواية هي إلقاء الضوء على (الخنوثة) هذا التعقيد الذي يعاني منه الشرق، الخوف من عدم الاعتراف بهذه الحالة جعل من (تاجين) و(بريشان) ضحيتين يدفعان ضريبة مجتمع لا يعترف إلا بالرجولة، وما يرتبط بها من فحولة. عقلية جاهلة يرضخ لها الفرد دون أن يحرك ساكناً بل يمشي قدماً نحو ارتكاب خطايا أكبر وأعظم وما يبرر له ذلك هي الرجولة المزيفة. 
محطات كثيرة في حياة (بريشان) كانت تثير لدي تساؤلات كثيرة، فتاة جامعية مثقفة عاشت قصة حب مثيرة بكل تفاصيلها، استسلمت بكل بساطة لقرار والدها الذي منعها من الذهاب إلى الجامعة، على إثر إشاعة كاذبة دون أن تحاول إيجاد حل لمشكلتها أو تبرئة نفسها بل خضعت للسجن في غرفتها سنة كاملة!!! لتصبح فيما بعد خادمة في بيت زوجها مع فصول شتى من الذل والهوان، إن كانت من كتبَ عنها (جان بابير) فتاة قروية كنت سأ نصاع لكل ما قد جرى في هذه الرواية المحزنة، لكن ما حصل لهذه الفتاة يحيرني حد التوهان. ثم التعنيف الذي لاقته على يد زوجها، اغتصاب بالإصبع، ضرب، شتم وإذلال…! ألم يكن حرياً بها الهروب من هذا الجحيم؟
تناقض أربكني كثيراً وخصوصاً في عصرنا هذا…!
هناك أمر آخر وضعني في حيرة من أمري، كيف سَجنت هذه الفتاة نفسها في بيت أهلها مدة سنة ثم فرضت على نفسها العزلة هناك، لكي تتحاشى نظرات الناس بسبب الإشاعة، ثم تترك جارتها تشاهد ممارستها الجنسية مع آخر ليس زوجها، قد يجيبني الكاتب أن ما فعلتَهُ بريشان هو ردُّ فعل على ما عانته من عذاب وذل وهوان، لكن الأمر يحتاج إلى مناقشةٍ أعمق.
رواية (خيط واهن ـ إصدار دار آفا للنشر2020) بالمجمل جريئة وجيدة لكن كانت ستكون أفضل بكثير لو أن الكاتب ابتعد عن هذا التناقض الذي أثار تساؤلات عديدة لدي، بالإضافة إلى التكرار الذي اعتمده الكاتب في وصف حالة (بريشان) و(تاجين) والهوة التي كانت تكبر وتزداد بينهما، فالهوة موجودة منذ الليلة الأولى أو لنقل أنها كانت موجودة مذ عرض عليها العلاقة وهي في الجامعة. كذلك الرمزية في اسم (كعق) كنت أتمنى أن يترك الكاتب للقارئ أن يكتشف معناها والرموز التي تدل عليها. أتمنى أن اكون قد وُفّقت في هذه القراءة لأترك للقارئ أن يبحث في عوالمها فربما يكون له رأي آخر….!

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

جان بابير

 

الفنان جانيار، هو موسيقي ومغني كُردي، جمع بين موهبتين إبداعيتين منذ طفولته، حيث كان شغفه بالموسيقى يتعايش مع حبّه للفن التشكيلي. بدأ حياته الفنية في مجال الرسم والنحت، حيث تخرج من قسم الرسم والنحت، إلا أن جذوره الموسيقية بقيت حاضرة بقوة في وجدانه. هذا الانجذاب نحو الموسيقا قاده في النهاية إلى طريق مختلف، إذ…

عصمت شاهين الدوسكي

 

أنا أحبك

اعترف .. أنا احبك

أحب شعرك المسدل على كتفيك

أحب حمرة خديك وخجلك

وإيحاءك ونظرتك ورقة شفتيك

أحب فساتينك ألوانك

دلعك ابتسامتك ونظرة عينيك

أحب أن المس يديك

انحني حبا واقبل راحتيك

___________

أنا احبك

أحب هضابك مساحات الوغى فيك

أحب رموزك لفتاتك مساماتك

أحب عطرك عرقك أنفاسك

دعيني أراكي كما أنت ..

——————–

قلبي بالشوق يحترق

روحي بالنوى ارق

طيفي بك يصدق

يا سيدتي كل التفاصيل أنت ..

——————–

أحب شفتاك…

لوركا بيراني

في الساحة الثقافية الأوروبية اليوم، نلمح زخماً متزايداً من التحركات الأدبية والثقافية الكوردية من فعاليات فكرية ومهرجانات وحفلات توقيع لإصدارات أدبية تعكس رغبة المثقف الكوردي في تأكيد حضوره والمساهمة في الحوار الثقافي العالمي.

إلا أن هذا الحراك على غناه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى فاعليته في حماية الثقافة الكوردية من التلاشي في خضم عصر…

محمد شيخو

يلعب الفن دوراً بارزاً في حياة الأمم، وهو ليس وسيلة للترفيه والمتعة فحسب، ولكنه أداة مهمة لتنمية الفكر وتغذية الروح وتهذيب الأخلاق، وهو سلاح عظيم تمتشقه الأمم الراقية في صراعاتها الحضارية مع غيرها. ومن هنا يحتلّ عظماء الفنانين مكاناً بارزاً في ذاكرة الشعوب الذواقة للفن أكثر من الملوك والقادة والأحزاب السياسية مثلاً، وفي استجواب…