إدريس سالم
فيس بوك، هذه الشبكة الاجتماعيّة الزرقاء التي لم تعد تحمل لنا حياة هنيئة مستقرّة، فكثير من صراعاتنا النفسيّة تأتي منها، هي خليط من منشورات تتعلّق بأخبار عالميّة وأخرى محلّيّة وأخرى شخصيّة ودراسيّة مرتّبة وفق خوارزميّة غامضة وفوضويّة، خاصّة وأنها لا تفهم النفس البشريّة بقدر ما تفهمهما خوارزميّات الإعلانات التجاريّة المكثّفة والكثيرة، خوارزميّات معقّدة سبّبت لي مقداراً من التشتّت الذي لم أدرك عواقبه إلا مؤخّراً، فالتعرّض المستمرّ لهذه الكمّية الهائلة من المحتويات التي كنت أتابعها طيلة عقد من الزمن أثّرت سلبًا على خلايا دماغي، رغم تواجدي القليل عليها، حيث باتت قدرتي التفكيريّة على استيعاب ما يحدث في داخلي ومحيطي أمراً مرهقاً وتعيساً، وكأنني مصاب بداء الزهايمر.
علميّاً يقول خبراء الكيمياء أن مجالهم لا يستطيع تفسير كلّ الدوافع النفسيّة للإنسان، في حين أن شعور السعادة يترافق مع إفراز النواقل العصبيّة لها بأمر من الدماغ، وهي مادة أو هرمون يسمّى «الدوبامين»، المتحكّم بالاستجابات العاطفيّة والمسؤول عن شعور المكافأة أو الرضا بعدد اللايكات التي نالتها صورة أو فيديو أو منشور ما نشرناه على صفحتنا، وإفراز تلك النواقل يدفعنا إلى الحاجة للمزيد منها، ما ترتفع نسبة إحداث شعور الفرح لدينا مع التعرّض لنفس ذلك المُثير ومثيرات مرتبطة بها، فإدمان الفيس بوك لا يختلف من ناحية المبدأ عن إدمان المخدّرات، إذ يكون في البداية أمراً نفعله بإرادتنا، ثم يخرج عن نطاق سيطرتنا. ولا ننسى السيرُوتُونِين.
إيماناً بأن التواجد الدائم يسرق منا الوقت دون أن ندري أو نعي نتائجه الوخيمة على حياتنا، قليلاً ما كنت أتوقّف عند منشورات بعض الأصدقاء الصادقين، فأمنحها وقتاً وأنا أستمتع بفائدتها أو أهميتها الذهنيّة، في المقابل كثيراً وما إن أفتح حسابي صباحاً حتى يتعكّر مزاجي، فأشعر بخيبة أمل بسبب نشر أحد الأصدقاء كلاماً ليس له، دون أدنى اعتبار واحترام للخصوصيّة، ولو بوضع كلمة (منقول) في نهاية منشوره، كثيراً ما كنت أقرأ مشاحنات هنا ومشاجرات هناك بسبب سرقة منشورات أو تعليقات، حتى وصلت إلى حدود التفوّه بكلام خادش وانتهاك في الأعراض والأخلاق والتربيّة، فسرقة ومضة أدبيّة تعادل ارتكاب إثم عظيم.
عزيزي الفيسبوكيّ:
لا يعني وضع «اللايك» لمرّة واحدة أو بشكل متكرّر بأنك معجب بكلّ أفكار تلك الشخصيّة التي تنشر – سواء منشورات مأفونة أو بليغة – بقدر ما يدلّ على أنه ربما فكرة ما أو هدف أو رسالة تكمن خلف وضعك له. فكم من انتقام، أو توجيه رسالة، أو تحقيق هدف معيّن وصلت إليه خلف ذاك الزرّ الأزرق الأحمق الذي كرّهنا بالسماء والبحر، وبكلّ ما يربطنا بالأماكن المفتوحة والحرّيّة والخيال والإلهام، أو بالثقة والولاء والحكمة والاستقرار والإيمان…!!!!!
لكلّ مستخدم لشبكات التواصل الاجتماعيّ المتعدّدة حارة يصول ويجول في أزقّة لايكاتها وتعليقاتها ومشاركاتها ومشاهداتها، فدبلوماسيّاً قد يفجّر أو ينعش لايك واحد أزمة سياسيّة أو اقتصاديّة بين دولتين أو عدّة دول وأحلاف، فما بالكم اجتماعيّاً أو ثقافيّاً إن فجّرت أو أنعشت آلاف المشاكل الراكدة في عقولنا العارية التي تلتحف بخمولها ولا مبالاتها وتشبّثها بقشرة سميكة معفّنة.
ليت الفيس بوك كما كان منذ بداياته، حينما كان حكراً على مجموعة من المثقّفين تكنولوجيّاً، أما اليوم فصار سلاحاً فتّاكاً له نُصُول منها سامّة وحارقة وأخرى حامضة ومالحة والكثير منها كالحة ومُرّة، أيّ عبارة عن قصائد فوضويّة وقصص فارغة من القصص وألغام مزروعة في كلّ حقل شخصيّ، تخيّلوا معي أن صورة من كايلي جينر – Kalie Jenner على الانستغرام تتلقّى 80.000.000 لايك! إذ بذلك تتقاضى مليون دولار عن كلّ منشور ترويجي يظهر على صفحتها بحسب موقع خاصّ بمشاهير العالم.
بات قليلاً جدّاً أن يناقشك أو تناقش مستخدماً لهذه الشبكات – قريباً منك كان أو غريباً عنك – ويناقشك حول صورة نشرتها أو فكرة كتبتها، ويمنحك رأياً موضوعيّاً يفيد نفسه ويفيدك، بل على العكس، نسبة كبيرة منهم تجده يثبت لك بأدلّته الدامغة في أنه مستخدم فعّال، وأنه يراقب تحرّكاتك من خلال محادثاتك، أو تعليقاتك، أو لايكاتك، حيث يستطيع أن يتكهّن أو لأكون منطقيّاً يثبت لك متى نمت، ومتى فقت، وكم مرة فقت من نومك، لدرجة أن الشكّ أو اليقين يلتحفانك في أنه تابع لإحدى أجهزة مخابرات الفيدراليّة الألمانيّة أو مخابرات الـ CIA أو الموساد…
ربما صار اللايك دين ووفاء، أو أحد معايير البطولة واستعراض العضلات المطعّمة بهرمونات الجهل وغياب الوعي وفقدان الإحساس بالآخر الذي يتربّص به الجوع والفقر والحرب، خاصّة وأن برامج التواصل الاجتماعيّ غيّرت من شكل الحياة على وجه الأرض، والتغيير لم يتوقّف عند حدود التشارك المحمود أو المذموم في الفكرة أو المعلومة، بل وصل التغيير إلى أقصى نقاط العمق في أرواحنا ونفوسنا والتلافيف الداخلية لعقولنا، مشوّهاً الكثير من قناعاتنا ومسلّماتنا وأخلاقيّاتنا، فباتت حياتنا هشّة لا طعم لها ولا رائحة، ليصبح هذا الموقع مرتعاً للأدمغة الغافية والمحادثات الغبيّة، ولو نسبيّاً.
كثيراً ما كنت أقرأ عبر صفحتي في الفيس بوك أو تويتر ومضة شعريّة ينبثق منها النغم والخيال والصور والأفكار السامية والرسائل الإنسانيّة لشاعر له باع طويل في كتابة الشعر وقراءة الكتب الثقافيّة والمعرفيّة، فلا أجد إلا ثلاثين لايكاً بارداً أو عشر تعليقات متكوّرة. كثيراً ما كنت أقرأ مقالة فكريّة فلسفيّة أدبيّة نقديّة مليئة بالأفكار الجديدة والمبادئ المنعشة بفعل مواقف إنسانيّة حيّة يتميّز بها كاتبها أو مفكّرها أو ناقدها، فأصطدم بوجود عشرين لايكاً تنحني خجلاً وخمس تعليقات. كثيراً يا أصدقائي ما يأخذني التأمّل ويسرقني من نفسي ويرميني إلى أماكن بعيدة العودة منها تحتاج إلى أسابيع وشهور، والاستيقاظ منها إلى سنين طويلة، عندما أشاهد لوحة فنّيّة تشكيليّة تعبّر عن الواقع البائس اليائس، أو كاريكاتور يعادل كتابة ألف مقالة سياسيّة واجتماعيّة، وكان ذاك الفنّان التشكيليّ أو الكاريكاتيريست قد سهر وتعب أياماً وليال حتى أنجزها أيقونة فنّيّة قد تخلّده وتخلّد بلده، فيأتي مَن يقيّمها بسبع أو خمس لايكات، ويرميها بكلمة (مبدع، رائع، واو) بكبسة زرّ ليقول في قرارة نفسه: (وهاي علقنالك).
أما إن كان ذاكر الشاعر أو الكاتب أو الناقد أو الفنّان فتاة جميلة أو امرأة جذّابة، فالحقيقة حتماً ستختلف، ولو نسبيّاً، وهنا لا أقصد ولا أريد أن أنقص من قيمة وإبداع الأنثى بقدر ما أن الجيل الراهن – بنسبته الكبيرة المستفحلة – يلهث خلف كلّ ما هو ناعم ومعسول، فكم من قصيدة هابطة ركية كتبتها شاعرة فوجدنا عليها آلاف التعليقات واللايكات! كم من مقالة تفتقد إلى الأسس الكتابيّة لكاتبة تبحث عن الأضواء فكان كلامها ملتحفاً بمئات من تعليقات الثناء والمديح ومطالبتها بالمثابرة والاستمرار وعدم الاستسلام! كم من مغنّية لا تفقه الغناء شيئاً، لا تفقه الموسيقى واللحن شيئاً، لا تفقه الطبقات الصوتيّة شيئاً فترى كليبها أو أغنيتها قد أحدثت ضجّة إعلاميّة؛ ليس لأنها أنثى أو جميلة، بل لأننا نكرات مريضة، مشوّهون فكريّاً وناقصون معرفيّاً، ولا تعتقدوا بأنني بمستثنٍ عن ذلك، فأنا أوّلهم.
ولأنني قرّرت ألا أكون مثلهم فستقرؤون قراري ورأي وموقفي حول أزمة اللايك، لكن أرجو الآن أن تتابع قراءة المقالة حتى آخرها.
إن الطريقة التي بات يسلكها الكثيرون منا للحصول على كلّ هذا التدنيّ الأخلاقيّ المقيت، وتقديم تنازلات ليس مضطرّاً لتقديمها، والطعن في ثوابته قبل ثوابت غيره، والتباحث في قشور تهريجيّة، بات هو الهدف الأسرع والأسهل تحقيقه والأكثر ضماناً لتحقيق (اللايك)، لدرجة أن واضعه أصبح ذاك البطل الذي يجرؤ على انتهاك المقدّسات العامّة والشخصيّة، واستفزاز الناس في عقائدهم وثوابتهم وآرائهم.
هنا دعونا لا ننسى فكرة أن كلّ شخصيّة صارخة ومتمرّدة على مواقع (الدمار) الاجتماعيّ ليست كذلك على أرض الواقع، فكم من أسد زأر على هذه المواقع كان في الحقيقة قطّة تعيسة تحبّ المظاهر!! إذاً الموضوع متداخل جدّاً في موضوع أكبر وأتعس وهو التزييف الروحيّ الذي يفتك بنا.
أذكر في حديث لي على الهاتف، بينما كنت أقرأ في الحديقة المجاورة لمنزلي، أن صديقاً كاتباً قد هاتفني، وناقشني في أمور تتعلّق بكتاباته، كنت قد قلت له أن مائة صديق يتفاعل مع منشوراتك، فتدرك بقيمة الكلمة التي تكتبها أفضل من خمسة آلاف صديق مكدّس كأشياء كثيرة لا ضرورة لتخزينها في سقيفة البيت، ليصدمني بجواب مرعب مبشّر بقادم أسوأ من الحروب المسعورة والطاحنة:
«لا يهمّني أن يقرؤوا أصدقائي، فاللايك يا إدريس في كثير من الأحيان تعبير حقيقيّ عن متابعتهم لما أنشره واهتمامهم بما أكتب، وهذا ما أريده أنا أو هذا هو الأصحّ من وجهة نظري».
إذاً الخطر الأكبر من كلّ ما حاولت توضيحه أو البوح به كوجهة نظر بحتة هو أن مؤشّرات اللايك تخطّت دلالاتها على قيمة المشاركة في ذاتها، بل أصبحت تشير إلى المكانة الثقافيّة والسياسيّة والاجتماعيّة لصاحب المشاركة أكثر من دلالتها المعنويّة على الإعجاب بالكلمة المكتوبة أو المرئيّة أو المسموعة، أو حتى الصورة واللوحة الفنّيّة، فمَن يملك لقاحات فكريّة لوباء التفاهة، ويمتلك القدرات الكافية في سبيل إيقاف الركض المحموم خلف هوس اللايكات والمشاركات المستفزّة على طريقة ما يطلبه التافهون؟
أحياناً هناك حلول تظهر فجأة وبقدرة ربّانية، أو حلول تُفرض نتيجة الظروف القاهرة، وهناك حلول تُخلق دون تخطيط وذلك بالهروب من المشكلة المعقّدة أو الأزمة المستمرّة، تماماً كالهروب من الموت والسنوح بفرصة أخرى لشمّ رائحة البقاء، وهذا ما أنا بفاعل، إذ أعترف بأنني قرّرت – بعد تفكير طويل مشبع بقناعة تامّة – الهروب من عالم مواقع التواصل الاجتماعيّ، وكسب ضميري وروحي وما تبقّى مني كمشاريع كتابيّة مستقبليّة، وفضّلت الانزواء بمفردي في التحليق مع شؤون وشجون عائلتي والاختلاء بالكتب والكتابة، وفتح قنوات تواصل اجتماعيّة ثقافيّة (محدودة) مع الأصدقاء والكتّاب والصحافة عبر بريدي الالكتروني الذي سأدرجه في نهاية المقالة، أو التفاعل عبر صفحتي الرسميّة على تويتر.
أعترف بأنني لم أستطع تحمّل حنجرة مشعوذين ودجّالين في عالم الأدب، لذا قرّرت الرحيل. بتّ أفتقد إلى روحي وعقلي والخوف من ضياعهما أكثر في هذا العالم العجيب والغريب والمرعب، لذا قرّرت الاحتفاء بما أشعر وأعاني خلف الأضواء. أعترف بأن اللايك، التعليقات، البوستات، والمستخدمين… هزموني هزيمة مؤلمة، لكنهم لم ينتصروا على قلمي، فلم يقرع الفشل بابي، لكن خيبات موجعة طرقت زجاج نافذتي مرّات ومرّات، لذا سأبتعد لأرمّم زجاج ذاتي المكسورة. باقٍ أنا، ولن أرحل، حاضر بين متن الروابط وأقسام المواقع.
مَن يحبّني ويؤمن بقلمي سيتنفسني ويقرؤوني في المواقع الالكترونيّة التالية: موقع سبا الثقافيّ، موقع ولاتي مه، الحوار المتمدّن، الترا صوت، ضفّة ثالثة، جمعيّة الأوان، أنتلجنسيا، باسنيوز، رووداو، ألف، طنجة الأدبيّة، مصر العربيّة، والكثير الكثير من المواقع الثقافيّة والأدبيّة والفنّيّة.
أخيراً:
عندما أرسلت هذه المقالة إلى فتاة عشرينيّة طموحة – تحتلّ مكانة في حياتي كالتي تحتلّها عائلتي – سألتني في نهاية رأيها على المقالة أسئلة كانت ذي دهشة وصدمة كبيرتين:
أيعقل أن تصبح أروحنا مبرمجة إلكترونيّاً؟ أيعقل انقراض الإنسان على هذه الشاكلة؟ ماذا لو أقيم لمدّة شهر واحد حظراً شاملاً على جميع مواقع التواصل الاجتماعيّ من قبل مؤسّسي شركات إنتاجها، رغم أن الفكرة اقتصاديّاً مستبعدة كلّيّاً؟!
إدريس سالم