إبراهيم حسو / سوريا
الظاهر أن الشاعرة السورية خلات احمد مرتاحة و راضية جدا عن ما كتبته في مجموعتها الشعرية الأخيرة ( مذكرات زهرة الاوكاليبتوس) المطبوع حديثا في عمان الأردن , والدليل أنها تهتم كثيرا لما يكتب عنها في الصحافة العربية والمواقع الالكترونية الأدبية, ورغم تناول العديد من الكتاب ( سواء كانوا نقادا أو ممن يجدون ضالتهم في نقد الشعر الحديث ) في تحليل هذا الكتاب ووضعه تحت مجهرهم النقدي إلا أنهم احتاروا في تسمية الشاعرة هل هي شاعرة سورية أم سويسرية ؟
وان كانت التسمية هنا مهمة بالنسبة للنقاد إلا أن الأمر يبدو عاديا جدا بالنسبة لقراء العربية باعتبار أن الكاتبة هي كردية و تكتب بالعربية أما قراء الكردية الذين لهم تذوق نقدي خاص فقد وضعوا خطوط حمراء و صفراء هنا و هناك خاصة على قصائدها التي تتناول سيرة الكرد, لكن المثير هنا أن الشاعرة خلات رغم تجربتها الممتدة من أوائل التسعينات لم تستشر أي من هؤلاء الكتاب الذين يمارسون النقد الشعري ليقدموا لها النصيحة والمشورة في إمكانية إنقاذها من هذه (الكردايتية) التي يبدو انها ستطغى على مجمل النتاج الشعري الكردي, وهي التي سارت على طريق الشعر دون أن يمسك بيدها احد رغم هجرتها القاهرة إلى سويسرا, بلاد البرد والحريات, والجميل أن الشاعرة خلات قد أصدرت فيما قبل كتابا آخرا هو ( الترياق ), و كان هذا الكتاب بداية مشجعة ومهمة لمشوارها الشعري بين مدينتها ديرك في أقصى الشمال السوري و مدينة زيوريخ التي تعيش فيها الآن, وهي تختزل تجربتها الحياتية التي عاشتها في سورية هذه المنطقة المزدحمة بالأساطير اليومية والجغرافيا الموحلة بتضاريس الشمال, ورغم هذه البداية المثيرة, تحاول خلات استفراخ مخيلتها الشعرية و تبديلها بهذا الكم الهائل من التداعيات الصورية المتلاحقة, لتحاول الإمساك باليوميات التي تحفزها لها ذاكرتها الشعرية, و لكنها تبقى أسيرة التداعيات التي تحركها ( لذة الذاكرة ) .
في هذا الحوار الذي خصص عن كتابها (زهرة الاكالبيتوس ) قراءة أخرى وهي ليست بالتأكيد قراءة مجهرية وأنما قراءة استفزازية أو استنطاقية كما يقول جاك دريدا لدى محاكمته للشاعر.
زهرة الاوكاليبتوس عنوان عادي رغم وجود شاعرية ما وراء اسم( الاوكالبيتوس) هل وراء هذه التسمية معنى أخر غير ما هي دلالة الاسم ؟
العنوان الكامل هو ” مذكرات زهرة الأوكاليبتوس ” وطبعاً مكتوب على الغلاف شعر. ضمن قوسين أسفل العنوان العربي مكتوب بالكردية ” lawiko heyran” . كيف يمكن أن تكون المذكرات شعراً كيف يمكن أن يكون السرد شعراً؟ هذه هي أحدى محاولات الكتاب ككل, في النصوص تحديداً. محاولة مد جسر بين السرد والشعر كحالة تكاملية أكثر منها تجاورية.
لم أفكر كثيراً بالشاعرية التي وراء كلمة الأوكاليبتوس, لكنها كانت المرتكز الذي قام عليه النص من ” ديرك” حيث كنت ألعب في ظلالها, حتى عبقها في ساونا زيورخ. قال الناقد محمد العباس أنني بأختيار ” زهرة ” أتحداها ضمنياً.
كلمتي ” lawiko heyran ” هما عادة ً مبتدأ نوع من الغناء القديم المنتشر في منطقتنا والذي تغنيه النساء أو يغنى على لسانهن, وتتضمن الأغنية عتاباُ للحبيب كمتن وعلى هامشها ترد أحداث تاريخية وأوصاف لأحوال الناس والمدن وأشياء أخرى, أكثر من نص في الكتاب مبني بهذا الأسلوب. الى أي حد نجحت في غناء اللاوك الكردي الأصيل باللغة العربية الفصحى ؟ لا استطيع أن أقول أنا ذلك.
زهرة الاوكالبيتوس تخطت النثر و قفزت على ما هو أعلى من الشعر , هناك تزاوج إذا بين النثر بوصفه شعرا و الشعر بوصفه نثرا علام يثمر هذا الزواج ؟
لا أعرف هل من الضروري أن نعود هنا لمناقشة قصيدة النثر, أو الشعر المنثور, أو القصيدة بالنثر كما يحاول بعض النقاد المغاربة مؤخرا تصحيح المصطلح قياساُ على الأصل الفرنسي. ومع ذلك يبقى هناك فرق بين الشعر بوصفه نثراً والنثر بوصفه شعراً, ليس في الشروط الشكلية فحسب بل أيضاً في البنية السردية التي تتوفر على ” الحكي “. قصيدة النثر تغري بالإسترسال فيها حتى يفقد الشاعر/ة أحياناً الحدود بينها وبين النثر وأحياناً يذهب إلى النثر راضياً وهو أصلاً كان يعني الشعر وهنا يتوالد النص المفتوح. الأمر فعلا يحتاج إلى قدرة كبيرة للمحافظة على حدود الشعر في النثر, هذه القدرة لها أكثر من مرتكز معرفي وحسي ولغوي.
وان كنت سأتخطى استعمال الخطابية في مقاطعك الأخيرة, ثمة ارتباك فظيع بين الجمل الشعرية إلى درجة الخوف من ضياع المعنى و تعميم الفوضى في تراكيب هذه الجمل , هل تخافين أن تصاب جملك الشعرية بحمى الفوضى بحيث لا تستطيعين السيطرة على السياق و من ثم الانزلاق في النثر العادي ؟
البارحة شاهدت في قناة ألمانية رجلاً أمريكيا يقود طائفة من الشباب المسيحين في إحدى المدن الألمانية في طقوس تشبه الدروشة, هو يعتقد أن الله أختار ألمانيا والشعب الألماني ليقودا تغييراً جديداً في روحية وأخلاقيات العالم. بينما تقوم السيدة ميركل بزيارة شعب الله المختار في إسرائيل وهو يقيم الحائط العازل بينما يرتمي الفنان الفلسطيني طه على الرمل في غزة لكي يصور زهرة بنفسج. تركيا تهدد بإجتياح العراق بينما هم يقطعون رؤوس بعض ويمثلون بالجثث باسم الله. في أفغانستان تطارد القوات الأمريكية قوات طالبان في الجبال بينما يقتل رجل أفغاني زوجته الشاعرة. في ديرك يقتل شاب كردي في أول عمره فتكتب شاعرة من كندا أن الكرد أحرقوا مكتبة في ديرك ….في حين تنتحر كل عام أكثر من 500 امرأة كردية في كردستان العراق بسبب الظلم الاجتماعي. أية معقولية في هذه الأحداث؟ أين تبدو الفوضى أكثر , في النص أم في الواقع ؟ الشعر لغة الحلم والنثر لغة الواقع, هل يمكن بهذا الشكل أن نقول أن النص مرآة للواقع بطريقة ما, أو هو يحاول أن يكون كذلك؟
الخوف من الإنزلاق في النثر العادي بقي ملازماً لي طوال النصوص , خاصة في نص” أنا صباح الأضحى في هولير” حيث المادة الأساسية للنص تاريخية وكل مقطع يحتمل العديد من الصفحات, كان جهداً منهكاًوإصراراً على المحافطة على الشعر في النثر آمل أني نجحت أحياناً في تحقيق توازن جميل بين الشعر والنثر.
في ” مذكرات زهرة الأوكاليبتوس” كان هناك نية مسبقة للسرد لذا كنت أتحرك بأريحية أكثر. وبلى كنت أخاف من ضياع المعنى في فوضى الجمل, وهذا خوف مشروع في نص يتقصد كل هذه الفوضى ليصرخ بفقدان التوازن, يخوض في الألم ليدل على إمكانية الحب.
كان من الممكن أن يكون النص مشروع رواية, أو أدب رحلات, أو حتى مقالاً, لكن أصراري على الشعر دفعني إلى محاولة اقتراح كل ذلك في نص مفتوح يصبو إلى الشعر.
الآن وأنا أعيد معك قراءة النص ألاحظ أن الفوضى هي في الأحداث وليس في تراكيب الجمل, ربما أيضاً في طريقة الربط بين الأحداث, هل توافقني ؟
اعتقد أن الخوف مشروع هنا طالما أن البحث عن الشعري يتطلب ذلك ؟
الشعر كان حاضراً, ربما أيضاً وبطريقة ما في تلك الفوضى, لكن الخوف من الإغراق في السرد هو الذي كان يحتم المحافظة عليه ومحاولة تقديمه كلما سمح النص بذلك.
في نص ( قامتي الرمح المزين بألف جديلة ) تتخطين الخوف و الارتباك و فوضى الجمل و حتى النثرية بحيث أراك تعيشين في ورشة إصلاح لا تتوقف إلا وهي تخرج بجسم شعري خالص له روح و دم و وجه و جمال , هذا النص هو دخول صريح إلى بوابة الشعر الحقيقية ؟
أفلت الشعر مني قليلاً وأنا أفلت من السرد قليلاً مع أن ملامح كليهما موجودة فيه. يبدو أن هذا النص هو النتيجة, لنقل الشعرية, للمحاولات العديدة في النصوص الأخرى. فإذا كان الشعر قادراً على أن يكون في ثوب النثر من حيث الشكل, ويكون النثر مكتنفاً بروح الشعر بالحسية العالية في تراكيب الجمل ولغة النص. فإذاً يمكن فعلياً أن يكون السرد والشعر في حالة تكاملية عبر النثر, نثر يتناهد إلى الشعر حد التعالق معه.
لا اعرف لماذا تصرين أحيانا أن تكوني كردية في شعرك , فأنت معروفة في الوسط الثقافي الكردي و العربي بأنك كردية و بأمتياز , و حان الوقت أن يتحرر الشعر من حضانة ( السياسة ) ليتفرغ إلى حياته و يعيش جنبا إلى جنب مع شعريات عالمية , كما يبدو في النصوص الأخيرة إصرارك الملح على ( الكردايتية ) قد أرهق و اتعب النص , وربما في المستقبل ستعانين من ذلك ؟
ماركيز يكتب عن كولومبيا ومحفوظ يكتب عن مصر وإيزابيل إللندي تكتب عن تشيلي, ومحمود درويش يكتب عن فلسطين, فلماذا يكون غير مقبول أن أكتب عن كردستان ؟ أن أصر على كرديتي لا يعيب شعري خاصة وأنا أكتب بلغة ليست كردية, وإذا كان ثمة إرهاق ما في النص من هذه الناحية فهو في طريقة تقديمي له وليس في الكردايتي نفسه, ربما يكون أستخدامي لمرات عديدة لأسماء وأماكن وأحداث كردية دوراً في توليد هذا الرأي, لكن النص كان يتطلب ذلك, على الأقل من وجهة نظري إبان كتابته.
لماذا نعتقد أن كرديتنا ستصبح مانعاُ في أن يكون لشعرنا أيضاُ متسع بين الشعر العالمي. في الحال طرحت على نفسي سؤال عن كيف سيحضر الشعر الكردي في الشعريات العالمية بلغة ليست كردية؟ أليس هذا مؤلماً؟أليس كل هذا الألم جديراً بأن يكتب؟
لا أغفل هنا التجارب الجديرة بالتقدير لشعراء كرد يكتبون باللغة الأم.
عن حضانة السياسي للأدبي, فلم يحدث أني قدمت في أي نص أو قصيدة رؤية سياسية بقدر ما طرحت الألم الكردي وقضيته من ناحية إنسانية.
شعراء عالميون كتبوا في حضانة السياسة, وأنا هنا لا أبرر هذه الحضانة بقدر ما أدافع عن مادة نص طرح نفسه, لا يمكننا أن نكتب منفصلين عن الظروف المحيطة بنا, نحن في النهاية نعيش تلك الظروف ولسنا في حلم , لكن هذا كله لا يمنع بالطبع من أن يكون الشعر حريصاً على جمالياته كفن قائم بذاته, هذه مسؤولية الشاعر/ة.
( غابة منّي ) هي نصوص قابلة أن تكون أكثر من مشروع نثري , ثمة مجال كبير أن يتوسع المعنى هنا و يتقلص معنى هناك, و يبدو انك تملكين كل مستلزمات توسيع هذا المشروع , في داخل كل مقطع هامش يمكن أن يكتب فيه و يمكن أن يحذف , بمعنى هناك نص قابل أن يكون كل شئ و هذا هو المثير برأي ؟
معظم الكتابات النقدية التي تناولت الكتاب حتى الآن توقفت عند هذه القصيدة, مع أنها لم تأخذ الوقت الذي أخذته بقية النصوص, يبدو أنه الإلهام, الألهام الذي هو بدوره تراكم معرفي وحسي في اللاوعي ينبثق في لحظة النضوج على شكل سيل من الصور, تأتي حاملة كلماتها معها, سيل يجرفني معه بحيث لا أتوقف عن الكتابة إلا والقصيدة على آخرها, شئ ما يشبه نفسا عميقاً من الأوكسجين الثلاثي بعد لحظات من التوقف عن التنفس. كل نص قابل لحذف بعضه وكل نص قابل لتوسيع بعضه وغالباً أميل إلى الحذف.
دعنا نغرق في هذا الإقتراح قليلاً. لنتناول مثلاً ما أقترحه الشاعر طه خليل في مقاله عن الكتاب, تحديداً في قراءته لقصيدة ” عصافيرها” هو يقترح حذف العديد من الجمل لتبقى على الشكل التالي:
” الشجرة التي سأغرم بها
غردتك لها
قاسمتني سيرة التراب”
بالطبع يمكننا الحذف, لكن حذف جمل ” بعد قليل, داعبتني بكل عصافيرها, صدقتني , المجنونة” يحذف الكثير من روحية النص التي أردتها له, يعني تنتفي روح الشيطنة التي أردتها في المرأة التي ستغرم بشجرة وتشاكس رجلها بمداعبة العصافير لها وأيضا المداعبة الحلوة في أنها لا تعني ما قالته حقا لكن الشجرة مع ذلك صدقتها. تلك كانت قراءة طه وأنا قدمت قراءتي , سيكون لكل قارئ قراءته الخاصة, يعني النص الصغير هذا يحتمل العديد من القراءات , وهذا يربت على القلب قليلاً, قلبي أنا.
أيضا في ” غابة مني ” يقول طه بأنه قادر على أن يغلق عينيه على الشعر كله في جملة شعرية واحدة هي ” إنا شجرة الرمان النحيلة ” من قصيدة ” بما يكفي ” ويقدم قراءته لها. الآن لو أنا أردت أن أقول يا خلات لماذا تصرين على تقيد خيال القارئ بإضافة صفة نحيلة لشجرة القصيدة, أحذفي الصفة لتبقى العبارة فقط ” شجرة الرمان ” واتركي للقارئ أن يتصور شجرته كما يريد , نحيلة , ثخينة , متآكلة, يانعة, مثمرة, معطوبة. ثم جئت وقلت لماذا تصرين على شجر الرمان, لماذا لا تكون شجرة تفاح أو خوخ مثلاً, لا تحتاجين فعلياً لتحديد نوع الشجرة أحذفيها, فتبقى الجملة مكونة من كلمة واحدة هي” شجرة “. حسناً ألا يمكننا فعلياً أن نحذف هذه الكلمة ونصل بالقصيدة إلى مرحلة الصمت ؟ أليس الصمت هو الذي نسعى إلى كتابته بميلنا المستمر للكثافة؟ لكن الصمت يحتاج إلى كلمات تقوله. هل يكفي هذا لكي نترك شجرتي الرمان النحيلة تعيش عالمها؟
أفكار كبيرة و حجج و أسباب و تلميحات و حلول وقراءات و كل هذه الأشياء لا تنفع الشعري و لا تعطي دلالة واحدة لقيمية الكتابة الشعرية , الشعر ضد الإيضاح و التبرير ضد الإصغاء و نعم ولا , الشعر هو بحث عن أقدام جديدة للصورة , وأيدي للأفكار التي تتوالد , و فم واسعة للكلمات الآتية ؟
نحن نحاول إلى الشعر, كلٌ منا حسب رؤاه وإدراكه للمعنى الشعري. نحاول في كل قصيدة جديدة أن نقترب خطوة أخرى من الشعر, الشعر الذي يبقى أعلى, يحدث أننا نكرر أنفسنا ولا نلاحظ ذلك, لكن حتى هذا التكرار ضروري أحياناً شرط أن لا نسرف فيه, حتى تترسخ الخطوة ونستطيع أن نرى بوضوح أننا لازلنا في ذات المكان ولابد من أن نذهب أبعد من هذا. المثير في الأمر هو أننا كلما أقتربنا خطوة أدركنا أكثر كم لازلنا بعيدين, وكم من المتعة لا زالت تنتظرنا في محاولتنا إلى الخطوة الثانية, كم من الكلمات والمعاني والتراكيب تنتظرنا لنقلب حالها ونلعب معها ونشاكسها في الفضاء اللامتناهي للشعر.
أعود إلى النصوص الأخيرة و التي أخذت الكثير من وقتك , و أرهقتك على الرغم من الفوضى بين الجمل كما ذكرنا, أعود و أقول أن ( مذكرات زهرة الاوكاليبتوس ) لا يمكنه إلا أن يكون نصا نثريا خالصا و أن بدت عليها علائم منيرة هنا وومضات شعرية هناك , نص كان يمكن اختزاله وإبقاءه ضمن ( القراءات السريعة ) و أن كنت لا أحبذ هذه القراءات لأنها مضيعة للوقت و الجمال ؟
ربما في النصوص هناك بعض الإسترسال الذي كان من الممكن تلافيه, لكني أعتقد انني في القصائد القصيرة تجاوزت هذا الأمر الى حد ما وركزت لغتي الى أقصى حد أستطيعه, ربما ان النصوص أعتمدت في بناءها الأساسي على السرد ولهذا فقد تمكن مني أكثر مما ينبغي, أعني الإسترسال, ومع ذلك , فإن كل مقطع من النصوص مبني أصلا على حادثة تاريخية ما تحتمل صفحات وصفحات …………!!
———
عن جريدة الزمان