مصطفى المفتي
من قال إنّ الصّور لا رائحةَ لها، انظر إلى صورتك وأنت صغير.. ستشمُّ رائحتك القديمة، وسينبتُ الريحان في دروب ذاكرتك لثوانٍ، أما صورتك وأنت شاب قوي، ستفوح منها رائحة عزة النفس التي ولدت معك وستنتشي فرحاً وأنت تقلب ذكرياتك فيها، أما إن شاهدت نفسك بلباسٍ يغزوه الغبار وحُطام الأبنية ملطخاً بدماء إخوتك، فلن ينبعث منها سوى رائحة ذلٍ وقهر وهوان، ستحاول جاهداً تمزيق هذه الذكريات ولن تستطيع، فهي حيةٌ فيك ما دمت حياً.
قبل أيام وأثناء تصفح كريم للأنترنت، وقعَ نظره على مقطع متداول لأحد الأشخاص وهو يقوم بأكلِ ديكاً كاملاً لوحدهِ مع الأرز الموجود في الطبق، كرهانٍ مع زميلٍ لهُ، كان يأكل بنهمٍ وجشع وبشكلٍ مقزّز، متناسياً أنَّ هناك عوائل لم تذق طعم اللحم منذ شهور، استدار كريمٌ إلى زوجته وسألها: هل تذكرين طعم الدجاج؟ ضحكَ بهمس حين ابتسمت زوجتهُ، أغلقَ هاتفه وأسند رأسه إلى وسادتهِ لينام.
لاحقاً وفي ذلك الصّباح خرج كريم من المخيم الذي يضمه وعائلته إلى ساحة المدينة المجاورة لعلَّ الله يرسل له رزقاً، كان يرفض الذهاب إلى المنظمات لِما فيها من ذلٍّ ومهانة، ويكتفي بما يسوقه الله من رزقٍ يجنيه بذراعه وعرق جبينه.
حين عودته دخلَ خيمتهُ ينفضُ برعشاتٍ أثر البرد الذي أكل جسده منذ الصباح، وبيده يحمل كيساً فيه بعض الخبز، نظر لطفليهِ.. كان أحدهم يحمل تفاحةً ينظر إليها بحيرةٍ لا يدري كيف يأكلها، أما الآخر فكان يحمل لعبةً جديدة وكان ما يزال رضيعاً.
التَفتَ حوله باحثاً عن زوجتهِ، شاهد أحد الأطفال يركض فرحاً وبيده لعبةً كالتي بيد طفله، أوقفهُ وسأله: لِما أنت في الخارج؟ البرد قارص أين كنت ومن أعطاك هذه اللعبة؟..
ردّ الطفل والفرحة ظاهرة في عينيه: قد ذهبت للحصول عليها.. إنهم هناك يحملون ألعاباً كثيرة يوزعونها للأطفال.
في تلك الأثناء شاهد زوجتهُ قادمة، كانت الابتسامة تتربع على عرش وجهها البائس، ابتسم حين رآها.. لم يغازلها كعادتهِ.. ولم يُعكّر عليها ابتسامتها، لكنه نظر إليها بطريقةٍ لم تكن قد اعتادت عليها.
أخرجت من جيبها بطاقةً بقيمة عشرة آلاف أي ما يعادل ثلاثة دولارات، ليشتروا بها من متجرٍ محدد، ثم قالت: غداً وأنت قادم أحضر لنا ما تراه مناسباً
سألها باستغراب: من أين حصلتِ عليها؟
قالت: إنَّ شابّين يجولان الخِيام يسألون الناس أسئلةً، فإن أجابوا بشكلٍ صحيح يحصلون على بطاقةٍ كهذه.
لم يتفوه بأيِّ كلمةٍ، خرج من الخيمة باحثاً عن الشابّين لمعرفة ما ورائهم، شاهد تجمهراً من بعيد فقصدهم، وقف جانباً دون أي كلام، شاهد النساء والرجال يلتفون حول أحدهم يريدون أن يحصلوا على مقابلة ليربحوا تلك البطاقة، لم تكن تصرفات الشاب معهم تمتّ للإنسانية وكانت تفتقرُ لكلِّ أشكال الاحترام، وفي زاوية أخرى رأى الآخر وكان يحمل بيده مسجل فيديو، يحاول إبعاد الناس بالصراخِ تارةً وبدفعهم تارة أخرى ليبدأ بتصوير مشهدٍ جديد.
تذكر الشاب فور رؤيته، هو صاحب الرهان، بالأمس خسرَ كرامتهُ وهو يأكلُ كحيوانٍ هائج، واليوم يتجول بين الخيامِ يشتري بأبخس الطُرق والأثمان كرامةً قد دفعنا ثمنها غالياً، فقط ليرفع من اسمهِ على حساب اسمائنا.
عاد إلى خيمته مسرعاً وأخذ البطاقة من زوجته وقال: لِما شاركتِ بهذه القباحة، يريدون أن يجعلوا من أنفسهم أبطالاً على حساب كرامتنا، وهم لا يرجون منفعةً ولا يبغون وجه الله بذلك.
قالت: لم أكن وحدي ولم أخسر كرامتي، كانوا يسألون أسئلةً خفيفة فأردّتُ أن أشارك، ما الضير في ذلك؟
لم يجبها وخرج مسرعاً إليهم واقتحم تجمهرهم وقال: أنا أريدُ أن أشارك في برنامجكم ولكن بشرط، أنا أسأل وأنت تجيب، ضحك الشاب وقال له إنّها جديدةٌ عليّ لكني سأفعل.
وقف الشاب أمام الكاميرا بعد أن سألهُ عن اسمه وقال:
معنا الأستاذ كريم سيكون هو من يسأل وأنا بدوري سأجيب عليهِ.
نظر كريم في عيون الشاب وقال: في وضعنا هذا وضمن هذه الحرب والظروف التي مررنا بها، برأيك ما هو أغلى شيء تبقى عندنا وعلينا الحفاظ عليه؟
ابتسم الشاب ثم قال بلهجة منتصر ” الكرامة “
فردّ عليه كريم بكل سخرية: مبارك لقد ربحت معنا، خذ هذه البطاقة فيها عشرة آلاف واشتري لنفسك كرامةً تقي بها ما تبقى من ماء وجهك.
إن أردت وجه الله في تصرفك فلا تُحرج الناس أمام كاميرتك هذه، أم إنك تريد التفاخر بما تصنع وتجعل من نفسك بطلاً، والله لن تنالها على حساب كرامتنا.