أحمد عبدالقادر محمود
لقطة راقصة باليه مبتدئة ، نُشرت على الفيسبوك أثارت لغطاً واسعاً وجدلاً صاعدا بين مؤيد ومعارض و مباركٍ ورافض .
الحدث بإختصار ، صورٌ مأخوذة بعناية وربما إحترافية لفتاة تؤدي عدة حركات من رقصة الباليه في إحدى الأسواق التجارية المغلقة تماماً لمدينة القامشلي الوادعة بسبب الحظر ‘ تماشيا مع قواعد الحماية من تفشي الإصابة بفيروس كورونا . كي نفهم دوافع هذا الجدل حول هذه الحدث من جهة ، ولماذا وقع الجدل أصلا من جهة أخرى ، لا بد من الإحاطة أولا بالحدث ذاته من حيث كونه عملٌ فني جمالي غير مسبوق وقع في مدينة لم يشاهد أهلها منذ نشوئها إقامة هذا النوع من الرقص ، فردياً كان أو جماعياً ،لا في ساحاتها أو شوارعها أو صالاتها ، بالإضافة لعدم وجود صالة مخصصة لأداء هذا الفن من الرقص أصلا في القامشلي وربما في أغلب مدننا السورية .
والاستعانة بحقلٍ معرفي يدرس ويبحث في ماهية مثل هذه الظاهرة الإجتماعية ثانيا .
هذا الحقل المعرفي الذي بات راسخا في الدراسات الحديثة يدعى السيميوطيقا أي علم العلامات و بمعنى أوضح هو علم معني بالدال والمدلول ، لن أسهب كثيرا في التطرق لهذا الحقل المعرفي الذي بات واسعاً الأن ، فليس هو مناط المقالة وغايتها ، إنما كما قلت سنستعين به كقاعدة ننطلق منها في تناول هذا العمل القامشلاوي ( موضوع الصورة ) . فبدون هذا الحقل المعرفي لن نفقه ما نحن فيه ولا أين نحن فيما يخص هذا العمل غيره ، وسنبقى نتخبط دون وعي بين أمواج القيل والقال .
– العلامة
لكل شيئ علامة دالة، نستطيع أن نقول المؤشر أيضا . لفهم العلاقة ( الرابط ) بينهم يجب معرفة كل منهم أولا على حِدى، كلنا بات يدرك معنى اللوحات المرورية الدالة المنتشرة على الطريق وعلى ماذا تدل. وهذا الأمر يجنبنا إختلاف الرأي في المدلول، إنما لا يمنعنا من الإختلاف في إتخاذ قرار الإذعان للقواعد المرورية من عدمه. فنحن نشكل مع محيطنا نسيجا متشابكا من العلاقات وهذه العلاقات مبنية على أنظمة مكونة من علامات أي أنظمة سيميوطيقية كما تقول فريال غزول .
من هنا نستطيع مؤقتاً أن ننظر بهدوء مرة ثانية إلى الصورة (راقصة الباليه في سوقٍ مغلقة إضطرارا ) وبعينٍ أوسع وأهدأ. سنجد فتاة تمارس حركات لرقصة ندرك ماهيتها جيداً ولكنها ليست من تراثنا وعلاوة أنها غير ممارسة في مجتمعنا المناطقي وغريبة على ثقافتنا المناطقية !؟ ولكن أيضا نشاهد سوق تجاري صامت صمت الموت !؟ .هنا أكتملت العناصر الشكلية للصورة وبات القبول أو الرفض خاضع للتأويل المبني أساسا على الوعي الثقافي (ثقافة المنطقة ) .
بناءً على ما سبق سيتفق الجميع المؤيد والمعارض ومن بوابة فرع معرفي ألا وهو الفن على أنها لوحة فنية جميلة وربما مبدعة كون للفن علامة مستقلة وتتمتع بخاصية أساسية هي قدرتها على لعب دور الوسيط بين أعضاء نفس الجماعة ، هذا السياق يحيلنا إلى مسارٍ أخر .
– الفن باعتباره حقيقة سيميوطيقة
أي عمل فني يشتمل على ثلاثة عناصر كدراسة موضوعية كما يفترض جان موكارفسكي ، العناصر الثلاث هي : 1- رمز محسوس خلقه الفنان . 2- المعنى ويقصد الموضوع الجمالي . 3- علاقة تربط بين العلامة والشيئ المشار إليه . وللعمل الفني ذاته وظيفة أخرى هي العلامة التوصيلية وأضع خطين تحت العلامة التواصلية كونها جلية في الأدب والرسم والنحت ولكنها ضعيفة جدا في فنٍ كالرقص وهنا مكمن الأشكال في التأويل والفهم الذي يعقبه اللغط ومن ثم التجاهل أو الإهتمام . فمن لم يتوصل إلى المغزى أختلفت رؤيته عن رؤية من أقترب من المعنى بشكلٍ أو أخر، تماما كالفرق بين النظر في لوحة طبيعية وأخرى سريالية. إذا العلامة التوصيلية هنا مبهمة وهذه تماما تشبه العلامة المستقلة التي لا تشير لشيئ محدد وبالتالي تعيق الفهم بين المُصدر والمتلقي، وهنا يطل السؤال ما حقيقة هذه الصورة ؟ ما هو المفهوم الغير محددالمراد من هذا العمل الفني ؟ الجواب ببساطة كما يقول موكارفسكي هو السياق العام لما يسمى بالظواهر الإجتماعية ( الفلسفة ، السياسة ، الدين، الإقتصاد ) مثالا. ويخلص إلى الحقيقة التالي : الفن أكثر قدرة على تمييز عصرٍ بذاته وأيضا تمثيله للظواهر الإجتماعية ، وهذا ما يفسّر بقاء الإختلاط ولفترةٍ طويلة بين تاريخ الفن وتالريخ الثقافة . وهذا يلجُنا قُدماً إلى فرع أخر هامة ومفصلي من فروع المعرفة .
– للثقافة واللاثقافة أيضا سيميوطيقا
لمصطلح الثقافة مفاهيم متعددة فهي بالتأكيد ليست نظاماً عالمياً إنما نظام فرعي يتشكل طبق نمطٍ مخصوص، الثقافة لا تنظم كل شيئ إنما تصوغ ميدان نشاط يتسم بخصوصيات مميزة . ( أوسبونسكي ) .
ويستطرد في دراسته أن السبل العديدة لتحديد الثقافة من اللاثقافة إنما تعود إلى أصلٍ واحد وهو :أن الثقافة في مقابل اللاثقافة تبدو نظاماً من العلامات . ونفس الشيئ إن تحدثنا عن مقومات الثقافة باعتبارها ( نتاج الإنسان ) في مقابلة ( الوجود الطبيعي ) .
بمعنى أن الثقافة هي الوعاء الشامل الذي تدخل فيه جميع نواحي السلوك البشري ، الفردي والجماعي . هذا السلوك الذي ينتج مجموعة من العلامات التي تشكل فيما بعد أفرع من أنظمة العلامات التي يستدل بها على أنماط الثقافة ، سواء في المكان والزمان الواحد أو في الأمكنة والأزمنة المختلفة ، وهذا هو مقصود ثنائية الثقافة واللاثقافة ، اي الخارج والداخل، عندنا وعندهم . كمثال : الثقافة السائدة في اليابان مثلا هي لا ثقافة بالنسبة للعالم العربي المتدين . وكمثال بعيد قليلا ، نظرة أوروبا لأفريقيا ، وهكذا ….
الثقافة باعتبارها نظام ديناميكي يتغير ويتطور باستمرار هذا يعني فرصة إنتاج أنماط ثقافية أخرى مختلفة عند السائد في أي مجتمع قابلة للتحقق ، بمجرد حلول أنظمة علامات جديدة مكان أنظمة علامات قديمة .
فيما سبق وبثقافتنا الموروثة كُرديا كان حضور أهل العروس حفل عرسها مرفوضا بالمطلق بل كان من يخالف هذا العرف قد أرتكب قبيحة وذنباً لا يغتفر، أما الآن فالوالد والوالدة يرقصان في عرس إبنتهما بكل سعادة وفرح . سقت هذا المثال كي أقول دعونا نختلف بوعي ، دعوا اختلافنا يكون سبب سموّنا ارتقائنا ، أختلاف إيجابي يكرّس الود بيننا وليس العداء والتشتت والانقسام .
وفي الختام يجب أيضا أن نفقه دلالات العلامات السينمائية ( العلامة الأيقونية ، الاتفاقية ، الكنائية ) لسهولة معرفة مدلول أي لقطة من خلال رابط ثقافة المنطقة أو اي منطقة ثقافية بعينها وليست لقطة راقصة البالية الكُردية نازك العلي فقط .
الفلسفة استطاعت إيصال الإنسان إلى خارج كوكبه بمساعٍ علمية من علماءٍ حقيقيون ، وإرادة قادة حقيقيون ، لذا لا أعتقد أن نجد فلسفة إنسانية مفيدة في أي مكانٍ يحكمه قطاع طرق مجرمون أو مافيات الفساد .